«القاعدة» وإيران.. مسيرة علاقة مشبوهة

بن لادن أراد «السلام» لإيران.. ولم تكن يومًا عدوًا أو هدفًا للظواهري

جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)
جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)
TT

«القاعدة» وإيران.. مسيرة علاقة مشبوهة

جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)
جنديان مناهضان لتنظيم طالبان يقفان بالقرب من تورا بورا حيث كانت تحتدم المعارك مع طالبان (أ.ف.ب)

بديهية مثيرة للسؤال دائما كون «إيران - الداخل» ظلت، وما زالت، الاستثناء الأبرز من عمليات «القاعدة»، ثم تنظيم داعش منذ نشأة الأخير عام 1998 وحتى الآن، بينما تعولمت عملياتهم في كل أنحاء العالم، شرقه وغربه على السواء.
لم يذكر بل يدعُ أسامة بن لادن، زعيم «القاعدة» التاريخي، لعداء إيران وهو من كفّر كل الحكومات العربية والإسلامية، وأطال وصفها بالمرتدة والممتنعة، إذ كانت المملكة العربية السعودية تمثل عدوه الأول، وظل النظام المصري عدو الظواهري الأول، رغم إلحاحه المستمر ودعوته للسلام مع إيران. وحسب تحليل مضمون إحصائي لخطابات الظواهري وكتاباته، حتى فبراير (شباط) عام 2010، تكرّر ذكر مصر في أحاديثه 226 مرة، لتحتل المرتبة الثانية في الأعداء بعد الولايات المتحدة التي تكرر ذكرها 636 مرة، حسب مجموع رسائله وأعماله الذي صدر في هذا التاريخ. وأتى ذكر الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك نحو 144 مرة، محتلا المرتبة الثانية بعد الرئيس جورج بوش الابن الذي تكرر ذكره 170 بينما جاء الرئيس باراك أوباما في المرتبة الثالثة 70 مرة، بعد قادة المملكة العربية السعودية الذين تكرر ذكرهم 83 مرة، وللحكام العرب بالتعميم نحو 66 مرة. ولقد خصّ الظواهري مصر بسلسلته «رسالة الأمل والبشر لأهلنا في مصر» الأجزاء الأربعة الأخيرة من أجزائها الستة بالحديث عن الثورة المصرية على مبارك، هذا بينما جاء ذكر مصر في كتاب «التبرئة» - آخر كتبه وأهمها - 195 مرة بينما ومبارك 41 مرة بينما لم يرد ذكر السعودية إلا مرة واحدة، بينما أتى ذكر الولايات المتحدة 150 مرة («التبرئة» - نشر مؤسسة السحاب للإنتاج الإعلامي سنة 2009)، ووسط كل هذا لم تحضر إيران ولم تكن يوما عدوًا أو هدفا لزعيم «القاعدة» الحالي.

حافظت «القاعدة» دائمًا على إعلان هدنتها مع نظام الثورة الإسلامية الإيرانية، وهي التي لم تكن تكفّ عن توظيف كل حادث وحديث، رغم نشأة «جهاديات» سنية داخل إيران تجابه حكومة الولي الفقيه وتعلن جهادها، شأن «جيش العدل» البلوشي وغيره، إلا أن «القاعدة» كانت تنأى دائمًا عن ذكره أو الإشارة إليه، فضلاً عن دعمه أو ذكره. بل وجه الظواهري رسالة حادة لـ«أبو مصعب الزرقاوي» في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2005، مطالبًا إياه وجماعته بالكف عن إثارة إيران، عبر استهداف الشيعة في العراق، الذي كان أولوية الأخير وجماعته سلف تنظيم «داعش» ومرجعها الأول - في ركوب الاحتقان الطائفي وتأجيج أواره وتوظيفه من أجل حواضن سنية لقيام «دولته» وإمارته الدينية، وليس لـ«عولمة الجهاد» وعملياته، استنزافًا وإضعافًا يتدرّج نحو هدفه الذي اصطاده «الزرقاوي»، ثم اصطاده «داعش» من بعده وأحيى «دولته» التي سقطت عام 2007 في العراق ممتدة للعراق والشام. وكانت البراءة المتبادلة مع «القاعدة» في 12 مايو (أيار) عام 2014 التي أعلنها «أبو محمد العدناني» أساسها ولاء «القاعدة» لإيران وهدنتها معها.
ظل السباب المتداول - ولا يزال - من عناصر «داعش» لقيادات «القاعدة» أن الأخيرين هم «أبناء الرافضة» وأنهم «أبناء إيران» ومتحالفون معها.. هكذا خاطب تركي البنعلي شيخه السابق هاني السباعي في رده عليه، كما خاطبوا شيوخهم السابقين في الجماعات المتشددة كذلك ممن انتقدوهم شأن أبي قتادة والمقدسي.

* الظواهري وتنظير مبكّر للعلاقة
يمكن رصد بداية علاقة غامضة بين طهران و«القاعدة» عامي 1992 - 1993، من خلال اجتماعات ضمت مسؤولين في «القاعدة» وضباطًا في الحرس الثوري الإيراني، تم الاتفاق خلالها على تدريب بعض عناصر التنظيم.
لكن هذه المعلومات أضعفتها في حينها مقابلة أجراها أيمن الظواهري مع نشرة «الأنصار» في عددها الحادي والتسعين (عام 1994)، ألح فيها على نفي هذه العلاقة، التي يراها «من باب الافتراء المحض.. لنا موقف واضح من إيران، وهو الموقف الذي يبنى على الحقائق العقائدية والعلمية»، نافيًا أي تحالف مع الحكومة الإيرانية. ومن ثم أورد في سبيل ذلك عددًا من الأمثلة، منها: مساندتها الحكومة السورية أثناء حربها على الإخوان المسلمين أوائل الثمانينات، ومساندتها الأحزاب الشيعية فقط أثناء فترة الجهاد الأفغاني، وعدم إدانة ترحيل باكستان «المجاهدين العرب» من أراضيها، وعدم تقديمها أية مساعدة للحركات الجهادية في مصر أو الجزائر.
ويتكئ الظواهري في حواره هذا على مبدأ تبادل المصلحة وليس الموقف العقدي والمذهبي، الذي يجري استدعاؤه فقط في مضمار التجنيد والتعبئة في بعض المناطق كالعراق أو سوريا الآن، ولكن ليس في مجال العلاقة بين تنظيم يؤمن بـ«عولمة الجهاد»، ونظام يؤمن بـ«تصدير الثورة الإسلامية». ويتطابق تصور العدو لدى كل منهما كما تتقارب مرجعيًا كثير من مقولاتهم وشعاراتهم ودعوى هؤلاء المقاومة الإسلامية العالمية أو دعوة هؤلاء أنهم محور المقاومة والممانعة للعدو نفسه (!) وهو الكامن المدرك الذي لا يتم إعلانه رغم الإيمان به.
من هذا المنطلق كان الظواهري شديدًا في انتقاده لـ«أبو مصعب الزرقاوي» في أكتوبر 2005 حين قال للأخير إن «الصدام مع الإيرانيين يرفع العبء عن الأميركيين»، ويضر بالمصالح المتبادلة، ولا سيما أن إيران تؤوي نحو مائة من عناصر «القاعدة» على أراضيها، ولقد طرح الظواهري في رسالته تلك على «الزرقاوي» السؤال الآتي: «هل تناسى الإخوة أن كلاً منا في حاجة إلى أن يكف أذاه عن الآخر في هذا الوقت الذي يستهدفنا فيه الأميركيون؟»، وهو ما كرّره بن لادن في «وثائق أبوت آباد»، كما كشف فيما بعد ويكشف تباعًا من قبل المخابرات الأميركية، مما يعني أنه ليس موقف الظواهري وحده، كما ظن «داعش»، واتهم، بل هو حقًا موقف «القاعدة» وزعيمها بالأساس.
* إيران وصعود «الزرقاوي»
تؤكد ترجمة وشهادة سيف العدل، الذي ما زال مقيمًا في إيران، عن «الزرقاوي» بعد وفاة الأخير علاقة طهران وتوظيفها لـ«القاعدة» و«الجهادية المعولمة». فهي قد أوت «الزرقاوي» لمدة سنة والتجأ لملاذها الأمن بعد خروجه من معسكر هرات (شمال غربي أفغانستان). فقد ذكر سيف العدل في شهادته التي كتبها عام 2005 عن «الزرقاوي» بناء على طلب موقع حركي متشدد عن الدور إيران الداعم لعناصر «القاعدة» ما يلي: «طريق الإخوة الآمن كان قد أصبح من طريق إيران، بعد أن بدأت السلطات الباكستانية بالتشديد علينا وعلى حركتنا».
كذلك يقول سيف العدل في الشهادة نفسها: «بدأنا بالتوافد تباعًا إلى إيران، وكان الإخوة في جزيرة العرب والكويت والإمارات، من الذين كانوا خارج أفغانستان قد سبقونا إلى هناك، وكان بحوزتهم مبالغ جيدة ووفيرة من المال، شكلنا حلقة قيادة مركزية وحلقات فرعية، وبدأنا باستئجار الشقق لإسكان الإخوة وبعض عائلاتهم».
أما أخطر ما تكشفه شهادة سيف العدل هذه فهي تأكيده على وجود دور إيراني رئيس وداعم في نشوء وصعود «الظاهرة الزرقاوية» منذ بدايتها، في معسكر مدينة هرات خلال منتصف التسعينات. الجدير بالذكر أن هرات هي أقرب مدينة أفغانية إلى الحدود الإيرانية، وكانت استراتيجية سيف العدل حينئذ تتمثل بحسب تعبيره في «إنشاء محطتين في طهران ومشهد في إيران من أجل تسهيل عملية عبور الإخوة دخولاً وخروجًا، من وإلى أفغانستان، وكان الهدف من وراء هذا الطرح كله، هو التواصل مع منطقة مهمة من مناطق العالم العربي والإسلامي».
وقد تقوم حكومة النظام الإيراني ببعض الاستجابات الطفيفة للضغوط الدولية عليها بإعلان اعتقال أو تسليم معتقل منتسب لـ«القاعدة» إلى بلده، أو التأكيد على وجود منتسبين لـ«القاعدة» لديها، من دون أن تعطي أحدًا سلطة تسلمهم أو أن تقدم التزامًا بتسليمهم، فضلاً عن المساعدات التي تقدم لفرع «القاعدة» في اليمن، الذي تحول إلى تنظيم «القاعدة في الجزيرة العربية»، بحسب ما صرح به محمد العوفي القائد الميداني لتنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب، بعد فراره من اليمن وتسليمه نفسه للسلطات السعودية في 27 مارس عام 2009، إذ قال إن ثمة تنسيقًا بين «القاعدة» والجماعات الحوثية، وتبادل مصالح وخدمات، وتضغط إيران أحيانًا بتسليم بعض العناصر القاعدية لديها، وذكرت أخبار أنه قد كان لها دور في إسقاط بن لادن عبر تتبع إحدى زوجاته، ولكنه توظيف لا ينفي إمكانية التلاقي والتعاون والبناء المشترك.
* «سلام إيران» وصية بن لادن
فمن بين مائة وست وسبعين صفحة ضمتها «وثائق أبوت آباد» التي تركها مؤسس «القاعدة» وزعيمها الراحل أسامة بن لادن وتم كشفها مباشرة بعد وفاته في (مايو 2011) لم يأت ذكر للعداء لإيران أو الدعوة لاستهدافها، بينما كانت الدعوة المستمرة والمكرورة منها لـ«الجهاد في جزيرة العرب»، وتحديدًا ضد المملكة العربية السعودية التي مثلت العدو الأول في تصوره، وكان أول تنظيم فرعي سارع لتأسيسه ودفعه بقوة للقيام بعملياته فيها هو «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» الذي أسسه سنة 2003 بقيادة يوسف العييري حينئذ.
بل كانت وصية بن لادن الدائمة لقيادات «القاعدة»، كما كشفت المواد الأخرى المخزنة التي يكشف عنها تباعًا بعدم استهداف إيران وعدم فتح جبهة معها، وعدم إعلان ذلك حال اختار القادة الفرعيون ذلك.
نجد بين رسائل وخطابات بن لادن المخطوطة المتناثرة هذه الوصايا واضحة وصريحة على الاستثناء الإيراني، فيقول في رسالة لأحد قيادات «القاعدة» موجهة لشخص يدعى «توفيق»، تحدث في ورقته عن مجريات لقائه بأحد الأشخاص من طهران قائلاً: «الإيرانيون مهتمون لعمل ارتباط مع أحد من طرف العمدة (كلمة مشفرة كناية عن زعيم تنظيم القاعدة)، وذلك ليس فقط لوضع المرضى وإنما يهمهم بالدرجة الأولى الوضع في العراق، حيث إنهم يعتقدون أن الإخوة هناك، وبالذات الأزرق (المرجح المقصود أبو مصعب الزرقاوي) ومجموعته لهم دخل في الاعتداءات على الأماكن والعتبات المقدسة لدى الشيعة».
وأضاف صاحب الرسالة: «لذا يرغبون إما بمقابلة مندوب من طرف العمدة لمناقشة هذا الأمر والاستيضاح حوله وإمكانية التعاون، إذ إنهم - على حسب تقدير الأخ الوسيط - يرغبون بتقديم نوع من الدعم والمساعدة إذا تم تسوية بعض النقاط وهم يرغبون على الأقل بالحصول على رسالة بتوضيح العمدة، يؤكد فيها أن الأماكن المقدسة لدى الشيعة ليست مستهدفة من قبل الإخوة، وأنها ليست ضمن الأهداف المراد ضربها».
وفي رسالة أخرى يبدو بن لادن مستنكرًا الهجوم والتهديد لإيران، فيقول في رسالة موجهة إلى شخص يُدعى الشيخ كارم: «لا أدري لماذا أعلنتم التهديد على إيران؟ وإن رأيي مخالف للتهديد.. وأناقش مسألة إعلانه، وإنه سياسيًا يُعدّ خسارة لكم». وبرر بن لادن اعتراضه على تهديد إيران، قائلاً: «إيران هي الممر الرئيسي لنا بالنسبة إلى الأموال والأفراد والمراسلات، وكذلك مسألة الأسر».
وهكذا يوضح بن لادن المصلحة مع إيران ويؤكد عليها، وكيف وفرت الملاذات الآمنة للتنظيم وأسره بعد حرب أفغانستان عام 2001 وأنه لا داعي مطلقًا لفتح جبهة معها قائلا: «لا داعي لفتح جبهة مع إيران، إلا إذا كنتم مضطرين لفتحها، لتعاظم أذاها، وإلا إذا كنتم أيضًا قادرين على إلحاق الأذى بها. فالرأي عندي تأجيل فتح الجبهة معها، والانصراف كليًا لتثبيت دعائم الدولة، والقتال ضد الصليبيين والمرتدين».
وهكذا التقى الظواهري مع سلفه بن لادن على عدم استهداف إيران، وظلت إيران تؤمن باستيعابهم والتعاون والتواصل مع قادتهم، وتم تداول أخبار كثيرة عن معسكرات تدريب بالقرب من طهران، وتأكد كونها الملاذ الأمن، وتأكد كذلك الاستثناء الإيراني من عمليات «القاعدة» دون كل العالم العربي والإسلامي.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.