اليهود اليمنيون في إسرائيل... جرح لا يندمل

نظرة إلى أوضاعهم بعد عملية الإجلاء من صنعاء وريدة

اليهود اليمنيون في إسرائيل... جرح لا يندمل
TT

اليهود اليمنيون في إسرائيل... جرح لا يندمل

اليهود اليمنيون في إسرائيل... جرح لا يندمل

جلب مجموعة من اليهود اليمنيين إلى إسرائيل في عملية إسرائيلية – دولية في هذا الوقت بالذات ليس مصادفة أبدا، بل جاء للتغطية على أصداء التحقيقات الجديدة حول الأطفال الذين خطفوا خلال السنوات الأولى لقيام إسرائيل ويزيد عددهم على 10 آلاف، ومن ثم بيعوا لعائلات اليهود القادمين من أوروبا بعد «المحرقة النازية» (الهولوكوست) تعويضا لهم عن مأساتهم، أو بيعوا لغرض التجارب الطبية عليهم.
عملية الجلب، التي شملت يمنيين يهودًا من مدينة ريدة بمحافظة عمران (شمال شرقي العاصمة صنعاء) وصنعاء نفسها، أحاط بها لغط كبير خلال الأيام القليلة الماضية، كونها تمت تحت ستار من السرّية التامة، أسهم فيها طبعًا الوضع الأمني الاستثنائي الذي يعيشه اليمن.
ذات مرة، عندما كنت أسير في رواق داخل أحد مباني الجامعة العبرية في القدس لإلقاء محاضرة، التقطت عيناي كلمات عربية كتبت بأحرف عبرية. هما كلمتان في الواقع رسختا في الذاكرة «طالب الهوى»، وبسبب سرعة المشي وضيق الوقت لم يكن متاحا التعرّف على بقية الكلمات. عند العودة طلبت من مضيفي العودة عبر الرواق نفسه، حتى ندخل غرفة الصف. وإذا باللوح مليء بالأمثلة العربية المكتوبة كلها بأحرف عبرية: «طالب الهوى بعد الأربعين، ما عاد له حين»، «اطلب العلم من المهد إلى اللحد»، «ابنُ المُنى ما فيه هَنا». وشرح المضيف المسألة قائلا: «لدينا في الجامعة دورة مميزة لتعليم الأدب اليمني». ولماذا اليمني؟ لماذا ليس الأدب العربي؟ فأجاب: «يوجد لدينا فرع كامل لتعليم الأدب العربي. لكن هذه الدورة مخصّصة لليهود من أصل يمني وللمهتمين بتراث يهود اليمن. يدرسونه لمدة سنة ضمن دراسات اللقب الأول».
وبعد مزيد من الاستقصاء، اتضح أن جمعية صيانة وتطوير المجتمع والثقافة اليمنية في إسرائيل هي التي تقف وراء هذه الدورة، وذلك كجزء من نشاطها الدؤوب منذ عام 1970 لتخليد التراث اليهودي اليمني. ولقد اقنع رئيس ومؤسس هذه الجمعية، عوفاديا بن شالوم، وهو تاجر جواهر كبير، الجامعة بالفكرة ضمن مساعيه لإعادة المجد للطائفة اليمينية في المجتمع اليهودي في إسرائيل. وعندما تقول «إعادة المجد» وتستمع إلى قادة هذه الطائفة، تلمس لديهم غضبًا شديدًا على ما ضاع من هذا المجد. وفعلاً ضاع الكثير. أما المهرجانات الاحتفالية التي أقامتها حكومة إسرائيل قبل أيام، لإظهار الاغتباط باستقبال آخر 17 يهوديًا جاءوا من اليمن، والتي بثتها الفضائيات العالمية، لا تقنع اليهود اليمينيين في إسرائيل نفسها. ذلك أن هذه الشريحة من اليهود تشعر بأن قيادتها خانتها وطعنتها من الخلف وتركتها جريحة لسنين طويلة. والجراح لم تندمل، بل إن الاحتفالات تبدو وكأنها تنكأ الجراح من جديد.
يعيش في إسرائيل اليوم نحو 160 ألف يهودي من أصول يمنية، بينهم 113 ألفا ولدوا بعد قيام الدولة العبرية. ولا يشمل هذا الرقم أولئك الذين وصلوا إلى فلسطين قبل تأسيس إسرائيل، مع العلم بأن اليهود اليمنيين شكلوا نسبة 7 في المائة من السكان اليهود في ذلك الوقت.
وكما كان يهود اليمن معزولين، باختيارهم، عن بقية يهود العالم طيلة 2000 سنة مضت، فقد اختاروا التميز عن بقية الطوائف اليهودية أيضًا بعد هجرتهم إلى إسرائيل، فهم ليسوا من «اليهود الأشكناز» (الغربيون) وهم كذلك يرفضون اعتبارهم «يهودا شرقيين» ويصرون على تسميتهم بـ«اليهود اليمنيين».
لهم عادات خاصة بهم في اللغة وفي الطعام وفي الاحتفالات بالأعياد. وحتى صلواتهم تختلف بالشكل عن صلوات بقية اليهود. وكتاب التوراة الذي يعتمدونه مكتوب بخط اليد وكل صفحة فيه تضم 51 سطرًا وليس 42 سطرًا كما هو الحال في كتاب التوراة الذي تعتمده طوائف أخرى. أضف إلى ذلك أن اللغة العربية تدخل في صلواتهم أكثر من أية طائفة من اليهود العرب. وهم يسكنون في بلدات خاصة بهم أو أحياء خاصة بهم في البلدات الكبيرة ويحافظون على تلاحم مميّز. كما أنهم يتسمون بالتواضع.
لا زعامات بارزة
لا يوجد فيهم زعماء على المستوى الإسرائيلي السياسي العام. وعلى الرغم من أنهم يعتبرون قريبين من اليمين الإسرائيلي، فإن حكم اليمين لم ينصفهم، بل واصل اتباع سياسة التمييز ضدهم، كما هو حال المواطنين العرب (فلسطينيي 48) واليهود الشرقيين. ثم إن أعضاء البرلمان منهم قليلون جدا، لا يتعدى عددهم أصابع اليدين، وباستثناء النائب والوزير السابق العمالي يسرائيل كيسار (المولود في صنعاء) لم يكونوا في أي وقت بارزين.
أغنياؤهم محدودو العدد وغالبيتهم يعملون كادحين في الورش والمصانع أو المزارع. والشخصيات الأساسية لديهم تبرز في مجال الثقافة والدين والفنون. وإنجازاتهم تحققت عبر مصاعب غير قليلة.
تمسكهم بالتراث اليمني بات مميزًا أيضًا لدى الجيل الشاب. فمنذ سنوات السبعين، ترتفع أصواتهم الثقافية عاليًا. المطربة تسيبورا عُرقبي، التي كانت مديرة كبيرة في شركة الاتصالات الحكومية وتقاعدت لتتفرغ للغناء وتقوم بقيادة حفلات الزفاف وطلعة العروس والحنة على الطريقة اليمنية الأصلية، تشير بسعادة إلى نمو مجموعة من المغنين الشباب الذين يكملون الطريق: ناؤور قرواني وعومري كوهن وأبيعاد يحيى وتسيون غولان وغيرهم. وهناك الشاعران شالوم شابزي ود. رحيلي أبرهام، يتبوآن مكانة عالية في المجتمع الثقافي.
ثمة متحفان للتراث اليمني في نتانيا وفي راس العين. والأديب مردخاي يتسهار أصدر كتابًا يخلد فيه الشعر والأدب اليمين اليهودي، معتزا باقترابه الشديد من الأدب العربي.
يقول رئيس اتحاد مهاجري اليمن، الباحث الأكاديمي الدكتور موشيه ناحوم، إن اليمينيين في إسرائيل «تمكنوا من شق طريقهم بشق النفس. وحققوا على الصعيد الشخصي والجماعي الكثير من الإنجازات، خصوصًا في مجلي العلم والاقتصاد. ولكن هناك جرحًا مفتوحًا لدى كل عائلة يمنية تقريبا بسبب الجريمة التي لا تغتفر بحقهم، والتي يصرون على حقهم في إيجاد حل لها».
والجريمة التي يقصدها هي خطف نحو عشرة آلاف طفل من أبنائهم خلال هجرتهم من اليمن وحتى ما بعد ثماني سنوات على قيام إسرائيل. ففي حينه كان عدد من قادة الوكالة اليهودية، المسؤولة عن تهجيرهم من اليمن إلى إسرائيل، يشتغلون في الاتجار بالأطفال. فيخطفونهم من عائلاتهم بمختلف طرق الخداع ويبيعونهم لعائلات يهودية أخرى غنية مقابل 5000 دولار أميركي للولد. وقد بيع الأولاد في البداية لعائلات من تلك المهاجرة من أوروبا، بعد أن انتكبت بالمحرقة النازية التي أدارها ضد اليهود الألماني النازي أدولف هتلر، قبيل وإبان الحرب العالمية الثانية. وحسب عدة شهادات، فإن هذه العملية البشعة تمت في إطار الرأفة بضحايا النازية، ولكنها ما فتئت أن تحولت إلى تجارة بالشبر بكل معنى الكلمة. ثم صاروا يبيعون الأطفال للمستشفيات، لإجراء تجارب طبية عليهم.
منذ تلك السنوات واليهود اليمنيين يطالبون بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للكشف عن الجريمة والمجرمين ومعاقبتهم وإعادة الأولاد، لكن حكومات إسرائيل كانت تتجاهل وفي أحسن الأحوال أقاموا لجان صورية خرجت بنتيجة أن خطف الأولاد كان بمثابة بضع حالات فردية نادرة.
* تمرد يمني
في شهر مارس (آذار) من سنة 1994، قامت حركة لليهود اليمنيين تطرح هذا المطلب بطريقة أخرى، فوقف على رأسها رجل دين معروف يدعى عوزي أزولاي مشولم، الذي دعا إلى التمرّد. في بداية نشاطه دعا إلى مقاطعة الانتخابات. وراح يتهم الحكومة وقيادة الحركة الصهيونية بأنها «طغمة حاكمة تدير البلاد بطريقة المافيا». وعندما بدأوا يضايقونه ويلاحقونه، دعا إلى تمرّد عسكري، وتمكن من جمع مئات المؤيدين من بين الجنود والضباط اليمنيين اليهود، الذين تمترسوا في بيته، وهو عبارة عن مزرعة كبيرة في مدينة يهود الواقعة قرب مطار تل أبيب، عند مدينة اللد. وعندها هرع رئيس الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) دوف شلانسكي، من حزب الليكود، وابرهام فوراز، الوزير في الحكومة من طرف حزب «شينوي»، فالتقوا مشولم ووقّعوا معه اتفاقا تقوم بموجبه لجنة تحقيق برلمانية في قضية خطف الأولاد اليمنيين، وبالمقابل يتوقف التمرد.
وهنا بدأت نقاشات حادة في المجتمع الإسرائيلي تجاه هذه الخطوة ومغزى التفاوض مع متمرد كهذا. ورأت السلطات الإسرائيلية المؤلفة من غالبية أشكنازية، تحت قيادة إسحق رابين، أن هذا الحراك بالغ الخطورة وتخيّلت أن يتحوّل إلى أسلوب كفاح تتبعه بقية الطوائف المظلومة، خصوصا اليهودية منها. فالشباب اليهود كله، من كل الطوائف والملل، مجنّد في الجيش الإسرائيلي ويعرف أسراره ويجيد وسائل القتال ويمتلك السلاح. لهذا، بدأ التفكير في التراجع عن الاتفاق. وبدأت الشرطة تستعدي أنصار مشولم إلى التحقيق بتهمة التمرد. وردّ مشولم بإعلان التمرد العسكري من جديد. وهدّد بإطلاق النار على كل من يحاول اقتحام مزرعته. ووصف قيادة إسرائيل بأنها «عصابة إرهاب»، بل وقال إن «هتلر يبدو قديسًا أمام هؤلاء القادة». وعلى مدار أسبوع عاشت إسرائيل حالة توتر شديد.
وتصادف في تلك الفترة أن تم تعيين قائد شديد للشرطة الإسرائيلية، أساف حيفتس. فرأى أن هذه فرصته لاستعادة الهيبة إلى جهاز الشرطة. فاتصل شخصيًا بقائد التمرد، مشولم، واتفق معه على إجراء لقاء في فندق في المدينة وتعهد له خطيا بأن لا يحصل له أذى. وعندما وصل إلى الفندق، تم اعتقاله مع حراسه. بينما قامت قوات من الكوماندو بمهاجمة مزرعته الرصاص الحي، واصطاد قناصو الشرطة قائد العمل المسلح، شلومي أسولين، الذي كان قائدا لفرقة في لواء جولاني في جيش الاحتياط وقتلوه. وبعدها، حوكم جميع المشاركين في التمرّد وفرضت عليهم أحكام بالسجن تصل إلى 6 سنوات سجن. وفرض على مشولم السجن ست سنوات ونصف السنة، لكنه مرض في السجن وتوصل إلى اتفاق مع إدارة مصلحة السجون بأن يطلق سراحه مقابل التعهد بترك موضوع خطف الأطفال اليمنيين. وعام 2013 توفي مشولم، وهاجرت عائلته إلى كندا.
* مشكلة نتنياهو
لقد أقيمت في حينه لجنة تحقيق رسمية في موضوع خطف الأطفال، لكنها مثل سابقاتها توصلت إلى نتيجة بأن المسألة كانت فردية ومحدودة وليست سياسة رسمية. لكن يهود اليمن رفضوا التسليم بهذه النتيجة. وقبل بضعة شهور، بث فيلم تلفزيوني من 55 دقيقة حول موضوع مشولم، يوضح أن المسألة لم تحسم عند اليمنيين وأنهم يشعرون بتعميق سياسة الظلم والاضطهاد ضدهم. وظهرت عدة عائلات يمنية تتحدث عن مأساتها الشخصية بسبب خطف الأولاد، بطريقة تقطع القلوب.
وفي مطلع الشهر الحالي، صدر كتاب جديد أعده الباحث موشيه ناحوم، يؤكد بالوثائق والشهادات حقيقة خطف 12500 ولد وبنت، بينهم 10200 يمني في السنوات ما بين 1948 و1956 وإجراء تجارب طبية على 112500 طفل من اليهود الشرقيين، بينهم 13 ألف يمني وخطف 187 صبية يمنية. كما كشف أن يهود اليمن وثقوا يومها بموظفي الوكالة اليهودية فسلموهم كل ما يملكون تقريبا من جواهر وحلى ومخطوطات قديمة ثمينة وكتب، حتى يسلموها لهم عندما يصلون إلى إسرائيل لكن معظم هذه المواد لم تعد لأصحابها.
ويكتب ناحوم أن «هذا الجرح لم يندمل»، وأن أولاده وغيرهم من أبناء الجيل الجديد غاضبون أكثر منه على هذه الجريمة ويطرحون حلولا أكثر حدة وعنفا لفرض معالجتها ويصرون ليس فقط على معاقبة المجرمين، بل على فك لغز هذه الجريمة وإعادة المخطوفين.
بعد هذين الحدثين، الفيلم والبحث الجديد في كتاب ناحوم، جاء الإعلان الدرامي لحكومة بنيامين نتنياهو في مطلع هذا الأسبوع، عن جلب آخر من يريد من يهود اليمن الهجرة إلى إسرائيل. وهم 17 شخصا. وجاءت تصريحات نتنياهو عن حرص إسرائيل على أن تكون بيتًا دافئًا لليهود من جميع أنحاء العالم.
* خلفية تاريخية واجتماعية
* يقال إن أجداد يهود اليمن استقروا في اليمن منذ العهد التوراتي الأول. ويروي ابن اسحق أن اليهودية انتشرت هناك عبر أحبار جاء بهم آخر التبابعة تبّان أسعد أبو كرب. وحسب بعض المراجع فإن أبا كرب أعجب بغزارة علم حبرين من اليهود كانا قد ردعا حملة جردها على المدينة، فكانت النتيجة أن تهود وأخذهما معه إلى بلاد حميَر. ويذكر المؤرخ والجغرافي العربي المسعودي اسم التبّع بصورة مخالفة، ويروي الرواية أيضًا بخلاف ذلك، فيقول «.. ثم ملك بعده تبّع بن حسان بن كليكرب (أو تبّع بن حسان أبو كرب)، وهو الملك السائر من اليمن إلى الحجاز، وكانت له مع الأوس والخزرج حروب، وأراد هدم الكعبة فمنعه من كان معه من أحبار اليهود، فكساها القصب اليماني وسار نحو اليمن وقد تهوّد وغلبت على اليمن اليهودية، ورجعوا عن عبادة الأصنام وكان ملكه نحو مائة سنة».
ويعرض المسعودي لمن جاء بعده وهم عمرو بن تبّع ثم وليعة بن مرثد فأبرهة بن الصباح بن وليعة فعمرو بن ذي قيفان ثم ذو شناتر (وورد شناتير)، إلى أن يصل إلى يوسف ذو نواس بن زرعة بن تبّع الأصغر بن حسان بن كليكرب وهو صاحب «الأخدود».
بعد القضاء على ردة الأسود العنسي، حمى الإسلام يهود اليمن ومنحهم الأمان وضمن لهم حرية العبادة مقابل دفعهم الجزية. وتشير الوثائق اليهودية إلى أنه خرج من اليمن عدد من كبار العلماء والحاخامين والشعراء وازدهرت دراسة التقاليد الصوفية «القبلاه»، وفي المقابل نقل أمثال وهب بن منبه (654 - 732م / 34 - 114ه) وعبيد بن شرية (توفي نحو 686م / 67 هـ) إلى التراث العربي الكثير من الأخبار والقصص و«الإسرائيليات».
ولقد سيطر الأئمة الزيديون على الأوضاع الدينية في اليمن منذ القرن العاشر، واحتفظوا بالسيطرة السياسية المطلقة بين عامي 1917 و1962. وطوال عهدهم كان اليهود أبناء الطائفة الوحيدة غير المسلمة في البلاد. وتطورت شخصية اليهودي اليمني تبعا لواقع معين خاص أثرت فيه حتما طبيعة اليمن وجغرافيتها وصعوبة مسالكها فانعزل بعض الشيء عن الكثير من الظواهر التي عايشها اليهود في أماكن أخرى من العالم. ومع أن العادة درجت عند كثرة من المؤلفين الأجانب - خصوصا من ذوي الميول الصهيونية - على التحدث عن كلمة «ذمّي» بصورة سلبية، وعلى تركيز الاهتمام بحالات التمييز أكثر منه عند واقع الحماية وضمان ممارسة العبادة من دون حجر أو اضطهاد، فإن الجادين والموضوعيين من الكتاب تعرّضوا للحقائق كما عرفوها بحلوها ومرّها. وبالنسبة ليهود اليمن، كتب الكثير من الأبحاث عنهم، وتناولهم الرحالة والباحثون الاجتماعيون باهتمام. الباحثة الصهيونية جون كوماي تشير في متابها عن «الدياسبورا اليهودية» إلى أن موسى بن ميمون بعث عام 1160م، في أعقاب اضطراب ديني في اليمن، برسالة إلى يهودها مع زعيمهم الحاخام يعقوب بن ناثانيل الفيومي، حثهم فيه على الصمود في وجه الإمام والأفراد الذين يدعون أنهم «المسيح المنتظر» وذلك في سياق شرحها لعمق تدينهم وتصوفهم. وتذكر أن بين من ادعوا أنهم «المسيح المنتظر» في فترات متعاقبة وتسببوا في نقمة الأئمة على اليهود رجل اسمه شبطاي زفي في القرن الـ17 ويهوذا بن شالوم الذي لقب نفسه «شكر كحيل» ويوسف بن عبد الله في القرن التاسع عشر.
من ناحية ثانية قّدر ناثان أوسوبل في كتابه «التاريخ المصور للشعب اليهودي» عدد اليهود في اليمن عام 1926 بـ8000 عائلة أو 35 ألف نسمة. بينما قدّر الباحث هربرت لويس في كتابه «بعدما حطت العقبان: يمنيو إسرائيل» أن العدد بلغ قبل بدء الهجرة الجماعية إلى فلسطين - بين عامي 1949 و1950 - بأكثر من 50000 نسمة، كانوا يعيشون في نحو ألف مدينة وبلدة وقرية. وأضاف أن ربع هؤلاء كان يعيش في المدن الرئيسية وكانت أكبر تجمعاتهم في صنعاء (6000 نسمة) ورداع (2500 نسمة) وذمار (2000 نسمة)، وكذلك في عمران وصعدة وتعز وإب ومناخة ويريم، وكانوا عموما يقيمون في أحيائهم الخاصة.
على الصعيد الاقتصادي، اشتغل يهود اليمن غالبا بالحرف وخصوصا صياغة الفضة والذهب وسك النقود، وصنع السلاح وتصليحه، وصنع الخزف والفخار والحلوى والخبز والشراب والصابون والأحذية ودباغة الجلود وتصنيعها، والخياطة وحياكة المنسوجات والسجاد والصباغة والنجارة والحدادة والصيرفة والمعمار وزخرفة البيوت.. وما إلى ذلك من الحرف والصناعات اليدوية، بجانب التجارة على أنواعها.
ويشير هربرت لويس نقلا عن ج. وإيمان بري (يعود مؤلفه إلى عام 1915) إلى أن اليهود يملكون ويديرون أفضل متاجر صنعاء، ويضيف أن في أسواق اليهود كان يمكن شراء بضائع مستوردة من أوروبا، نقلا عن مصدر آخر يروي لويس أن يهوديا افتتح متجرا خلال العشرينات أو الثلاثينات كان يبيع فيه سلعا من روسيا واليابان. ومع أن كثيرين من اليهود عاشوا في فقر مدقع فإن بعضهم أثروا واكتسبوا نفوذا كبيرا، وتحكى في هذا المجال حكاية يهودي من مناخة صنع ثروة من تجارة البن خلال القرن التاسع عشر.
كما يتحدث الرحالة كارستن نيبور عن رجل من أسرة عراقي.. «فاز بحظوة عند اثنين من الأئمة وعمل لمدة 28 سنة بلا انقطاع مديرا للجمارك والمكوس ومديرا للمباني والجنائن، وكان يملك أحد أفخر بيوت صنعاء». ويشرح لويس أن هذا الرجل هو شالوم كوهين الذي جاءت أسرته إلى اليمن من مصر، ولعب في ما بعد دورا مهما في حياة اليهود في صنعاء واليمن، قبل أن يفقد حظوته ويسجن.
ولكن مع تنامي النفوذ البريطاني في بحر العرب، وتحوّل عدن إلى محمية بريطانية مهمة، بدأ الاتصال الغربي بيهود اليمن ومنطقة حبّان، في غرب حضرموت، لترغيبهم بالهجرة إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر.
وبحلول عام 1948 غادر نحو 18 ألف يهودي اليمن إلى فلسطين، وبين 1949و 1950 غادر السواد الأعظم مما تبقى من اليهود بواسطة عملية «البساط السحري» أو «على أجنحة العقبان» عبر عدن، الرازحة آنذاك تحت السلطة البريطانية. ولحق بهؤلاء 2000 مهاجر خلال فترة قصيرة ولم يتبق حتى العام الماضي (1993 / 1994) سوى بضع مئات هاجروا أخيرا.
يسكن اليهود اليمنيون اليوم في عدة أماكن في إسرائيل، أهمها القدس ورحوبوت ونتانيا وبتاح تكفاه، كما يعيش آخرون في أحياء ومستوطنات أحدث عهدا مثل أشدود قرب قطاع غزة وديمونا في النقب وكريات شمونة (على الحدود اللبنانية) وكريات إلياهو وكريات غات. ويبلغ عدد المواطنين الإسرائيليين المتحدرين من أصل يمني بأكثر من 165000 نسمة منهم 52000 مولودون في اليمن و112000 من أبوين يمنيين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.