لا يمكن أن تُصنَّف رواية «عُطارد» للكاتب المصري محمد ربيع إلا في إطار الرواية «الدايستوبية» التي تحفل بالكوابيس المروّعة، والأحداث الفظيعة، والوقائع البشعة التي تُهيمن على المسار السردي منذ مُستهَل النص حتى نهايته. والدايستوبيا، كما هو معروف، مكان فاسد وخبيث يلتهم أبناءه بشكل لا هوادة فيه، لكن الكاتب محمد ربيع زاده تهويلاً حينما أطلق على روايته اسم «عُطارد» ليوحي لقرّائه بالجحيم الأبدي الذي يعيشون فيه، فهم يدورون في منتصف الجحيم ويتلاطمون فيه تمامًا كما يدور «عُطارد» حول الشمس التي تُشبه فرنًا نوويًا مُعلقًا في كبد السماء ويُلهِب هذا الكوكب بمن فيه بألسنة نيرانه التي لا تُبقي ولا تذر.
ولو تركنا هذه الصورة المجازية جانبا فإن «عُطارد» هو اسم لنقيب الشرطة أحمد عُطارد الذي يصل إلى مكان الجريمة ويدوّن تفاصيلها الدقيقة ويرويها لنا بوصفه ساردًا للنص ومشاركًا فيه. تتلخص الجريمة بأن أبًا قتل بالساطور زوجته وأولاده الثلاثة وقطعّهم إلى قطع صغيرة طبخها في عدة قدور وأجبر والده على تناول لحم أحفاده فمات مسمومًا. وقد اعترف الأب بأنه قَتَلهم لأنه خسر أموالاً كثيرة في البورصة. إن ما يثير الاستغراب أن القاتل ميسور الحال، وينتمي إلى الطبقة المتوسطة، ولا يتعاطى المخدرات فلماذا أقدم على ارتكاب هذه الجريمة المروِّعة التي فشل علماء النفس في تفسيرها ذلك لأن حُجة خسارته في البورصة واهية جدًا ولا تبرّر ارتكابه هذا الجُرم الفظيع؟ غير أن الجملة الأخيرة من هذا الفصل تضعنا في بداية المدخل الدايستوبي الذي يفيد بأن القاتل «كان يمشي فاقدًا كل أمل» (ص14).
لا تسير الرواية على وفق خطٍ زمني مستقيم فالأحداث تنتقل إلى المستقبل في عام 2025م وتعود القهقرى إلى عام 455ه. ففي الزمن المستقبلي تُحتَل جمهورية مصر العربية من قِبل الجيشَين الرابع والخامس التابعَين لفرسان مالطا وتتولى الشرطة المصرية فقط مهمة الدفاع عن الوطن ومقاومة المُحتلّ. يقوم الحاكم العسكري الفيلدمارشال بول - بيير جينفيف بحلّ المجالس المصرية وتعيين الدكتور خليفة صدقي رئيسًا للوزراء، وأحمد عبد الله وزيرا للداخلية. وقد رفض عُطارد العمل مع المحتل مع قلّة من ضباط الشرطة الذين لا يتجاوز عددهم الألف ضابط. وقد قَتل خلال أسبوع أكثر من مائة ضابط وجندي مالطي، فطلبوا منه الانضمام للمقاومة ووافق مُرحّبًا بالفكرة شرط أن يكون ضبّاط الشرطة هم الأساس في المقاومة وضباط الجيش والمواطنون العاديون على الهامش وبلا أي صلاحيات. وبما أن عُطارد لا يخطئ في إصابة هدفه فقد أرادوه أن يكون قنّاصًا. وقد تسلّح ببندقية دراجونوف قبل أن يصعد إلى البرج ويقتل وزيري الثقافة والبيئة ورئيس الأركان المصري السابق.
انقسمت القاهرة إلى قسمين: الشرقي المحتل والغربي المُحرَّر أما القنّاص عُطارد فيتنقل بين شطري القاهرة بواسطة الأنفاق التي حفرها الناس بينما استحالت الصروح وأبنية الوزارات والدوائر الرسمية إلى خرائب وأنقاض كما تحوّل شارع شريف إلى مبغى بعد أن قننت السلطة المحتلة البغاء.
كان عُطارد يُرجِع سرّ دقته في الإصابة إلى قناع بوذا الذي يرتديه، بل امتدت هذه الدقة لتشمل جماعة البرج برمتها. وقد اتسعت دائرة القتل لتصل إلى ثلاثة ملايين مواطن خلال ثلاث سنوات ونصف السنة إما لأنهم كانوا متعاونين مع المحتل أو لأنهم كانوا ضحايا بالمصادفة، بينما قُتل على يد المحتل نحو 300.000 مواطن.
يقترن الجو الدايستوبي بالكوارث وقد نجح الروائي في تحويل الكثير من أبراج القاهرة وصروحها العمرانية الضخمة إلى خرائب تكدّست فيها القمامة حتى صارت تعيق المارة فانبثق منها «رجل الكلاب» الذي تدّله هذه الحيوانات بحاسة شمّها القوية إلى الجثث المدفونة تحت الأنقاض حيث يجمعها في عربته ويدفنها في حفر عميقة تحفرها الكلاب بمخالبها القوية التي تدربت على هذه المهمة العسيرة. كما يحضر بقوة رجل القُمامة الذين يغتصب فتاتين مشردتين ثم يتعرض هو الآخر إلى ضرب مبرح من قبل ثلة من الشباب الذين يتناوبون على اغتصاب الفتاتين ويتركون الثلاثة يتخبطون في دمائهم قبل أن يتواروا عن الأنظار.
تختلط الكوابيس بالفظائع والبشاعات حيث «يتكربن» الناس، أي يشمّون حشيشًا مُكربنا مصنوعًا من مسحوق الصراصير والجعران فيتخدرون، وينخذلون، ويفقدون القدرة على التفاعل مع الآخرين. وفي خضم هذه الفضاء الدايستوبي الخبيث يظهر المدرس إنسال ليجلب زهرة ذات الأعوام الأربعة، الطفلة الوحيدة التي بقيت في المدرسة لوحدها دون أن يُرجعها أحد إلى البيت ثم نفهم أن أمها ماتت وأن أباها توارى عن الأنظار في ظروف غامضة. كان إنسال في الوقت ذاته ينتظر ولادة ابنه من زوجته الحامل ليلى لكنها أنجبته ميْتًا في غيابه المؤقت وحينما يعود يحاول دفنه في الحدائق المجاورة لكنه كان خائفًا من الكلاب أن تنبش قبره وتأكل لحمه الطري.
لا بد من العودة إلى حكاية «الشدَّة المستنصرية» أو السنوات السبع العجاف التي هلك فيها الحرث والنسل بعد أن غابت مياه النيل. أما قصة صخر الخزرجي الذي قيل إنه مات فاختلف الأخوال والأعمام على غسله ثم اتفقوا على أن يغسل الأخوال نصفه الأيمن والأعمام نصفه الأيسر. وبينما كان الناس مذهولين سمع الراوي بأنّ صخرًا قد بُعث بعد موته. تُرى، هل هناك حياة بعد الموت؟ وهل أتت الساعة بلا علامات؟ ثم قال صخر: «لا مُخلِّص اليوم... نحن في الجحيم» (ص193).
يعود الروائي إلى البذرة التي بذرها سابقًا ويخبرنا بأن إنسال قد تبنّى زهرة ومع ذلك فإنه سيظل يبحث عن والدها المفقود في المشارح الطبية وثلاجات الموتى وبما أنه لم يعرفه من قبل فلا بد من الاستعانة بزهرة علّها تعرف ملامح والدها أو تشمّ رائحته وبالفعل تنجح في التعرف عليه لكنها تصاب لاحقًا بمرض خطير حيث يتمدد جلدها ليغطي فمها وأذنيها ثم تُصاب بالعمى وترتخي الأجفان لتلتحم ببطء! هذا ليس مرضًا من وجهة نظر إنسال ولا بد أنّ هناك حكمة فيما يحدث لزهرة.
ربما يكون مشهد إعدام فريدة بعد أن أطلقت النار على ضابط وأردته قتيلاً في الحال كما قتلت أناسًا آخرين، ربما يكون هذا المشهد تحديدًا هو الذروة الدايستوبية والاستخفاف المطلق بحُرمة الجسد البشري الذي يُقطّع أمام الملأ ويُرمى إليهم من فوق منصة في ميدان عام.
ما يريد الراوي قوله بأنه كان يرى نفسه شرطيًا يُعذِّب الناس ويتعذب معهم. وأنّ الجحيم أزلي لا ينقطع، وأن كل شيء سيفنى في خاتمة المطاف. أما خلاصة الثيمة فتتلخص بجملته الأخيرة التي يقول فيها: «إني خالد في الجحيم، وإنني ابن الجحيم» (ص303).
حينما يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من هذه الرواية يحق له أن يتساءل عن إمكانية وقوع مثل هذه الأحداث على أرض الواقع أم أنها مجرد أضغاث أحلام ناجمة عن مخيّلة مشوّشة لا تنتعش إلا في فضاء عبثي، دايستوبي، غريب؟
«عطارد».. حكاية الخلود في الجحيم الأبدي
من الروايات المرشحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكَر العربية
«عطارد».. حكاية الخلود في الجحيم الأبدي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة