تؤكد التقارير الرسمية الإيطالية والأميركية والأطلسية أن «شن الحرب الشاملة ضد ميليشيات (داعش) وحلفائها في ليبيا» بات وشيكًا. كذلك كشفت تقارير «سريّة» من صناع القرار العسكري والسياسي أن ما لا يقل عن 6 آلاف عسكري تابعة لقوات الحلف الأطلسي (ناتو) بقيادة إيطاليا والولايات المتحدة جاهزون للمشاركة في «عمليات عسكرية واسعة» في ليبيا تدعمها قوات من حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول» التي انتقلت من الخليج إلى جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى جانب قوات أطلسية ستتحرك انطلاقًا من قواعد في مالطا وإيطاليا والنيجر. وفي هذه الأثناء تتباين مواقف الزعماء الليبيين والمسؤولين التونسيين من حرب يتخوفون من مضاعفاتها داخل ليبيا وعلى دول جوارها، وخصوصًا على تونس، التي فر إليها في «حرب 2011» نحو ثلث الشعب الليبي وملايين العمال الأجانب، وهي لا تزال تؤوي مئات آلاف اللاجئين وغالبية الساسة الليبيين وأعضاء البعثات الدبلوماسية والأممية المعتمدة في طرابلس. والسؤال الكبير اليوم في تونس والعواصم الغربية المقربة منها: كيف ستنعكس المستجدات العسكرية والأمنية في ليبيا على تونس وشعبها وثورته التي يعتقد كثير من المراقبين أن من بين «أبرز أسباب تعثّرها حروب ليبيا وأزماتها»؟
محمد جنيفان، سفير تونس سابقًا في ليبيا، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «اندلاع الحرب في ليبيا يعني بالضرورة بروز أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية في تونس بحكم تداخل التركيبة الاجتماعية والقبلية والمصالح في الشعبين والبلدين إلى درجة أن كل الخبراء يعتبرون منذ عقود أن ليبيا وتونس أقرب العرب إلى بعضهم». وفي السياق ذاته، اعتبر صلاح الدين الجمالي، مساعد وزير الخارجية التونسي سابقًا وآخر سفير لتونس في ليبيا إبان عهد معمّر القذافي، أن «الحرب في ليبيا ستعني تفجير مزيد من الأزمات في تونس، وصعوبات بالجملة داخل الجالية التونسية في ليبيا التي تضم عشرات آلاف العمال التونسيين المقيمين في ليبيا منذ عقود».
* أخطر رسالة
وقبل أيام، صدرت «أخطر رسالة» من الميليشيات المسلحة في ليبيا ردًا على «الغارة الأميركية» التي استهدفت بنهاية فبراير (شباط) الماضي مسكنًا يؤوي عشرات المسلحين في مدينة صبراتة الليبية (70 كلم غربي الحدود التونسية - الليبية)، وأعلن أنها تسببت في «مقتل أكثر من 40 إرهابيًا تونسيًا» مقرّبين من مسلحي تنظيمات داعش و«القاعدة» و«أنصار الشريعة».
هذه «الرسالة» تمثلت بتسلل مجموعة من المسلحين التونسيين داخل محافظة مدنين، في الجنوب الشرقي التونسي، وبحوزتها أسلحة ثقيلة ومتوسطة ومتفجرات وأحزمة ناسفة و5 مركبات رباعية الدفع.
ولقد كشف ياسر مصباح، رئيس فريق الإعلام والاتصال لدى وزير الداخلية التونسي الهادي مجدوب، أن قوات الأمن والجيش التونسي اكتشفت المتسللين ونظمت ضدهم «عملية استباقية تحسبًا لتسلل عناصر إرهابية إلى تونس عقب ضربة صبراتة». وأعلن أن عددًا المسلحين من مستخدم مركبات رباعية الدفع، قادرة على التسلل عبر الرمال الصحراوية، حاولوا الدخول للتراب التونسي. وعندما تفطّنت لهم قوات الأمن والجيش، وأطلقت النار عليهم فرّ عدد منهم بمركباتهم وعادوا إلى التراب الليبي، في حين «تحصن عدد من الإرهابيين بأحد المنازل داخل تونس». ولقد أسفر تبادل إطلاق النار مع هؤلاء عن قتل 5 إرهابيين واعتقال 5 آخرين على الأقل. كذلك، كشف الناطق باسم وزير الداخلية التونسي أن قوات الأمن والجيش نجحت في احتجاز 3 مركبات تابعة لهذه المجموعة الإرهابية، إضافة إلى سلاح حربي ثقيل و5 أسلحة كلاشنيكوف ومخزنين لسلاح كلاشنيكوف، وأحزمة ناسفة وكمية كبيرة من الذخيرة ورمانات يدوية وهواتف جوالة.
* عبور.. وعمليات تونس
لكن ما يدعو المراقبين إلى القلق أن تصريحات الناطق الرسمي باسم وزير الداخلية نفسه تقرّ بأن الميليشيا الإرهابية المقبلة من ليبيا «اكتشفت» بعد نجاحها في التسلل إلى الداخل التونسي. ولكن أمكن «تجنب الكارثة» والكشف عن هؤلاء المسلحين في أعقاب عثور أعوان من الحرس الوطني - قبل ساعة من حدوث الاشتباكات - على «مخزن ذخيرة فارغ» ملقى على الأرض في أحد الطرق الجانبية المؤدية إلى مدينة بن قردان الحدودية مع ليبيا. وبعد اقتفاء آثار المركبات الرباعية الدفع، وجد أعوان الحرس الوطني هذه المجموعة الإرهابية. ولئن كشفت هذه الرواية عن نجاح الإرهابيين الآتين من ليبيا في التسلل إلى تونس، وبحوزتهم جوازات سفرهم التونسية، فإنها تؤكد أن الكشف عنهم حصل بسبب غلط ارتكبه أحدهم لما ألقى مخزن الذخيرة الفارغ في الطريق.
لهذا اعتبر الجنرال محمد المؤدب، المدير العام السابق للأمن العسكري والقمارق (الجمارك) التونسية في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحرب في ليبيا لا مفر منها، وهي الطريق الأسلم لاعتقال الإرهابيين أو قتلهم في ليبيا قبل تفكيرهم في استخدام تونس معبرًا نحو أهداف في تونس أو وجهات إقليمية ودولية جديدة». ورأى المؤدب أن «الحرب المقبلة في ليبيا ستعني كذلك استفحال المخاطر والأزمات الأمنية والاقتصادية والسياسية في تونس لأن كل المؤشرات توحي بوجود آلاف الشباب التونسي والعربي والأفريقي الذي تدرّب على السلاح في معسكرات سرت ودرنة وبنغازي وصبراتة في ليبيا. وسيعمل هؤلاء على الفرار من قصف طيران (ناتو) وسلاح الجو الليبي ومن سيناريو الاعتقال عبر الفرار إلى الدول المجاورة عبر التراب التونسي.. مع إمكانية تنظيم بعضهم هجمات جديدة في تونس».
* مخاوف حقيقية
وفي الوقت الذي تحاول قوات الأمن والجيش الوطني إثبات نجاحها في مراقبة الحدود التونسية الليبية بعد بناء منطقة عازلة وجدار رملي كبير يغطي 200 كلم من الحدود الصحراوية ذات الـ500 كلم، أعلنت مصالح القمارق التونسية عن حجز معدات وأسلحة جديدة تابعة لإرهابيين حاولوا التسلل من ليبيا إلى تونس بعد عملية صبراتة. وبالفعل عثرت قوات حرس هذه المصالح وفق إعلانها أخيرًا في «المنطقة العازلة» على مركبة جديدة رباعية الدفع تابعة لمجموعة إرهابية، تحمل قاعدة رشاش وذخيرة وجوازات سفر وملابس مستعملة. كما عثرت قوات الأمن الديواني الحدودي على مركبة رباعية الدفع تحمل أيضًا قاعدة رشاش وذخيرة كلاشنيكوف، ليرتفع بذلك عدد السيارات التي عثر عليها في ظرف يومين فقط.
هذه الاكتشافات الأمنية أثارت مزيدًا من المخاوف في صفوف المواطن التونسي ورجال الأعمال والمستثمرين التونسيين والليبيين - وخصوصًا في الجنوب التونسي - «حيث تعددت في الأسابيع القليلة الماضية محاولات إقامة مشاريع تونسية ليبية جديدة»، وفق عبد الحفيظ السكروفي، رئيس المجلس الأعلى للأعمال التونسي الليبي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط».
* نصف مليون ليبي
السكروفي قدّر عدد الليبيين المقيمين بصفة دائمة في تونس حاليًا بنحو نصف مليون مقيمًا مسجّلاً. لكنه أردف أن عددهم انخفض كثيرًا العام الماضي «بسبب انخفاض قيمة الدينار الليبي بنسبة تجاوزت الـ70 في المائة، واستفحال الصعوبات المالية والاقتصادية في ليبيا، وعجز غالبيتهم عن تسديد تكاليف الإيجار والعيش في تونس». ويتوقع السكروفي الآن أن تتعقّد الصعوبات المالية والاجتماعية في أغلب المؤسسات الطبية والسياحية التونسية إذا مدّدت الأزمة الليبية ولم يحسم ملف الإرهاب والحروب فيها. وللعلم، كان عدد اللاجئين الليبيين في تونس قد بلغ في فترة سابقة، حسب وزارة الداخلية التونسية، مليونًا و650 ألفًا غالبيتهم من غرب ليبيا أو من بين العائلات التي لديها مرضى وجرحى قدموا إلى تونس للعلاج.
ومن جهة ثانية، أبلغ المحامي التونسي فريد نصري «الشرق الأوسط» أن الشركات الطبية الليبية التي يمثلها في تونس أغلقت أبوابها أو تراجع دورها «بعدما كان بعضها في عهد القذافي، ثم في السنوات الأولى للثورة، يجلب سنويًا لتونس عشرات آلاف المرضى ومرافقيهم ضمن ما يسمى بـ(السياحة الطبية الليبية في تونس)». وفي الاتجاه ذاته، يخشى الإعلامي الليبي المقيم في تونس فؤاد عوام أن تؤدي الحرب المرتقبة في ليبيا إلى فرار عشرات الآلاف من الجرحى وأفراد عائلاتهم إلى تونس من دون أن تكون لديهم قدرة مالية على تغطية علاجهم ونفقات إقامتهم، بعد وصول أغلب مؤسسات التأمين الليبية إلى ما يشبه الإفلاس والعجز.
ومن جانبه، أوضح البرلماني التونسي أحمد العماري أن 15 مصحّة طبية خاصة كبيرة أنجزت في تونس خلال الأعوام القليلة الماضية لمواكبة إقبال ملايين المرضى الليبيين الميسوري الحال على تونس. لكن «حرب مطار طرابلس» في صيف 2014، وما أعقبها من أزمات وحروب، تسببت في تراجع الموارد المالية لليبيين مما تسبب بـ«إفلاس» أصحاب هذه المصحّات والحد من الزوار الليبيين في الفنادق التونسية، خصوصًا في منطقة جربة - جرجيس السياحية القريبة من الحدود الليبية وفي مدينة صفاقس، عاصمة الجنوب التونسي، (270 كلم جنوبي شرقي العاصمة تونس).
أيضًا، في ظل الأزمة التي تمرّ بها قطاعات السياحة والصناعات التقليدية والخدمات التونسية منذ الهجمات الإرهابية على متحف باردو بتونس العاصمة قبل سنة، ثم على منتجع سوسة السياحي في شهر رمضان الماضي، يواجه الاقتصاد التونسي عامة - وقطاع السياحة خاصة - حسب الخبير الاقتصادي جمال عويديدي «خطر الانهيار بصورة نهائية ما لم يتوافد السياح الليبيون والجزائريون بكثافة من جديد».
* أزمة متعدّدة الأوجه
وحقًا، يجمع التونسيون والليبيون على كون الشراكة الاقتصادية بينهما كانت دائمًا «فرصة ملموسة» لخدمة مصالح الشعبين والبلدين. ويسجل الخبير الجامعي منصف ونّاس أن الأزمات التي مرّت بها العلاقات التونسية الليبية في عهد الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي لم تمنع الشعبين من ابتكار أساليب لتطوير المبادلات التجارية القانونية وغير القانونية في الاتجاهين. وفعلاً، قدر سفير ليبيا بتونس سابقا أحمد النقاصة القيمة الحقيقية للمبادلات في الاتجاهين بأكثر من 8 مليارات دولار، أي ضعف قيمة المبادلات مع فرنسا التي توصف دومًا بكونها الشريك الأول لتونس. غير أن محمد المعلول سفير ليبيا الحالي لدى تونس يتحدث عن «تراجع فرص تشابك المصالح اليوم بين الشعبين التونسي والليبي بسبب انتشار الإرهاب والعصابات المسلحة في ليبيا، واستفحال المشكلات المادية لليبيين المقيمين في تونس ولمئات آلاف التونسيين الذين كانوا يعتمدون في استثماراتهم الصناعية والخدماتية والسياحية على السوق الليبية».
أما محمد نوّار نائب رئيس مجلس الأعمال التونسي الليبي، فيعرب عن انزعاج التونسيين والليبيين المقيمين في تونس منذ سقوط القذافي في 2011 من ظواهر اجتماعية «سلبية» جديدة من بينها حرمان نسبة كبيرة من أطفال ليبيا وشبابها من الدراسة والرعاية الثقافية والاجتماعية والنفسية، بسبب الفرار من بؤر التوتر في ليبيا وتعقيدات مرحلة الصراعات المسلحة. وبالمناسبة، كانت وزارة التربية التونسية قد أصدرت قرارًا استثنائيًا يسمح للأطفال والشباب الليبيين بالدراسة مجانًا في المدارس والمعاهد والجامعات التونسية على غرار نظرائهم التونسيين، بيد أن نسبة كبيرة من الطلبة الليبيين عجزوا عن الاندماج تربويًا وتعليميًا في المؤسسات التونسية.
ولئن نجحت أطراف ليبية في تأسيس خمس مدارس ليبية خاصة بالطلبة الليبيين في تونس، فإن طاقة استيعابها تظل أقل بكثير من عدد الأطفال والشباب، الذي يظل منذ خمس سنوات محرومًا من الدراسة. ولذا يخشى عدد من الخبراء وعلماء النفس والاجتماع، مثل المهدي مبروك والمنصف وناس، أن يتسبب حرمان أعداد هائلة من هؤلاء الأطفال والمراهقين من الدراسة في دفعهم نحو «الحلول اليائسة»، وبينها الانضمام يومًا ما إلى الجماعات المتشددة والتنظيمات المسلحة.
كما تتخوف رئيسة مركز دراسات الأمن الشامل بدرة قعلول من أن تتسبب الحرب الأطلسية المقبلة في ليبيا «في ضخ الميليشيات المسلحة الليبية والتونسية المقيمة في ليبيا بمزيد من المتطوعين» للقتال من بين الشباب المتأثر بمقولات متشددة وبسياسيين سيوظفون التدخل العسكري الإيطالي والأميركي والفرنسي البريطاني من أجل تعبئة مزيد من الأنصار «للجهاد في سبيل الله وطرد الغزاة الجدد».
في كل الحالات تبدو تونس وليبيا مقبلتين على مرحلة جديدة من الصعوبات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والأمنية قد تزيدها خطورة صراعات السياسيين وصناع القرار في البلدين، وغياب مواقف واضحة لديهم من استراتيجية مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة ومن سيناريو تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة في طرابلس.