يحظى وزير الخارجية المصري الأسبق، أحمد أبو الغيط، منذ سنوات، بوصف «الدبلوماسي الهادئ»، وذلك رغم العواصف السياسية التي مرت عليه وعاصرها في مصر ومنطقة الشرق الأوسط والعالم. في نوادي الدبلوماسيين على ضفاف النيل، في القاهرة، تجد أصداء لما جاء في الكتابين اللذين أصدرهما بعد تركه موقعه في وزارة الخارجية، كخطوة لافتة وغير معتادة في أوساط المسؤولين العرب. ويوم أول من أمس (الخميس) أعلنت جامعة الدول العربية تعيينه أمينا عاما لها، خلفا لنبيل العربي الذي تنتهي ولايته في 30 يونيو (حزيران) المقبل.
كان أبو الغيط المرشح الوحيد، لكن قطر قالت إنها تتحفظ على شخصه. ومع ذلك مرت الأمور، في نهاية المطاف، على ما يرام، لكن بعد عدة جلسات ومشاورات في مقر الجامعة. وسيكون على الرجل البدء بتلطيف الأجواء عربيا، قبل أن يفتح الملفات الشائكة التي تنتظره، وعلى رأسها التمدد الإيراني في المنطقة وانتشار التنظيمات المتطرفة والإرهابية، ومنها تنظيم داعش وحزب الله، بالإضافة إلى الحروب في سوريا وليبيا وغيرها.
يبلغ أبو الغيط من العمر 74 عاما، وشغل منصب وزير خارجية بلاده في الفترة من عام 2004 إلى عام 2011، وتذكرك بعض عاداته بما كان عليه المستشار الرئاسي المصري الراحل أسامة الباز، خاصة فيما يتعلق بالظهور في المناسبات العامة، وارتياد نوادي الدبلوماسيين، وفي بعض الأحيان الاختلاط بالمواطنين العاديين في الشارع. ويقول أحد أقاربه إن الرجل يتمتع بـ«حس شعبي» أيضا.
يعد أبو الغيط الأمين العام الثامن للجامعة العربية. وهو من مواليد شرق القاهرة، يوم الثاني عشر من يونيو عام 1942. وفي عام 1964 تخرج في كلية التجارة من جامعة عين شمس. بينما يعود تاريخ التحاقه بالعمل في وزارة الخارجية إلى سنة 1965. والرجل بالمناسبة أصغر من سلفه الذي يبلغ من العمر 81 عاما. وجاء طرح اسم أبو الغيط بعد أن اعتذر العربي عن التقدم لشغل المنصب مرة ثانية.
الدكتور محمد مجاهد الزيات، رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، يشير إلى أن أبو الغيط «شخصية دبلوماسية لها خبرة طويلة في العمل». بينما يؤكد الدكتور عصام السيد، المستشار الإعلامي للمنظمة العربية للتنمية الإدارية، وهي واحدة من منظمات الجامعة العربية، أن الأمين العام الجديد للجامعة معروف بمواقفه السابقة المؤيدة للعرب، وهو ضد التوجه والتمدد الإيراني في المنطقة.
خبرته في العمل الدبلوماسي خارج مصر تعود إلى وقت مبكر من العمر، وذلك حين جرى تعيينه كسكرتير ثالث في سفارة بلاده في قبرص، عام 1968، وقبل حرب أكتوبر عام 1973 بسنة واحدة، أصبح عضوا في مكتب مستشار رئيس الدولة لشؤون الأمن القومي. وبعد ذلك، أي في 1974، التحق بوفد بلاده في الأمم المتحدة. وتدرج في الكثير من مناصب السلك الدبلوماسي إلى أن تولى موقع وزير الخارجية خلفا للوزير الأسبق أحمد ماهر.
تتلمذ أبو الغيط، ابن اللواء طيار علي أبو الغيط، في مطبخ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 حينما عمل لمدة عامين مع مستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل لإدارة الشق السياسي والدبلوماسي لحرب 1973.
بمجرد ترشيح أبو الغيط لمنصب أمين عام الجامعة، في الأيام الأخيرة، ثارت التساؤلات المعتادة في عدة أروقة عربية عما يسميه البعض «احتكار المصريين للمنصب المهم في الجامعة». فمنذ تأسيسها عام 1945 شغل مصريون منصب أمينها العام. ولم تتغير هذه القاعدة إلا مرة واحدة أثناء نقل مقر الجامعة إلى تونس عام 1979، احتجاجا على توقيع مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت حتى عودة الجامعة إلى مقرها في القاهرة عام 1990، تولى موقع الأمين العام الدبلوماسي التونسي الشاذلي القليبي.
لم يكن أبو الغيط يشغل تفكيره كثيرا بمسألة كونه مصريا يخلف مصريا على منصب الأمين العام، وفقا لمقربين منه كانوا يتحدثون معه عقب ترشحه للموقع. ويبدو أنه يرى أن الأمر لا يتعلق بجنسية الأمين العام، أو الدولة التي ينتمي إليها، ولكنه يتعلق بديناميكية العمل المطلوب من الجامعة في مثل هذه الظروف الصعبة في تاريخ العرب. ويقول الدكتور الزيات إن الأمين العام للجامعة عادة ما يكون من دولة المقر.
كعادته، واجه أبو الغيط مشكلة الاعتراض من البعض على ترشحه، برباطة جأش. التزم الصمت، كما يشير أحد المقربين من الرجل ذي البشرة الخمرية والبنيان الجسدي النحيف، والمواقف الصارمة. في نهاية المطاف، ورغم تحفظ قطر، من خلال وزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أعلنت الجامعة تعيين أبو الغيط بعد عدة جلسات استمرت كلها حتى وقت متأخر من يوم الخميس.
ومن جانبه قال وزير خارجية البحرين، الرئيس الجديد لمجلس وزراء الخارجية العرب، الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة: «نعلن تعيين السيد أحمد أبو الغيط أمينا عاما لجامعة الدول العربية لمدة خمس سنوات اعتبارا من أول يوليو (تموز)». وفي كلمته قال وزير الخارجية القطري إنه «كان بودنا أن يكون هناك توافق على شخص الأمين العام المرشح. لذلك كان هناك المزيد من التشاور حول هذا الموضوع ورغبة منا وحرصا منا على ألا يؤثر ذلك على العمل العربي المشترك، فنحن سنكون مع هذا التوافق، رغم تسجيل تحفظنا على شخص المرشح».
الدكتور الزيات، الذي يشغل أيضا موقع المستشار الأكاديمي في المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، وعضوية المجلس المصري للشؤون الخارجية، يقول إنه لم يكن هناك تنافس بين أبو الغيط وبين مرشحين آخرين، مشيرا إلى أن التحفظ الذي تم على اسمه، في البداية، وكاد يعطل عملية انتخابه، ارتبط بتقديرات من كل من قطر والسودان بدرجة أساسية.
يتمتع أبو الغيط بخبرة طويلة في العمل الدبلوماسي إقليميا ودوليا منذ سنوات.. فقد شغل على سبيل المثال، موقع رئيس الوفد المصري في الأمم المتحدة، بداية من عام 1999، ومنذ ذلك الوقت مرت بمناطق مهمة من العالم الكثير من الأحداث الكبرى، من بينها انعكاسات هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية، وما تلاها من تطورات، كان من بينها الغزو الدولي للعراق، وتراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية.
عمل أبو الغيط في حكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك في ظروف شديدة التعقيد سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي. فقد كانت مصر تشهد صراعا بين ما يسمى «الجيل القديم»، أي رجال حزب مبارك القادمون من العهدين الناصري والساداتي، و«الجيل الجديد» الذي تزعمه جمال نجل مبارك، وعدد من الوزراء القادمين من عالم المال والأعمال. كان مطلوبا من أبو الغيط، كوزير للخارجية، أن يوازن الأمور ويحافظ على طريقة عمل الوزارة العتيدة بعيدا عن الأنواء والأهواء.
يعلق أحد المقربين من أبو الغيط قائلا إن الرجل واجه مشكلة كبيرة أخرى، وأبدى فيها الكثير من «الحصافة وطول البال»، وهي استحواذ مؤسسة الرئاسة على عدة ملفات خارجية، من بينها ملف الصراع الفلسطيني مع إسرائيل، والمحاولات المصرية لإعادة ترتيب الأوضاع في قطاع غزة، بعد فوز حركة حماس بالانتخابات، وهيمنتها على مقدرات القطاع، والانقلاب بعد ذلك على السلطة الفلسطينية في رام الله.
لكن الدكتور الزيات يرى أن اختيار أبو الغيط يعني أن نوعا من التفاهم قد تحقق بين الدول العربية، و«تم استيعاب التحفظات». ويقول: أعتقد أن أبو الغيط سيكون عليه، في بداية العمل، زيارة الدول التي كان لديها تحفظات، وذلك من أجل إزالة الحساسيات القائمة. ويضيف أن العمل، بمجمله، يدل على أن هناك رغبة في توحيد الرأي العربي في قضية، ربما تبدو قضية غير حيوية، لكنها ربما تعطي اتجاها في المستقبل، وذلك بأن تكون هناك مواقف عربية أكثر توحدا وأكثر إجماعا مما كانت عليه الجامعة في السنوات الماضية.
ويعد الزيات من بين الشخصيات التي تصف أبو الغيط بـ«الدبلوماسي الهادئ». ويقول إن الرجل «دبلوماسي هادئ تماما، ولا ينفعل كثيرا، ويتناول القضايا بهدوء.. أعتقد أن خبرته دلت على ذلك بصورة واضحة، حتى بعد تركه وزارة الخارجية وإصداره كتابين.. وحتى من خلال الأحاديث التي أجراها، كل ذلك يعكس شخصيته، ويدل على أنه رجل متوافق مع نفسه».
من الكلمات الصريحة التي ذكرها أبو الغيط وهو وزير للخارجية، وأثارت استغراب بعض المراقبين، قوله «على بلاطة»، أثناء واحدة من الهجمات الإسرائيلية العنيفة على قطاع غزة، إن حركة حماس التي تدير القطاع تتحمل المسؤولية عن الهجوم الإسرائيلي، لأن مصر قامت بتحذيرها قبل بدء العدوان بفترة طويلة، لكن حماس لم تأخذ هذه التحذيرات على محمل الجد. ويقول دبلوماسي مصري عمل مع أبو الغيط لسنوات إنه «دائما ما كان يقول بخطأ أن تستفز من لا تستطيع مواجهته». ولهذا «كان ضد تصرفات حماس الرعناء».
وفى كتابه «شهاداتي»، تحدث أبو الغيط عن تحديات الحاضر والمستقبل خلال عمله الدبلوماسي، حيث يرى أنه من الأهمية بمكان أن التعامل مع قضايا السياسة الخارجية يجب فيه مراعاة عدم المخاطرة، مع السعي إلى التدقيق والتعمق في كل جوانب الموضوعات حتى ولو أدى ذلك إلى تأخر صدور القرار.
ويقول في الكتاب: لقد تابعت من جانبي هذا النهج والأداء في الحذر الذي تعاملنا به مع الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو من عام 1982، وقضايا سياسية مهمة حدثت في المنطقة. ويضيف أن الخلاصة تكمن في الفهم المتعمق والمعلوماتي لما يدور من أحداث، واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
كثير من المصريين والعرب ممن يسهرون في النوادي الدبلوماسية على ضفاف النيل، وفي الضواحي الجديدة المحيطة بالقاهرة، شهدوا التحولات الكبيرة التي نتجت عن أحداث ما يعرف بـ«الربيع العربي». سقطت أنظمة وصعدت أنظمة جديدة، ومن عام 2011، حتى الآن، يمكن أن تجد عدة شخصيات اضطرت لتغيير مواقفها لكي تتلاءم مع الوضع الجديد. بعض الأسماء المشهورة في عالم السياسية والدبلوماسية، أنكرت ما كانت تقوم به في العهود البائدة. لكن هذا لم يحدث مع أبو الغيط، كما يقول الدكتور الزيات.
ويضيف أن وزير الخارجية الأسبق، وبعد أن ضربت عاصفة 2011 مصر ودولا أخرى.. «لم يغير مواقفه، ولا قناعاته السياسية، كما فعل البعض في فترة السنوات الأربع الماضية.. كان أبو الغيط واضحا، ويتمسك بنفس المواقف التي كان عليها عندما كان وزيرا للخارجية.. لقد وضّح معوقات العمل في وزارة الخارجية، وما كانت تمثله الوزارة في عملية صنع القرار في مصر».
ويقول الزيات إن أبو الغيط شخصية دبلوماسية لها خبرة طويلة في العمل الدبلوماسي، وكونه مرشحا لمصر فهو تأكيد للعرف القائم بأن الأمين العام للجامعة عادة ما يكون من دولة المقر.. «الحقيقة أنه دبلوماسي متزن بصورة كبيرة، وكل الذين تعاملوا معه يؤكدون على ذلك».
وبعد اختياره، قدم أبو الغيط الشكر لقادة الدول العربية، وأقر بـ«ثقل حجم المسؤولية، في ظل وضع عربي صعب وغير موات». ويقول أحد الدبلوماسيين إن كلمات أبو الغيط تعكس إدراكا عميقا لما تمر به الحالة العربية، فلأول مرة، منذ سنوات، يتم تأخير انعقاد القمة العربية في موعدها في مارس (آذار) من كل عام. وكان مقررا عقد القمة في المغرب الشهر المقبل، لكن المغرب اعتذر عن عدم استضافتها، لكي يتجنب تقديم أي انطباع خاطئ بالوحدة والتضامن، في الظروف الراهنة.
من جانبه يؤكد الدكتور عصام السيد، أن أبو الغيط «اختيار موفق»، لأنه «يعد من الشخصيات ذات الوزن الثقيل.. أي راسخ. كما أن مصر رشحته لأسباب كثيرة، أرى أنها موضوعية تماما، ومنها قوته وخبرته الطويلة، وهذا في حد ذاته يعد أيضا إنجازا لمصر ومكسبا للجامعة العربية وللعرب جميعا».
ويضيف أن أبو الغيط سيتولى مهام موقعه الجديد في ظل أوضاع لا تسر عدوا ولا حبيبا.. «لا يخفى على أحد كم الملفات الشائكة التي تمر بها المنطقة»، في إشارة إلى الحروب والخلافات المتفجرة من سوريا إلى اليمن، ومن لبنان إلى ليبيا، بالإضافة إلى مشكلة التقاطعات الدولية والإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها التدخل الإيراني في عدة دول عربية. ويقول السيد: أبو الغيط يأتي لمنصبه وهو مسلح بمواقف سابقة مؤيدة للعرب.. كما أنه يقف ضد التوجه والتمدد الإيراني في المنطقة العربية.