في صمت.. وبهدوء.. وبعيدا عن الأضواء، أعطى فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي وحكومته التوافقية، الضوء الأخضر للجنة أمنية عليا في طرابلس، من أجل العمل على حل مشكلة الميليشيات المسلحة التي يرفض بعضها السماح له بمباشرة أعماله وأعمال حكومته من العاصمة. إن الرجل يهيئ الأرض بعيدا عن الأضواء. هذا ملمح مهم في شخصيته.
في حديثه لمجموعة مقربة منه، لا يفضل السراج إطلاق استخدام اسم الميليشيات أو الكتائب، كما هو معتاد في بعض وسائل الإعلام. هو يحبذ وصفها باسم «المجموعات المسلحة»، حتى لا يغضب أحدا. لكي تحل المشاكل الكثيرة عليك أن تضع اعتبارات و«تكتيكات». بعد ساعات من إعلان نيته التوجه للعمل من داخل العاصمة، استقبل السراج في مقر إقامته في تونس، مندوبين من عدة جهات ليبية لبحث ترتيبات الوضع في البلاد التي تعاني من الفوضى والاقتتال منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.
دخل السراج من تونس في حوار عبر وسائل التواصل الإنترنتي، مع مؤيدين للحكومة في طرابلس، من بينهم مجموعة «من أجلك ليبيا»، التي اشتركت في جولات المفاوضات منذ بدايتها.. مفاوضات جرت وتعثرت ونهضت لمدة نحو 18 شهرا برعاية الأمم المتحدة. مها سليم، وهي من أعضاء مجموعة «من أجلك ليبيا» التي يقع مقرها في شارع بن عاشور في العاصمة، تقول لـ«الشرق الأوسط»: «نحن مجموعة منظمات مجتمع مدني نرى الوضع الصعب الذي يمر به الشعب الليبي. نؤيد حكومة التوافق. ونأمل أن نطوي صفحة الماضي، ونبدأ من جديد، من أجل بناء مستقبل أفضل للجميع».
السيدة مها سليم تمثل، في هذه المجموعة، منظمتها التي يقع مقرها في شارع ميزران بالمدينة، وهي منظمة معنية بحقوق الإنسان اسمها «المواثيق». وعلى كل حال، كما يرى كثيرون هنا، سيكون على السراج تخطي الكثير من العقبات والعراقيل، على رأسها مشكلة عدم عقد جلسة برلمانية لمنح الثقة لحكومته.. منح الثقة خطوة معتادة وأساسية في كثير من نظم الحكم. كما أن منح الثقة أمر منصوص عليه في النصوص الدستورية التي تعمل بها سلطة مجلس النواب المنتخب من الشعب في صيف عام 2014. يعلم السراج أيضا أن هناك مشاكل أخرى يتطلب إيجاد حلول لها مسألة وقت. منها رفض بعض المسلحين في العاصمة السماح لفريقه بالعمل انطلاقا من طرابلس.
يحظى السراج بتعاطف من قطاعات في الشارع الليبي خاصة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية. ومن لجان شبابية وحقوقية أخرى تؤيد الحكومة، يقول حسين المحمودي أحد النشطاء الحقوقيين ممن وقفوا مع الحوار: أعتقد أن فكرة «التوافق» هي التي تتغلب على السيد السراج.. سيكون هذا منهاج عمله وهذا ما نأمله. السراج لديه القدرة، ونحن نثق في ذلك. يسود الاعتقاد في أن السراج، بفريقه الرئاسي والحكومي، يمكنه جمع الفرقاء الليبيين في طرابلس وفي طبرق وبنغازي، حول تفاهمات بشأن تقسيم الأدوار لخدمة الدولة، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى تخص شخصيات عسكرية وأمراء حرب.
ووفقا لمصادر في العاصمة، فإن المفاوضات الجارية تشمل أطرافا مختلفة من الشرق والغرب، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفاهم سريع حول مستقبل المؤسسة العسكرية في الشرق والمسلحين في الغرب. وبالتالي فتح باب الأمل للحكومة الجديدة. الاتصالات الجارية حول تأمين الحكومة تشمل أيضا مشاورات مع أطراف إقليمية ودولية، من أصدقاء ليبيا.. يمكن أن يسفر ذلك عن استقبال السراج وفريقه الرئاسي والحكومي في منطقة محمية، أو ما يطلق عليه البعض «المنطقة الخضراء». هذا اقتراح موجود بالفعل ويمكن أن يكون موقع «المنطقة الخضراء» قرية سياحية محصنة في ضاحية جنزور بالعاصمة.
ولد السراج عام 1960 في طرابلس. وينتمي لعائلة عريقة ومحافظة أثَّرت على نشأته الهادئة ومسيرته السلسة، إضافة إلى طبيعته الصبورة والمثابرة.. تقول السيدة سليم إنها تدعم الحكومة بشكل متكامل، وليس لشخص السراج وحده.. تضيف أنها حضرت لقاءات معه منذ بداية جولات الحوار في عدة بلدان كان من بينها الصخيرات المغربية. خلافا للاعتقاد الذي يردده البعض بأنه كان منعزلا عن أعضاء البرلمان، حيث إنه عضو فيه، تقول السيدة سليم: يمكنني القول إن السراج «رجل متزن ويفتح الفرصة للتفاهم مع الجميع وبين الجميع. كما أنه ليس منغلقا على نفسه».
رئيس حكومة التوافق ليس غريبا عن عالم السياسة والحكم، كما يقول الناشط المحمودي. فوالد السراج عاش في شبابه الزخم القومي الذي كانت تمر به المنطقة، خاصة بعد صعود جمال عبد الناصر على رأس السلطة في مصر، وانشغال الليبيين بتأسيس دولة الاستقلال ووضع الدستور الجديد للبلاد في بداية الخمسينات. ينظر كثير من السياسيين والنشطاء الليبيين للسراج على اعتبار أنه تأثر بوالده الذي يعد من المؤسسين لدولة ما بعد الاحتلال الأجنبي. فقد شغل والده في ذلك الوقت عضوية مجلس النواب الليبي ومواقع وزارية خلال العهد الملكي.
جرى اقتراح اسم السراج للمنصب الجديد، بعد نحو 18 شهرا من المفاوضات المكوكية لحل الأزمة برعاية الأمم المتحدة. لم تكن محاولة سهلة، في بلد غير متمرس على الاختلاف السياسي ويعج بالسلاح والمسلحين. السراج نسيب عائلة تاريخية معتبرة من بلدة مصراتة التي لها كلمة على قسم من ميليشيات طرابلس، ولهذا، كما يفيد مصدر مقرب من المجلس الرئاسي: «نجت اللجنة الأمنية في إيجاد أرضية مبشرة للتفاهم في طرابلس».
عمليا، يواجه السراج تمسك الحكومتين اللتين تعملان في البلاد، بموقعيهما، حيث إنهما ترفضان التخلي عن العمل وتقفان ضده. الحكومة الأولى هي المنبثقة عن البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، وهي برئاسة عبد الله الثني، ويطلق عليها اسم «الحكومة المؤقتة». والثانية منبثقة عن المؤتمر الوطني المنهية ولايته (البرلمان السابق)، وهي برئاسة خليفة الغويل، ويطلق عليها «حكومة الإنقاذ». يأتي هذا بينما توجد في يد السراج ورقة ضغط مهمة مستمدة أساسا من أوروبا والأمم المتحدة، وهذه الورقة تتلخص في تلويح المجتمع الدولي بفرض عقوبات رادعة ضد معرقلي عمل حكومة التوافق.
طوال الخطوات الصعبة التي قطعها الحوار في ليبيا، وحتى نهايته، وقفت دول منها تركيا وقطر والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا ومصر وغيرها، مع هذه الجهود أملا في إيجاد حكومة تنهي الفوضى وتتفاهم مع المجتمع الدولي بشأن مواجهة تنظيم داعش. رحبت كل تلك الدول بـ«اتفاق الصخيرات» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ودعت الليبيين إلى الموافقة عليه.
مثل الكثير من القيادات الاجتماعية النسائية والشبابية التي تقف مع الاتفاق الليبي ومخرجاته، تقول مها سليم: نحن لم نؤيد الحوار فقط، بل أخذنا الموضوع بشكل جدي، وبدأنا من داخل الحوار منذ انطلاقه. عكفنا على الكثير من الملفات، واليوم نسعى لرؤية النتيجة، ولهذا أتمنى من الله أن يكتب النجاح للاتفاق السياسي الليبي والمؤسسات المنبثقة عنه، لكي تضع نهاية لمعاناة المواطنين الليبيين.. «توجد مشكلة في السيولة المالية، والناس بشكل عام أصابها اليأس، ونحتاج لأفق جديد».
تخرج السراج في كلية الهندسة (قسم العمارة) في طرابلس عام 1982. ثم استكمل دراسة الماجستير (في إدارة الأعمال) عام 1999 في وقت كان فيه نظام القذافي يخضع لعقوبات دولية، ويقف بصرامة ضد معارضيه، لكن السراج تمكن من تجنب إثارة غضب النظام ولم يعرف له نشاط سياسي يذكر، على عكس كثير من حكام الدولة الجدد ممن لجأوا إلى أوروبا أو قاسوا الأمرين في سجون النظام السابق.
عمل السراج في عهد القذافي في صندوق الضمان الاجتماعي في طرابلس، ولذلك من السهل أن ينتقده من يرفضون تكليفه بحكومة التوافق على أساس أنه «ليس سياسيا مخضرما في ظروف تحتاج لسياسي محنك».
هل سيكون السراج قادرا على قيادة السفينة؟ يقول المحمودي والذي يروج مع مجموعات شبابية أخرى في العاصمة للحكومة التوافقية، ويتواصل مع أعضاء في مجلسها الرئاسي: المواطن الليبي لم يعد لديه اليوم رفاهية الانتظار. لقد مل من طول الجدل بين طرابلس وطبرق وبين المؤتمر الوطني والبرلمان وبين المجموعات المسلحة والجيش. الاتجاه العام اليوم مع الاستقرار.. أي مع توفير الخبز والكهرباء والبنزين. أعتقد أن السراج لديه القدرة على استقطاب الجماعات التي سارعت برفض وجوده في طرابلس أو تلك التي لا تريد لبرلمان طبرق أن ينعقد لمنحه الثقة. هو يعمل على تسوية هذه الملفات دون صخب.
منذ البداية، وفي أول كلمة له موجهة لليبيين، قال السراج: لن تكون بعد اليوم حرب. انتهى زمن الحروب والاستقطاب بين الإخوة. لن أسعى لاستخدام القوة أو التلويح بها. شعاري تعالوا نعمل فسيرى الله عملنا والمؤمنون. لن أهدد ولن أقصي. أمامي لاجئون في الداخل والخارج. أمامي اقتصاد منهار، وارتفاع في الأسعار. أمامي أمن وأمان مفقود. أمامي شعب سيحاسبني الله عليه يوم القيامة إذا أغفلت عن خدمتهم يومًا ما. أمامي مصالحة وحوار وحروب وفتن يجب أن تخمد فورًا. أمامي إرهاب وخطر التطرف ولن أقف صامتًا عنه.
لم يكن السراج وحده في حوار الصخيرات. كان معه قيادات من الغرب والشرق، ظهروا في وسائل الإعلام، لكن يبدو أن رئيس الحكومة الجديد سيجد دعما غير محدود من جانب منظمات المجتمع المدني. يوم أول من أمس التقى السراج في تونس مجددا باثنين من مجموعة «من أجلك ليبيا» كما التقى هؤلاء بباقي أعضاء المجلس الرئاسي.
تقول مسؤولة جمعية الميثاق لحقوق الإنسان، إنها والشخصيات الاجتماعية الأخرى التي تسعى لإنهاء الأزمة الليبية، تقدموا خلال مشوار الحوار بمقترحات في المسودة الأولى والمسودة الثانية للاتفاق. لكنها تضيف أن «حكومة الوفاق الوطني تواجه تحديات صعبة، لا يمكن حلحلتها لوحدها من دون الدعم والمساهمة من جميع القوى الحية في المجتمع المدني».
وعن قضية عدم وقوف السراج وحكومته أمام البرلمان لكسب ثقته أولا، بأغلبية الثلثين زائد واحد، يرى الكثير من النشطاء الليبيين أن هذه ليست مشكلة بعد أن وقع أكثر من هذه النسبة من نواب البرلمان على تأييد الحكومة. وتقول مسؤولة جمعية الميثاق لحقوق الإنسان: لن تكون هناك مشكلة.. أنا مع المائة نائب الذين أعطوا الموافقة للحكومة، لكن لا يخفى على أحد أن هناك من يسعى لعرقلة دعم الحكومة. وتضيف قائلة إن النقطة الأهم أننا «مجموعة تعمل على مساعدة ومساندة من يحترم ويقدر معاناة المواطن وتضحيات هذا الشعب ومطالبه المتواضعة والإنسانية في تأسيس دولة المؤسسات».
ووفقا لمصادر عسكرية تعمل في «المجموعات المسلحة» في طرابلس، فإن مفاوضات اللجنة الأمنية برعاية السراج، تشمل الكتائب والميليشيات، سواء القيادات التي لديها «شرعية تابعة للدولة» أو ليس لديها هذه الشرعية.. «السراج كان حريصا على أن تضم اللجة الأمنية ضباطا من الجيش والشرطة في العاصمة. هم يقومون حاليا بنوع من الحوار مع المجموعات المسلحة. من المستحيل أن تدخل الحكومة إلى طرابلس دون الوصول لحل مع هذه المجموعات.