صمت الحداثة.. حكاية الصمت

سردية النص تتيح بحبوحة من التعبير أكبر من تلك المتاحة للقصيدة

TT

صمت الحداثة.. حكاية الصمت

في مقالتين سابقتين عرضت لبعض الملاحظات حول ظاهرة الصمت في أدب الثمانينات الذي عرف بأدب الحداثة في السعودية، فقدمت تمهيدًا تاريخيًا ونظريًا موجزًا لتلك الظاهرة في المقالة الأولى، وتناولت نصًا شعريًا لخديجة العمري في المقالة الثانية، وهنا، في الحلقة الأخيرة من هذه المقالات، أتناول قصة قصيرة تمثل تمظهرًا آخر للصمت على المستوى السردي.
القصة التي أشير إليها هي للكاتب السعودي محمد علوان وعنوانها «الخبز والصمت»، العنوان الذي تحمله أيضًا مجموعته القصصية الشهيرة التي صدرت أواخر السبعينات. تتمحور القصة حول شاب يأمره والده بالزواج فيصمت برهة ثم يقرر أن يرفض، وبين الأمر والرفض بـ«لا» يتحرك السرد عبر أحداث وتأملات يهيمن عليها مونولوج داخلي، أو حوار الشاب مع نفسه قبل اتخاذ قرار الرفض وبعده، لتنتهي القصة بالنتيجة المتوقعة لرفض السلطة، أي غضب الأب. عنوان القصة، وعنوان المجموعة من ثم، يصنع توترًا مبدئيًا بين الخبز بوصفه رمزًا للنعمة والرعاية والصمت الذي يتضح أنه الثمن المطلوب لتلقي النعمة والرعاية. الأب هو مصدر العطاء وعلى بقية أفراد الأسرة في القصة أن يصمتوا عندما يتحدث الأب أو يأمر. والتوتر المشار إليه هو الذي تفجره كلمة «لا» العاصية، «لا» الرفض والخروج على الطاعة التي يمارسها الابن أمام أبيه.
قبل التمرد يمارس الابن ما يمارسه الجميع، أي الصمت، وهو صمت سيميائي قبل أن يكون معلنًا، بمعنى أنه صمت تشي به دلالات التعبير التي يستقرأ منها عدم الاحتجاج ناهيك بالرفض. هذا مع أن الرفض متحقق، لكنه مضمر وصامت، فبعد سماع كلمات الأب الآمرة كانت ردة فعل الابن هي الابتسام، الابتسام الرافض:
«ابتسم في داخله استهزاء وسخرية.. حرص في الوقت نفسه أن يكون وجهه مرآة مختلفة عما يجيش في أعماقه ويعتمل في صدره..».
ثم بدأ يتأمل في دلالات الصمت:
«أليس لك سوى الصمت وهو في كل الحالات التراجع الوحيد والهزيمة الفريدة التي يدركها الجميع لكنها لا تحسب هزيمة.. ولا تراجعا».
لكن هذا الركون إلى الصمت / الهزيمة يأتي بعد أن عبر الابن في داخله عن الرفض تعبيرًا داخليًا يتأهب للتحول إلى رفض معلن. ولم يطل الوقت قبل ذلك التحول، فالصمت الآن نبتة تحولت إلى «غابة وحشية»: «قال: لا.. أن تقول (لا) فأنت تمارس أدنى درجة من الحرية.. خرج دون أن يعرف ماذا ترك قوله من أثر.. لعله أحس بمعايشته المزمنة.. ماذا يمكن أن يحدث، وهو العاق الأول في عائلته.. خرج بلا هدف محدد سوى أن الخروج هدف في حد ذاته..».
قبل سماع ردة الفعل الحادة من الأب يواجه الابن عائلته التي يأتي موقفها مختلفًا، وإن كان صامتًا، موقف يعرفه السارد العليم أو يحس به الابن إحساس من عرف ردود الفعل الصامتة. ها هو ذا يعود بعد رحلة ليلية مؤرقة غاب فيها عن البيت: «وصل إلى منزله مع بزوغ الشمس.. رائحة البن.. والخبز.. والصمت تنتشر في المكان.. العائلة بكاملها تفترش الأرض.. عيونهم ترتفع إلى وجهه.. لتقفل راجعة إلى الأرض مرة أخرى.
الكل داخله يعجب لهذا الاعتراض الوحيد الذي مارسه.. الكل مسرور.. كل منهم بوده أن يصل الشاطئ الذي وصل إليه.. إلى النتيجة دونما تحمله كلمته العجيبة.. (لا) من دهشة وألم وعصيان..». في هذا النص صمت معلن أيضًا، لكن سردية النص تتيح له بحبوحة من التعبير أكبر من تلك المتاحة للقصيدة، فالسارد يخبرنا بكثير مما لا تخبرنا به الشاعرة، لكن في النص مع ذلك ما ينتظر انتباه القارئ بل ويوجهه إليه، ولعل من أوضح ذلك نهاية القصة. في تلك النهاية إشارة رمزية تسبقها صورة لردة فعل العائلة، وهي تسمع صرامة الأب حين رفض تدخل الأم في صالح ابنها:
«سقط الحزن في قاع القلوب.. وفي القنديل ذبالة عطشى.. وخرج ثعبان من جحره بعد أن غير جلده».
الرمز يفتح أبواب الدلالة، ويشرك القارئ على نحو معلن في عملية القراءة والتفسير، كما أنه يفتح الجمالي في النص بإخراجه من التقريرية التي تعتري بعض أجزاء النص. كأن الكاتب يقول لقرائه: هذه المرة لن أقول لكم ما أقصد، سأكون شاعرًا. لكن أليس الواقع يقول أيضًا إن الكاتب مضطر هو الآخر إلى الصمت، تمامًا مثل الابن في بداية مواجهته مع أبيه؟ قد نغلب أحد الاحتمالين، لكن التغليب لن يعني إلغاء الآخر.
الاحتمال الثاني سترجحه حساسية التأويل، فالقارئ سيتساءل عما يعنيه الثعبان الذي غير جلده: هل هو الأب وقد تبدى بصورته الحقيقية، إنسانا قاسيًا مستبدًا عند أول اعتراض؟ أم هو الابن الذي تحول إلى إنسان آخر بعد أن أعلن الرفض؟ ولماذا الثعبان رمزًا؟ هل للأمر صلة بإبليس الذي تقول بعض الروايات والأساطير إنه تلبس في شكل حية ليغوي آدم؟ أسئلة مبررة في تصوري وهي دون شك مما يثري النص، لكن يمكن في الوقت نفسه قراءتها على أنها جزء من إشكالية الصمت نفسه، الصمت الذي يستدعيه السياق مثلما تستدعيه جماليات الكتابة.
في القصة التي تتلو «الخبز والصمت» ضمن المجموعة نفسها، وعنوانها «المرآة المشروخة»، نجد وضعًا لا يختلف كثيرًا عما نجد هنا. شاب نعرف منذ البدء أنه «اكتشف - لأول مرة - أنه يتمتع بدرجة لا بأس بها من القبح» يواجه قسوة المجتمع، الفقر والسجن والاحتقار، وحين ينجح في تجارته يأتيه القمع في هيئة حذاء أسود ضخم يحطم أحلامه بتفريق زبائنه وهدم محله، ثم يتضح أن الزبائن من النساء، لأنه يبيع أدوات الزينة من مرايا وصابون وغيرها، ويتضح أيضًا أن صاحب الحذاء الضخم يحمل مسبحة كبيرة تلطم وجه الشاب، فيرى «الوجوه على حقيقتها.. عارية من كل حب». فهل من صلة بين هذا الاكتشاف وما تتمخض عنه قصة «الخبز والصمت»؟ هل هو الاكتشاف نفسه؟ لا شك أن الكاتب يتوقع قارئًا قادرًا على تفسير الحذاء والمسبحة مثلما هو قادر على تفسير الثعبان، ولا شك أيضًا أن التفسير يخضع لسياقات ومؤثرات تتعدد أحيانا، لكنها سياقات ومؤثرات محددة ضمن أطر ثقافية واجتماعية وسياسية. يعني هذا أن القراءة بين السطور قراءة مثقلة بالاحتمالات، كأي قراءة، وقد تكون أشد رزوحًا تحت وطأة الإبهام ولجوءًا إلى التأويلات البعيدة. ولا شك في أن الدخول في تلك التأويلات لا يختلف عن الصمت في أنه «غابة وحشية»، كما تقول قصة محمد علوان.
* عضو مجلس الشورى السعودي



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.