المعارك الصغيرة تعصف باتحاد كتاب مصر

أكثر من نصف مجلس إدارته استقالوا وسط اتهامات بالتخوين

مدحت الجيار أمين المالية  -  علاء عبد الهادي  -  محمد سلماوي  -  أحمد سراج
مدحت الجيار أمين المالية - علاء عبد الهادي - محمد سلماوي - أحمد سراج
TT

المعارك الصغيرة تعصف باتحاد كتاب مصر

مدحت الجيار أمين المالية  -  علاء عبد الهادي  -  محمد سلماوي  -  أحمد سراج
مدحت الجيار أمين المالية - علاء عبد الهادي - محمد سلماوي - أحمد سراج

مشهد مؤلم يعيشه اتحاد كتاب مصر منذ عدة أشهر، غابت فيه لغة الحوار الجاد من أجل المصلحة العامة، بينما ارتفعت وتيرة التخوينات والتواطؤات والاتهامات والشتائم بين أعضاء مجلس إدارة الاتحاد المكون من ثلاثين عضوا، وبعضها وصل إلى ساحة القضاء، حتى أن المجلس نفسه لم يستطع وسط هذا الاحتراب أن يجتمع لمرة واحدة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة تضع مصير الاتحاد في مهب الريح، إن لم يتم تدارك الموقف، واستعادة الاتحاد لهويته الممزقة، ودوره المفتقد في الساحة الثقافية.
تعرض الاتحاد منذ إنشائه في سبعينات القرن الماضي، لهزات، لكنها كانت رد فعل، لتردي الأوضاع الثقافية، وموقف السلطة ووزارة الثقافة، حيال بعض الأحداث الثقافية، مثل استقالة الكاتب الروائي بهاء طاهر من عضوية مجلس الاتحاد في عام 2000، بعد أن أدرك أن وجوده في مجلس إدارة اتحاد الكتاب على مدى ثلاث سنوات «لم يحقق ما كنت أتمناه، من اتحاد قوى ومستقر وفعال».
لكن لم يحدث في تاريخ الاتحاد أن يستقيل هذا الكم من أعضاء مجلس إدارته، والذي وصل إلى نحو عشرين عضوا، من أصل 30 عضوا يتكون منهم المجلس، ومن بين المستقيلين نائب رئيس الاتحاد، وأمين الصندوق، الأمر الذي من شأنه أن يعطل منظومة الخدمات التي يقدمها الاتحاد لأعضائه وعلى رأسها المعاش الشهري لمن بلغوا السن القانونية للتقاعد عن الوظيفة، وأيضا التأمين الصحي، ما يعني بحسب خبراء قانونيين أن شرعية المجلس أصبحت منتهية، فطبقًا للمادة 42 من قانون الاتحاد، يصعب عقد مجلس الإدارة للبت في قبول أو رفض أي استقالة سابقة، ولا ينعقد المجلس كما تنص المادة المذكورة إلا بحضور بأغلبية أعضائه، وهو لن يتحقق في ظل استقالة أكثر من نصف أعضاء المجلس، لذلك يلزم الدعوة لانعقاد جمعية عمومية طارئة، وإجراء انتخابات يتم من خلالها اختيار مجلس جديد.
صورة الاتحاد المهلهلة لا تخلو من إشارات دراماتيكية موجعة، بل تكاد تكون نسخة مصغرة لأوضاع الثقافة المصرية المضطربة بشكل عام، والتي فشلت حتى الآن في أن تنتج فعلا ثقافيا حقيقيا، يشد هموم المبدعين، ويلتفون حوله من أجل مستقبل خصب، يعتد بالتنوع والحوار الخلاق بين شتى التيارات والمشارب الثقافية والإبداعية.
تزداد هذه الصورة انقساما وإيلاما، حين تتكشف حقيقة الصراع في هذه الاحتراب، وهو أنه صراع أشخاص وشللية، وجماعات مصالح وولاء، والخاسر الأكبر هو الاتحاد نفسه، فبدلا من العمل على تطويره ودفعه كمؤسسة مهنية مستقلة تحمي الكتاب والمبدعين، يتم النهش فيه، على هذا النحو الذي لا يليق بأعضاء اتحاد كتاب، يمثلون - من المفترض - ضمير المجتمع وعقله الحر.
الكاتب الروائي والمسرحي الشاعر أحمد سراج عضو اتحاد الكتاب يفند كواليس الأزمة لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «يعاني اتحاد الكتاب ما تعانيه نقابات ومؤسسات كثيرة في مصر، فلقد تم تحويلها ليكون رؤساؤها ألسنة للأنظمة، وبعد الثورة بدأ هؤلاء الرؤوس يتوارون، ويحاول من يأتي خلفهم أن يرث المهمة أو يحور فيها، فيما تعاني البنية الداخلية لها من التشويه بفعل وجود عناصر ضعيفة ترى في قربها من النظام شرعنة لوجودها، هذا غير امتلاء الفضاء بالعناصر الطفيلية التي تقوم بالاستفادة المستمرة من هذه الأداءات المشبوهة، ويقاوم كل هؤلاء أي محاولات إصلاحية أو تجديدية من شأنها النهوض باتحاد الكتاب».
ويحمل سراج مجلس إدارة الاتحاد المسؤولية قائلا إنه «تم ضرب مركز قيادته الرئيسي، فصار الاقتتال والتطاحن، والمضحك المزري: استخدام الاتهامات نفسها والأسلحة ذاتها»، مشيرا إلى أنه منذ عام تقريبا ترك سلماوي الاتحاد على جرف هارٍ، وأن الاتحاد تواجهه أزمات أصحاب الهوى والانتماءات المشبوهة، لكنني لم أتوقع أن يكون أداء رئيسه بهذا السوء والديكتاتورية والاختلال بما دفع أعضاء لتحرير محاضر سب وقذف له». ودعا زملاءه في ائتلاف التغيير إلى تقديم استقالة من المجلس.
أصابع الاتهامات في كل هذا الغبار موجهة إلى الدكتور علاء عبد الهادي رئيس الاتحاد، الذي تولى المنصب خلفا للكاتب محمد سلماوي، حيث يرى معظم أعضاء الاتحاد أنه يتجاوز سلطاته ويخالف القانون، ويعطل انعقاد الجمعية العمومية الدورية للاتحاد والمقرر لها شهر مارس (آذار) من كل عام.
وردا على قرار عبد الهادي بتصعيد نفس عدد الأعضاء المستقيلين من الأعضاء الذين خاضوا الانتخابات الأخيرة ولم يحالفهم التوفيق أصدر عدد من أعضاء مجلس إدارة الاتحاد منهم، محمد السيد عيد، الدكتور مدحت الجيار، الدكتور شريف الجيار، ربيع مفتاح، مصطفى القاضي، عبده الزراع، حمدي البطران، بيانا أكدوا فيه أن رئيس الاتحاد يتجاوز سلطاته التي حددها القانون، وقال البيان: يواجه اتحاد الكتاب هذه الأيام عدة أزمات، أهمها استقالة نحو عشرين عضوًا من مجلس الإدارة، الذي يبلغ عدد أعضائه ثلاثين عضوا. ويترتب على هذا الوضع سؤال حيوي هو: ما الحل؟ الدكتور علاء عبد الهادي أراد أن يحل هذه المشكلة فصنع مشكلتين، الأولى: أنه أعطى نفسه حق قبول استقالة الأعضاء الذين تقدموا باستقالاتهم، والثانية: أنه قرر تصعيد نفس عدد الأعضاء المستقيلين من الأعضاء الذين خاضوا الانتخابات الأخيرة ولم يحالفهم التوفيق. وهذا تجاوز من علاء عبد الهادي لسلطاته التي حددها القانون على وجه القطع، وهي: 1 - توجيه الدعوة للجمعية العمومية لدور الانعقاد العادي وغير العادي ورئاسة الجمعية العمومية وإعداد جدول أعمالها. 2 - تمثيل الاتحاد لدى الغير وأمام القضاء. 3 - القيام بجميع الأعمال القضائية التي يتطلبها وضع قرارات مجلس الاتحاد موضع التنفيذ. 4 - مباشرة الأعمال التي يفوضه فيها مجلس الاتحاد.
ورفض البيان تعلل عبد الهادي بأنه يطبق المادة 32 من قانون الاتحاد، موضحا أنه لم يكلف القانون رئيس المجلس بذلك، بل أناط بالمجلس كله أن يقوم بعملية الاستبدال، كما تنص المادة رقم 37 من قانون الاتحاد.
على الصعيد نفسه كون أعضاء بالاتحاد بقيادة الشاعر محمد ثابت السيد جبهة أطلقوا عليها «جبهة إنقاذ الاتحاد»، وجمعوا أكثر من توقيع مائة عضو بالاتحاد لعقد جمعية عمومية طارئة كما ينص القانون، وطالبوا بسحب الثقة من علاء عبد الهادي رئيس الاتحاد، مؤكدين أنه «بتوقيع 16 عضوا من مجلس الإدارة بسحب الثقة منك أصبحت معزولاً من رئاسة مجلس الإدارة».
وكان عبد الهادي أصدر بيانا مطولا فند فيه تصعيده لعدد من الأعضاء بديلا عن الأعضاء المستقيلين، رافضا عدولهم عن استقالاتهم، مؤكدا أنها «محاولة منهم للرجوع بالاتحاد ثانية إلى نقطة الصفر، وإرجاع الصراع على السلطة فيه إلى نقطة البداية». وقال البيان إنه «لا يوجد في قانون الاتحاد كله أو لائحته ما يلزم رئيس نقابة على عرض استقالات (غير مسببة)، على مجلس (لا يمكن انعقاده أصلا)، لأن عدد المستقيلين منه - قصدًا - جاء أكبر من نصف أعضائه! هنا تصبح القاعدة القانونية التي تجبرنا على تصعيد أعضاء جدد لمصلحة جموع الأعضاء، وحماية مصلحة المكان والمكانة ومن ينتمون إليهما واجبة التطبيق».
وتعهد عبد الهادي بالوقوف ضد «أي محاولة لإسقاط الاتحاد في أيدي جماعة من المقامرين بمصيره». وقال: «سنقدم خلال أيام في بيان كشف حساب كامل عن منجزات العام المنصرم، بالأرقام والمستندات، عاقدين العزم على المحافظة على حقوق الأعضاء من معاش وعلاج وإعانة، باذلين كل جهد لاستيفاء شروط انعقاد الجمعية العمومية العادية القادمة في أسرع وقت».
هذا المشهد المؤلم ليس وليد اللحظة، بل فيما يبدو وليد صراعات تم تجميدها، منذ تشكيل المجلس عقب الانتخابات التي جرت قبل نحو عامين، وهو ما يكشف عنه أحمد سراج قائلا: ما الذي جرى؟ تحالف الدكتور علاء عبد الهادي مع جمال التلاوي وأعطى كل منهما الآخر صوته وأصوات من معه.. ثم اتهم عبد الهادي التلاوي بأنه إخواني، وبأنه ضد الدولة.. فيما سعى التلاوي إلى تأليب المجلس على عبد الهادي للإطاحة به وترشيح نفسه رئيسا. ولم يستطع عبد الهادي أن يصل بمجلس الإدارة إلى الاجتماع مرة واحدة خلال ثلاثة أشهر.
ووصف سراج لعبة السلطة في الاتحاد قائلا بأنها تكمن في: تحرك السيناريو بين محاولة عبد الهادي الانفراد بالأمر ومحاولة الأطراف الأخرى للإطاحة به حتى تقدم 18 عضوا من إجمالي 30 بالاستقالة، وهنا وبحكم نص القانون الواضح فالأمر بحاجة إلى التصعيد إلى الجهة المسؤولة إداريا عن الاتحاد، لأن مجلس الإدارة بأغلبية هو من له الحق في قبول الاستقالة.. لكن قام عبد الهادي بالتغول على قانون اتحاد الكتاب فصعد 16 عضوا (لأن هناك استقالتين مسببتين تلزمانه بالتحقيق قبل قبولهما) وهذا ليس من صلاحياته المنصوص عليها..
وفسر سراج تراجع بعض مقدمي الاستقالة عنها، بأنهم بدأوا يعدون لإسقاط عبد الهادي عبر أغلبية، فيما يسعى التلاوي لإعادة الوضع إلى ما قبل الاستقالة مع سجن عبد الهادي في منصب صوري، أما حزين عمر فيصر على أن يكون رئيسًا للاتحاد.
ويخلص سراج إلى أنه: وفقا للقانون فقد دعا أعضاء إلى جمعية عمومية غير عادية ووقع على الطلب مائة عضو وثلاثة، وسلم الطلب المحامي فاروق عبد الله لمدير الاتحاد بما يلزم بعقد جمعية خلال 45 يوما من تسلمه الإخطار.
ويرى سراج أن الحلول كلها تصب في انتخابات جديدة، لكن يبدو من الواجب عزل أعضاء المجلس المتورطين في مخالفات الميزانية والتزوير لحين بت الجهة المختصة، محملا عبد الهادي، رئيس الاتحاد مسؤولية ما يجري في قائلا: «أخطأ عبد الهادي، حين اعتبر أنه بحكم منصبه صار الدولة ومن يعاديه فهو إخواني مخرب، ومن يؤيده، فهو وطني شريف».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!