كيف صنع كوروساوا أفضل اقتباس من ملحمة «الملك لير»

احتفى بشكسبير على طريقته

الممثل تاتسويا ناكاداي في دور الملك لير وإحدى معارك كوروساوا الكبيرة في «ران»
الممثل تاتسويا ناكاداي في دور الملك لير وإحدى معارك كوروساوا الكبيرة في «ران»
TT

كيف صنع كوروساوا أفضل اقتباس من ملحمة «الملك لير»

الممثل تاتسويا ناكاداي في دور الملك لير وإحدى معارك كوروساوا الكبيرة في «ران»
الممثل تاتسويا ناكاداي في دور الملك لير وإحدى معارك كوروساوا الكبيرة في «ران»

بمناسبة مرور 400 سنة على وفاة ويليام شكسبير (1564 - 1616) تقام احتفالات ثقافية وفنية حول العالم وخصوصًا في بريطانيا بلد المولد لهذا الكنز الأدبي الذي يعود إليه المسرحيون والسينمائيون بلا كلل أو تردد.
ضع أمام أي شركة إنتاج هوليوودية من التي تفرخ أفلام الترفيه الكوميدية والبوليسية على نحو متواصل، مشروع فيلم جديد مقتبس عن «هاملت» أو «كينغ لير» أو «ماكبث» تجدها توافق على توزيعه حال إدراكها أن العناصر الإنتاجية والفنية الأخرى تواكب مثل هذا المشروع.
بالنسبة لشكسبير.. الجمهور دائمًا هناك. منذ أن تم تحقيق الأفلام الأولى عن مسرحياته في عام 1900 مرورًا بأكثر من 620 اقتباسا معروفا مع 19 فيلما في مراحل مختلفة ما بين التصوير وما بعده سينطلق منها 12 هذا العام، والجمهور مهتم بمراجعة ترجمات سينمائية لتلك المسرحيات والنصوص الأدبية العملاقة. والذكرى الـ400 لوفاته خير مناسبة للسينما لكي تعيد تتويجه كأفضل روائي عالمي وأكثرهم شهرة.
لكن الاحتفال بشكسبير لا يتوقف عند حد صنع أفلام جديدة من «ماكبث» و«الملك لير» و«هاملت» و«الليلة الثانية عشرة» وسواها كما هو حاصل اليوم، بل واحد من أهم هذه الاحتفاءات هو إعادة عرض فيلم «ران» المأخوذ عن رواية «الملك لير» كما حققها المخرج الياباني الراحل أكيرا كوروساوا سنة 1985، الفيلم بعد ترميمه وتحديثه رقميًا سيشهد عروضه البريطانية في الشهر المقبل متيحًا لجيلين، واحد عاصر ذلك الفيلم حين تحقيقه، والآخر لم يلحق به على الشاشة الكبيرة، من مشاهدة تحفة سينمائية خالصة تليق بالمحتفى به.
نقل كوروساوا (الذي رحل عن 88 سنة، عام 1998) الأحداث إلى يابان القرن الثامن عشر. تلك الحقبة الزمنية التي طالما أحب الانغماس بتفاصيلها الإنسانية الخاصّة وهو الذي فتح المخزون الخاص بالهوية اليابانية نحو العالم كما لم يفعل أي من أترابه آنذاك مثل كون إيتشيكاوا وكنجي ميزوغوشي أو ياسوجيرو أوزو.
«ران» هو ذروة قدرات كوروساوا في التعبير عن الملحمة الكامنة في النص بمعالجة ملحمية قائمة بذاتها. الموازي البصري لإنجاز شكسبير الأدبي. والمخرج يختار أن يفتح فيلمه على أربعة فرسان يمتطون جيادهم ‫ ومن ورائهم قمم شاهقة لجبال خضراء كثيفة. الصورة ثابتة لثوان. هذه الثواني مكثفة، إنها تبدو اختصارًا لتاريخ ما قبل وصولهم إلى تلك اللحظة في ذلك المكان والزمان. حين تتحرك الصورة تبدو تلك الشخصيات وقد ولدت من صمت التاريخ وقطعت تلك المسافة بين أبعاد الماضي والوقت الذي بدأت فيه الأحداث. ‬
في المقابل فإن التصوير الداخلي يعتمد البساطة المطلقة في الديكور على عكس الاقتباسات البريطانية. هذه البساطة نراها تفيد المعنى الكامن في هذه التراجيديا إلى غير حدود. فالصراع على السلطة والقوة في نسخة كوروساوا هنا غير مزخرف بالثراء بل بحب القوّة.‬

دلالات عميقة
‫تضعنا افتتاحية كوروساوا المستمدة من ملاحظاته للنص وللصورة مباشرة وسط أسلوبه الخاص في العمل من حيث اعتماده على التعابير غير المباشرة وعلى ملكيته الفريدة في الدمج بين المؤثرات الغربية وبين البيئة التاريخية والتراثية اليابانية ما يضيف لقيمة العمل الأصلي بالمقدار الذي يتيح فيه ذلك النص الأدبي الإسهام في إثراء صورة وهوية ذلك الاقتباس.‬
‬في تفسيره وترجمته لـ«الملك لير» لم يسع كوروساوا لكسر القوالب المسرحية ذاتها. في الأساس هو ليس من المخرجين الذين يؤمنون بكاميرا متحركة على الدوام وبإيقاع سريع. الثراء والمتعة الفنية الرفيعة تجدهما في الصورة ذاتها، في الحركة أمام الكاميرا وليس معها، كما في الحدث الذي يحتل الزمن وليس في الزمن ذاته. وإن كان تجسيد هذه الشروط والمزايا يصير إبداعًا يقل مثيله في سينما اليوم مفصحًا عن صعوبة تنفيذ مثل هذه الاختيارات، فإن ما يوازي هذا الإبداع وتلك الصعوبة حقيقة أن عدم كسر كوروساوا للقوالب المسرحية لم يعن (هنا على الأخص) التقيد بالمكان واللون الأدائي للممثل، بل التمسك بالثقل الدرامي الكبير الذي جسدته مسرحية شكسبير ونقله ليناسب الأداء الياباني والتقليد الآتي من تاريخها وثقافتها العامة.
الحسد والضغينة وحب السلطة، الجنون والتيه كما الإخلاص والتفاني بقيت ذاتها كما وردت في مسرحية شكسبير كونها عناصر درامية وإنسانية عالمية، أما إضافات كوروساوا فهي إخراج هذه العناصر إلى العلن ممهورة بطابعه الملحمي والشاعري البعيد. بذلك أتاح المخرج لفيلمه جمالاً من الصعب وصفه، وبعدًا وعمقًا ودلالات تساعد غير المنظور من الأفكار وغير المسموع من التفاعلات النفسية على البروز.
أحد النماذج المهمة في هذا الشأن هو الفصل الذي تدور فيه رحى المعركة الأولى. السيد هيدتورا (تاتسويا ناكاداي) الذي تخلى عن قيادته (وليس عن مكانته) لابنه الأكبر تارو، يفيق صبيحة يوم على أصوات المعركة - لقد هاجم جنود تارو وجنود شقيقه جيرو القلعة التي أوى إليها والدهما مع جنوده قليلي العدد (30 جنديًا هم النخبة التي اختارها هيدتورا لنفسه) يقف هيدتورا إلى جانب النافذة المطلة على ساحة القلعة ومن النافذة نرى مئات الأسهم تطير من الاتجاهين المعاكسين. هنا يقطع كوروساوا الصوت (الصوت موجود في كل المشاهد الأخرى) لنرى عدة مشاهد من المعركة الضخمة بصمت. الكاميرا تزيد من ثراها. الدخان والغبار، النيران المشتعلة، الجموع المتقدمة، القتلى والجرحى، الجياد الواقعة، الحياة كلها وقت التلاحم مجسدة بصمت كامل دون أن تفقد شيئا من تأثيرها. لكن هذا الاختيار الذكي يستمر لنصف هذا الفصل من المشاهد فقط، إذ حين يصير من الضروري سحب المفادات وتجميع الخلاصات أو القبض على كل المعاني السابقة يعيد كوروساوا للفيلم صوته.
هنا تسمع أصوات كل تلك العناصر الحية ويضيف المخرج ثراء جديدًا فوق ثراء المشاهد السابقة خاصة أن تسجيل الصوت في فيلمه متقن ليس فقط في هذا الفصل بل في كل مشهد نراه. في هذا الجزء أيضًا نرى جنود السيد هيدتورا وهم يبذلون دفاعًا عن سيدهم. إنهم القلة المنتخبة والشجاعة في مواجهة أعداد أكبر بكثير، ولا يخفي كوروساوا إعجابه بهم حين يتساقطون أمام نيران أعدائهم. وإذ يخرج السيد هيدتورا لاحقًا من بين النيران التي كانت تأكل القلعة كلها يضع الفيلم فاصلاً أساسيا بين ما سبق وما تبع يلائم في أهميته الروع الذي أصاب هيدتورا وهو يكتشف فداحة خطئه أو لنقل إثم ولديه.
مثل شكسبير، فإن ‫كوروساوا شاعر العنف الكبير ولأنه شاعر وليس ناقلاً فإن هذا العنف ليس دمًا وأمعاء ومتشوهات، بل لوحات عن قسوة الإنسان وقسوة الحرب وقوة الموت. مشاهده تجسيد مرعب للحظات الفاصلة بين الحياة والموت، تلك اللحظات التي تبدأ وتنتهي سريعًا لكنها تدوم، داخل الحي - الميت، زمنًا يكفي لضم العالم في صور وذكريات. إدراك الموت لحظة وقوعه هو بعض مما تبعثه شاشة كوروساوا حين تصور تلك المعارك مهما كان دور القتيل ثانويًا.‬



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.