أبو الغيط.. دبلوماسي من مدرسة أكتوبر

يقود الجامعة العربية في ظروف صعبة

أبو الغيط.. دبلوماسي من مدرسة أكتوبر
TT

أبو الغيط.. دبلوماسي من مدرسة أكتوبر

أبو الغيط.. دبلوماسي من مدرسة أكتوبر

يحظى وزير الخارجية المصري الأسبق، أحمد أبو الغيط، منذ سنوات، بوصف «الدبلوماسي الهادئ»، وذلك رغم العواصف السياسية التي مرت عليه وعاصرها في مصر ومنطقة الشرق الأوسط والعالم. في نوادي الدبلوماسيين على ضفاف النيل، في القاهرة، تجد أصداء لما جاء في الكتابين اللذين أصدرهما بعد تركه موقعه في وزارة الخارجية، كخطوة لافتة وغير معتادة في أوساط المسؤولين العرب. ويوم أول من أمس (الخميس) أعلنت جامعة الدول العربية تعيينه أمينا عاما لها، خلفا لنبيل العربي الذي تنتهي ولايته في 30 يونيو (حزيران) المقبل.
كان أبو الغيط المرشح الوحيد، لكن قطر قالت إنها تتحفظ على شخصه. ومع ذلك مرت الأمور، في نهاية المطاف، على ما يرام، لكن بعد عدة جلسات ومشاورات في مقر الجامعة. وسيكون على الرجل البدء بتلطيف الأجواء عربيا، قبل أن يفتح الملفات الشائكة التي تنتظره، وعلى رأسها التمدد الإيراني في المنطقة وانتشار التنظيمات المتطرفة والإرهابية، ومنها تنظيم داعش وحزب الله، بالإضافة إلى الحروب في سوريا وليبيا وغيرها.

يبلغ أبو الغيط من العمر 74 عاما، وشغل منصب وزير خارجية بلاده في الفترة من عام 2004 إلى عام 2011، وتذكرك بعض عاداته بما كان عليه المستشار الرئاسي المصري الراحل أسامة الباز، خاصة فيما يتعلق بالظهور في المناسبات العامة، وارتياد نوادي الدبلوماسيين، وفي بعض الأحيان الاختلاط بالمواطنين العاديين في الشارع. ويقول أحد أقاربه إن الرجل يتمتع بـ«حس شعبي» أيضا.
يعد أبو الغيط الأمين العام الثامن للجامعة العربية. وهو من مواليد شرق القاهرة، يوم الثاني عشر من يونيو عام 1942. وفي عام 1964 تخرج في كلية التجارة من جامعة عين شمس. بينما يعود تاريخ التحاقه بالعمل في وزارة الخارجية إلى سنة 1965. والرجل بالمناسبة أصغر من سلفه الذي يبلغ من العمر 81 عاما. وجاء طرح اسم أبو الغيط بعد أن اعتذر العربي عن التقدم لشغل المنصب مرة ثانية.
الدكتور محمد مجاهد الزيات، رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، يشير إلى أن أبو الغيط «شخصية دبلوماسية لها خبرة طويلة في العمل». بينما يؤكد الدكتور عصام السيد، المستشار الإعلامي للمنظمة العربية للتنمية الإدارية، وهي واحدة من منظمات الجامعة العربية، أن الأمين العام الجديد للجامعة معروف بمواقفه السابقة المؤيدة للعرب، وهو ضد التوجه والتمدد الإيراني في المنطقة.
خبرته في العمل الدبلوماسي خارج مصر تعود إلى وقت مبكر من العمر، وذلك حين جرى تعيينه كسكرتير ثالث في سفارة بلاده في قبرص، عام 1968، وقبل حرب أكتوبر عام 1973 بسنة واحدة، أصبح عضوا في مكتب مستشار رئيس الدولة لشؤون الأمن القومي. وبعد ذلك، أي في 1974، التحق بوفد بلاده في الأمم المتحدة. وتدرج في الكثير من مناصب السلك الدبلوماسي إلى أن تولى موقع وزير الخارجية خلفا للوزير الأسبق أحمد ماهر.
تتلمذ أبو الغيط، ابن اللواء طيار علي أبو الغيط، في مطبخ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 حينما عمل لمدة عامين مع مستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل لإدارة الشق السياسي والدبلوماسي لحرب 1973.
بمجرد ترشيح أبو الغيط لمنصب أمين عام الجامعة، في الأيام الأخيرة، ثارت التساؤلات المعتادة في عدة أروقة عربية عما يسميه البعض «احتكار المصريين للمنصب المهم في الجامعة». فمنذ تأسيسها عام 1945 شغل مصريون منصب أمينها العام. ولم تتغير هذه القاعدة إلا مرة واحدة أثناء نقل مقر الجامعة إلى تونس عام 1979، احتجاجا على توقيع مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت حتى عودة الجامعة إلى مقرها في القاهرة عام 1990، تولى موقع الأمين العام الدبلوماسي التونسي الشاذلي القليبي.
لم يكن أبو الغيط يشغل تفكيره كثيرا بمسألة كونه مصريا يخلف مصريا على منصب الأمين العام، وفقا لمقربين منه كانوا يتحدثون معه عقب ترشحه للموقع. ويبدو أنه يرى أن الأمر لا يتعلق بجنسية الأمين العام، أو الدولة التي ينتمي إليها، ولكنه يتعلق بديناميكية العمل المطلوب من الجامعة في مثل هذه الظروف الصعبة في تاريخ العرب. ويقول الدكتور الزيات إن الأمين العام للجامعة عادة ما يكون من دولة المقر.
كعادته، واجه أبو الغيط مشكلة الاعتراض من البعض على ترشحه، برباطة جأش. التزم الصمت، كما يشير أحد المقربين من الرجل ذي البشرة الخمرية والبنيان الجسدي النحيف، والمواقف الصارمة. في نهاية المطاف، ورغم تحفظ قطر، من خلال وزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أعلنت الجامعة تعيين أبو الغيط بعد عدة جلسات استمرت كلها حتى وقت متأخر من يوم الخميس.
ومن جانبه قال وزير خارجية البحرين، الرئيس الجديد لمجلس وزراء الخارجية العرب، الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة: «نعلن تعيين السيد أحمد أبو الغيط أمينا عاما لجامعة الدول العربية لمدة خمس سنوات اعتبارا من أول يوليو (تموز)». وفي كلمته قال وزير الخارجية القطري إنه «كان بودنا أن يكون هناك توافق على شخص الأمين العام المرشح. لذلك كان هناك المزيد من التشاور حول هذا الموضوع ورغبة منا وحرصا منا على ألا يؤثر ذلك على العمل العربي المشترك، فنحن سنكون مع هذا التوافق، رغم تسجيل تحفظنا على شخص المرشح».
الدكتور الزيات، الذي يشغل أيضا موقع المستشار الأكاديمي في المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، وعضوية المجلس المصري للشؤون الخارجية، يقول إنه لم يكن هناك تنافس بين أبو الغيط وبين مرشحين آخرين، مشيرا إلى أن التحفظ الذي تم على اسمه، في البداية، وكاد يعطل عملية انتخابه، ارتبط بتقديرات من كل من قطر والسودان بدرجة أساسية.
يتمتع أبو الغيط بخبرة طويلة في العمل الدبلوماسي إقليميا ودوليا منذ سنوات.. فقد شغل على سبيل المثال، موقع رئيس الوفد المصري في الأمم المتحدة، بداية من عام 1999، ومنذ ذلك الوقت مرت بمناطق مهمة من العالم الكثير من الأحداث الكبرى، من بينها انعكاسات هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية، وما تلاها من تطورات، كان من بينها الغزو الدولي للعراق، وتراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية.
عمل أبو الغيط في حكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك في ظروف شديدة التعقيد سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي. فقد كانت مصر تشهد صراعا بين ما يسمى «الجيل القديم»، أي رجال حزب مبارك القادمون من العهدين الناصري والساداتي، و«الجيل الجديد» الذي تزعمه جمال نجل مبارك، وعدد من الوزراء القادمين من عالم المال والأعمال. كان مطلوبا من أبو الغيط، كوزير للخارجية، أن يوازن الأمور ويحافظ على طريقة عمل الوزارة العتيدة بعيدا عن الأنواء والأهواء.
يعلق أحد المقربين من أبو الغيط قائلا إن الرجل واجه مشكلة كبيرة أخرى، وأبدى فيها الكثير من «الحصافة وطول البال»، وهي استحواذ مؤسسة الرئاسة على عدة ملفات خارجية، من بينها ملف الصراع الفلسطيني مع إسرائيل، والمحاولات المصرية لإعادة ترتيب الأوضاع في قطاع غزة، بعد فوز حركة حماس بالانتخابات، وهيمنتها على مقدرات القطاع، والانقلاب بعد ذلك على السلطة الفلسطينية في رام الله.
لكن الدكتور الزيات يرى أن اختيار أبو الغيط يعني أن نوعا من التفاهم قد تحقق بين الدول العربية، و«تم استيعاب التحفظات». ويقول: أعتقد أن أبو الغيط سيكون عليه، في بداية العمل، زيارة الدول التي كان لديها تحفظات، وذلك من أجل إزالة الحساسيات القائمة. ويضيف أن العمل، بمجمله، يدل على أن هناك رغبة في توحيد الرأي العربي في قضية، ربما تبدو قضية غير حيوية، لكنها ربما تعطي اتجاها في المستقبل، وذلك بأن تكون هناك مواقف عربية أكثر توحدا وأكثر إجماعا مما كانت عليه الجامعة في السنوات الماضية.
ويعد الزيات من بين الشخصيات التي تصف أبو الغيط بـ«الدبلوماسي الهادئ». ويقول إن الرجل «دبلوماسي هادئ تماما، ولا ينفعل كثيرا، ويتناول القضايا بهدوء.. أعتقد أن خبرته دلت على ذلك بصورة واضحة، حتى بعد تركه وزارة الخارجية وإصداره كتابين.. وحتى من خلال الأحاديث التي أجراها، كل ذلك يعكس شخصيته، ويدل على أنه رجل متوافق مع نفسه».
من الكلمات الصريحة التي ذكرها أبو الغيط وهو وزير للخارجية، وأثارت استغراب بعض المراقبين، قوله «على بلاطة»، أثناء واحدة من الهجمات الإسرائيلية العنيفة على قطاع غزة، إن حركة حماس التي تدير القطاع تتحمل المسؤولية عن الهجوم الإسرائيلي، لأن مصر قامت بتحذيرها قبل بدء العدوان بفترة طويلة، لكن حماس لم تأخذ هذه التحذيرات على محمل الجد. ويقول دبلوماسي مصري عمل مع أبو الغيط لسنوات إنه «دائما ما كان يقول بخطأ أن تستفز من لا تستطيع مواجهته». ولهذا «كان ضد تصرفات حماس الرعناء».
وفى كتابه «شهاداتي»، تحدث أبو الغيط عن تحديات الحاضر والمستقبل خلال عمله الدبلوماسي، حيث يرى أنه من الأهمية بمكان أن التعامل مع قضايا السياسة الخارجية يجب فيه مراعاة عدم المخاطرة، مع السعي إلى التدقيق والتعمق في كل جوانب الموضوعات حتى ولو أدى ذلك إلى تأخر صدور القرار.
ويقول في الكتاب: لقد تابعت من جانبي هذا النهج والأداء في الحذر الذي تعاملنا به مع الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو من عام 1982، وقضايا سياسية مهمة حدثت في المنطقة. ويضيف أن الخلاصة تكمن في الفهم المتعمق والمعلوماتي لما يدور من أحداث، واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
كثير من المصريين والعرب ممن يسهرون في النوادي الدبلوماسية على ضفاف النيل، وفي الضواحي الجديدة المحيطة بالقاهرة، شهدوا التحولات الكبيرة التي نتجت عن أحداث ما يعرف بـ«الربيع العربي». سقطت أنظمة وصعدت أنظمة جديدة، ومن عام 2011، حتى الآن، يمكن أن تجد عدة شخصيات اضطرت لتغيير مواقفها لكي تتلاءم مع الوضع الجديد. بعض الأسماء المشهورة في عالم السياسية والدبلوماسية، أنكرت ما كانت تقوم به في العهود البائدة. لكن هذا لم يحدث مع أبو الغيط، كما يقول الدكتور الزيات.
ويضيف أن وزير الخارجية الأسبق، وبعد أن ضربت عاصفة 2011 مصر ودولا أخرى.. «لم يغير مواقفه، ولا قناعاته السياسية، كما فعل البعض في فترة السنوات الأربع الماضية.. كان أبو الغيط واضحا، ويتمسك بنفس المواقف التي كان عليها عندما كان وزيرا للخارجية.. لقد وضّح معوقات العمل في وزارة الخارجية، وما كانت تمثله الوزارة في عملية صنع القرار في مصر».
ويقول الزيات إن أبو الغيط شخصية دبلوماسية لها خبرة طويلة في العمل الدبلوماسي، وكونه مرشحا لمصر فهو تأكيد للعرف القائم بأن الأمين العام للجامعة عادة ما يكون من دولة المقر.. «الحقيقة أنه دبلوماسي متزن بصورة كبيرة، وكل الذين تعاملوا معه يؤكدون على ذلك».
وبعد اختياره، قدم أبو الغيط الشكر لقادة الدول العربية، وأقر بـ«ثقل حجم المسؤولية، في ظل وضع عربي صعب وغير موات». ويقول أحد الدبلوماسيين إن كلمات أبو الغيط تعكس إدراكا عميقا لما تمر به الحالة العربية، فلأول مرة، منذ سنوات، يتم تأخير انعقاد القمة العربية في موعدها في مارس (آذار) من كل عام. وكان مقررا عقد القمة في المغرب الشهر المقبل، لكن المغرب اعتذر عن عدم استضافتها، لكي يتجنب تقديم أي انطباع خاطئ بالوحدة والتضامن، في الظروف الراهنة.
من جانبه يؤكد الدكتور عصام السيد، أن أبو الغيط «اختيار موفق»، لأنه «يعد من الشخصيات ذات الوزن الثقيل.. أي راسخ. كما أن مصر رشحته لأسباب كثيرة، أرى أنها موضوعية تماما، ومنها قوته وخبرته الطويلة، وهذا في حد ذاته يعد أيضا إنجازا لمصر ومكسبا للجامعة العربية وللعرب جميعا».
ويضيف أن أبو الغيط سيتولى مهام موقعه الجديد في ظل أوضاع لا تسر عدوا ولا حبيبا.. «لا يخفى على أحد كم الملفات الشائكة التي تمر بها المنطقة»، في إشارة إلى الحروب والخلافات المتفجرة من سوريا إلى اليمن، ومن لبنان إلى ليبيا، بالإضافة إلى مشكلة التقاطعات الدولية والإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها التدخل الإيراني في عدة دول عربية. ويقول السيد: أبو الغيط يأتي لمنصبه وهو مسلح بمواقف سابقة مؤيدة للعرب.. كما أنه يقف ضد التوجه والتمدد الإيراني في المنطقة العربية.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟