أصبحت كتب الحوارات الفلسفية «على الموضة» هذه الأيام في فرنسا. فما إن انتهينا من مذكرات لوك فيري وحواراته حتى شغلنا بمذكرات أندريه كونت سبونفيل. وهو لمن لا يعرفه أحد فلاسفة فرنسا المعدودين بالإضافة إلى فيري ذاته وريجيس دوبريه وآخرين. وفي هذا الكتاب يتحدث المؤلف عن مساره الفكري على مدار ثلاثين سنة متواصلة. إنه يتحدث عن طفولته المعذبة الشقية بسبب مرض أمه وجنونها وانتحارها. وكان يحبها إلى درجة العبادة ويكره أباه كرهًا شديدًا بسببها أو بسبب معاملته القاسية لها. لم يغفر له فعلته تلك أبدًا. وظل ناقمًا عليه وحاقدًا.
وهذا الحدث الأساسي هو الذي دشن حياته وجعل منه فيلسوفًا حقيقيًا. فهو يتفلسف لكي يفهم سبب العذاب البشري ولكي يحل قصته الشخصية أيضا. «فلا أحد ينجو من طفولته مهما حاول»، كما يقول هذا الفيلسوف المهم. والحياة حلوة وحنونة دون شك، ولكنها قد تكون هشة أيضًا بل وخطرة جدًا. والفلسفة علاج أو عزاء لمن لا عزاء له في هذا العالم. وكذلك الشعر.. ولكن الدين أيضًا يمكن أن يكون عزاء ودواء مهدئًا ومسكنًا لمن يؤمن به. وهو إيمان فقده فيلسوف الفرنسيين كالكثير من مثقفي جيله اليساريين. وبالتالي لم يبق له إلا الفلسفة. فراح يغوص في جنباتها وأعماقها ويطلع على نظريات كبار الفلاسفة منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم مرورًا بمونتيني وديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل ونيتشه وهيدغر وعشرات غيرهم. فالرجل مطلع على تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره. والحق أنه لا يمكن أن تصبح فيلسوفًا حقيقيًا قبل أن تطلع على نظريات كبار الفلاسفة. كما لا يمكن أن تصبح شاعرا قبل أن تطلع على أعظم القصائد وتنجبل بها وتهضمها ثم تنساها! والشيء الممتع هنا هو أنه يعطينا رأيه في فلاسفة عصره وفلاسفة العصور الغابرة. ونفهم منه أنه يفضل سبينوزا على نيتشه. لكن ما قراءاته الفلسفية الأولى؟ بمن تأثر في بداية شبابه؟ على هذا السؤال يجيب أندريه كونت سبونفيل قائلا إن أولى كتب الفلسفة التي قرأها وحتى قبل البكالوريا هي كتاب «الأفكار» الشهير لباسكال، و«الخشية والارتعاش» لكيركيغارد، و«أسطورة سيزيف» لألبير كامو. ثم تلاها «الوجود والعدم» لسارتر و«علم ظاهريات الإدراك والتصور» لميرلو بونتي.. ولكن الفلسفة الوجودية أضجرته بسرعة فانصرف عنها. وغطس عندئذ في كتب أبيقور وسبينوزا وماركس وفرويد وألتوسير وكلود ليفي ستروس. فقد بدت له أكثر إضاءة وأكثر قوة وأكثر صحة وإنقاذا أو علاجا! والشيء الذي أعجبه لدى باسكال وكيركيغارد وألبير كامو هو رفضهم التعزي بسرعة أو بسهولة من ضربات الحياة، وميلهم للألم والعذاب والقلق والشقاء: أي إلى كل ما نتحاشاه في حياتنا ولا نأمله لأحبائنا. بمعنى آخر فإن تركيزهم على البعد التراجيدي في الوجود أعطاهم قيمة كبرى في نظره، لأن طفولته كانت تراجيدية كما ذكرنا. والبعد التراجيدي أو المأساوي للحياة ليس قمة الفرح على عكس ما يزعم نيتشه. وإنما هو الشعور المخيف باللاعزاء في هذا العالم أو قل الأخذ بعين الاعتبار كل ما هو بشع ومرعب ومخيب في الشرط البشري. ولكن ألا تكمن هنا تعاسة الإنسان دون الله أو دون الإيمان بالله؟ السؤال يطرحه أندريه كونت سبونفيل على نفسه وبحق. ولكنه مطروح على كل الفلسفة الإلحادية والتراجيدية الغربية المعاصرة. بل ومطروح حتى على أدب العبث ومسرح اللامعقول وبانتظار غودو إلخ.. ويعترف المؤلف بأنه حاول أن يهرب من هذا التراث الفلسفي التراجيدي عن طريق تبني الفلسفة المادية على طريقة أبيقور وماركس، أو الفلسفة العقلانية المحضة على طريقة سبينوزا ولكنه لم يستطع أن ينجو بجلده من القلق التراجيدي للوجود. وبالتالي فحياته كلها تذبذب بين باسكال وسبينوزا. سبينوزا أكبر فلسفيا في رأيه ولكن باسكال أعمق سيكولوجيا.
ثم ينتقل المؤلف إلى فكرة أخرى تخص العلاقة بين الفلسفة والأدب. ويقيم هنا مقارنة بين فلاسفة فرنسا والفلاسفة الألمان. ويرى أن خصوصية الفلاسفة الفرنسيين هي أنهم كانوا جميعا تقريبا كتابا كبارا. فديكارت لم يكن فيلسوفًا كبيرًا فقط وإنما كان كاتبا كبيرا أيضا.عندما تقرأ كتابه «التأملات الميتافيزيقية» تشعر بأنه عبارة عن قصة روح، قصة شخص يبحث عن الحقيقة والنجاة والحكمة بوسائل العقل الخاصة.
إنه شخص حائر ولكنه أصبح واثقا من نفسه بعد أن توصل إلى المنهج الموثوق والحقيقة الراسخة. ولكنه لم يتوصل إلى بر الأمان قبل المرور بمرحلة الشك والقلق والعذاب. بل ووصل به الشك في لحظة ما إلى حافة الجنون. ولكن الفلسفة كانت بالنسبة له خشبة الخلاص. ويمكن القول إن معظم الفلاسفة الفرنسيين الآخرين كانوا كتابا كبارا. يكفي أن نذكر اسم جان جاك روسو هنا أو فولتير أو مونتسكيو أو ديدرو. وفي المعاصرين أضف إليهم بيرغسون وجان بول سارتر وألبير كامو إلخ.. أما فلاسفة الإنجليز والألمان فقد كانوا عباقرة من دون، شك ولكنهم ليسوا كتابًا بالمعنى الأدبي للكلمة. هذه خصوصية فرنسية. لا ريب في أن هوبز ولوك وهيوم ولايبنتز وكانط وهيغل هم من أضخم الفلاسفة. ولكنهم على المستوى الأدبي لا شيء تقريبًا. بمعنى أنهم يكتبون بلغة عادية جدا، بل ونثرية وعرة مملة في معظم الأحيان. ثم يردف المؤلف: «أقول ذلك على الرغم من أني أعتبر كانط أكبر فيلسوف في الأزمنة الحديثة كلها. والله يعلم أني لست كانطيًا! ولكن الحق أحق بأن يقال. وأعتبر أرسطو أعظم فيلسوف في العصور القديمة كلها (بين قوسين قال لي كاستورياديس عندما قابلته في منزله بباريس قبل ربع قرن لصالح مجلة (الكرمل) بأن أفلاطون هو أعظم عبقرية فلسفية ظهرت في تاريخ البشرية. وهو يوناني الأصل ويعرف عما يتحدث..).
ولكن سبونفيل يعترف باستثناء كبير للألمان: هو نيتشه! فمن يستطيع أن يقول إن نيتشه يكتب بشكل رديء ككانط مثلا؟ يجب إعدامه فورا! نيتشه لا قبله ولا بعده من حيث قوة الأسلوب وجاذبية النص. إنه عبقري هائل لغويا وشاعر مجنون. أو قل إنه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء كما قيل سابقا عن المعري. وأما التوحيدي فهو أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء تماما كمونتيني الذي يحبه المؤلف كثيرا.. وأما الجاحظ فهو فولتير! من يكره الأسلوب الساخر الضاحك للجاحظ أو فولتير ينبغي أن نشنقه! بهجة الحياة أن تقرأ هذين الكاتبين العظيمين.. يكفي أن تقرأ أحد كتبهما لكي تنسى قلق الحياة وملل الوجود. لا داعي لأن تذهب إلى السينما أو إلى المسرح. يكفي أن تفتح على رسائل فولتير أو كتاب البخلاء للجاحظ لكي تموت من الضحك والانشراح.
أخيرا لننتقل إلى محور ثالث في هذا الكتاب القيم ولنطرح هذا السؤال: هل كان نيتشه نازيا؟ النيتشويون الفرنسيون وعلى رأسهم فوكو وديلوز وآخرون يقولون: لك والعياذ بالله! نيتشه كان ضد النازية ولا علاقة له بها من قريب أو بعيد. ولكن الأمور ليست بمثل هذه البساطة كما يقول أندريه كونت سبونفيل. صحيح أن نيتشه عندما مات عام 1900 كان هتلر طفلا لما يتجاوز الحادية عشرة بعد. وبالتالي فكيف يمكن أن يكون نازيا؟ ولكن هناك حقيقة لا نستطيع أن نهرب منها: وهي أن النازيين وجدوا في فكر نيتشه غايتهم وضالتهم. ولذلك بجلوه ورفعوه إلى أعلى مقام واعتبروه زعيمهم الفكري. لماذا لم يتخذوا هيغل قائدا فكريا أو منظرا آيديولوجيا؟ لماذا لم يتخذوا كانط؟ هذا الشيء ليس مصادفة. ففي فكر نيتشه مقاطع وعبارات مخيفة تفسر لنا سبب إعجاب النازيين به. لنضرب على ذلك مثلا العبارة التالية: «ليهلك الضعفاء والفاشلون ولنساعدهم على الانقراض»! ألم يطبق هتلر هذا المبدأ عمليا عندما أمر باستئصال كل من ليس جرمانيا آريا قويا مليئا بالصحة والعافية؟ وعندما تشاهد هتلر وهو يخطب في الجماهير بكل هياج وانفعال، عندما تراه وهو يجذب كل ألمانيا إليه ويكهربها كالمغناطيس، تكاد تتذكر نيتشه و«طلعاته النارية» ذات البلاغة التي لا تضاهى: «أنا لست إنسانا، أنا الديناميت»! يضاف إلى ذلك أن هتلر زار بيت نيتشه مرتين وسلم على أخته إليزابيث، وانحنى بكل وقار أمام تمثال الفيلسوف، في حين أنه لم يفعل ذات الشيء مع كانط أو هيغل. ولا ننسى أن نيتشه صب جام غضبه على القيم التي تفتخر بها العصور الحديثة: كالديمقراطية والاشتراكية والتقدمية وحقوق المرأة والمساواة بين البشر والعدالة الاجتماعية، إلخ.. كل هذه أشياء أخذها النازيون عنه. فقد كانت كتبه إنجيلهم. هل يعني ذلك أن كل نيتشه خطأ في خطأ وأنه لم يضف شيئا يذكر إلى الفكر البشري؟ بالطبع لا، وألف لا. فهناك أفكار عميقة جدا وتحليلات عبقرية يمكن الاستفادة منها. ينبغي أن نفرز الحنطة عن الزؤان، الصالح عن الطالح.
ينبغي أن ننتهي من ذلك الموقف التبسيطي الذي يقول لك: «إما أن نأخذ من المفكر كل شيء، وإما أن نرفض كل شيء»! هذا خطأ. لا يوجد مفكر واحد يؤخذ بكليته. لا يوجد مفكر واحد إلا ويعاني من نقاط نقص أو ضعف. الكمال ليس على هذه الأرض. الكمال لله وحده.
هل الحياة هشة وحنونة إلى مثل هذا الحد؟
أندريه كونت سبونفيل يصدر مذكراته الفلسفية
هل الحياة هشة وحنونة إلى مثل هذا الحد؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة