أحمد مجدي همام ينصب «شَركًا» سرديًا لاصطياد الشخوص

في مجموعته القصصية «الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

أحمد مجدي همام ينصب «شَركًا» سرديًا لاصطياد الشخوص

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

باستعارة من «جون كوين» عن كيف تكتب رواية في مائة يوم، وومضات من أجواء «بورخيس»، يمهد القاص الشاب أحمد مجدي همام لفضائه الفني في مجموعته القصصية «الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة»، الصادرة حديثا عن دار «روافد» بالقاهرة، واصفا ما يكتبه بالتمارين على الكتابة، وهي حيلة ماكرة، أراد من خلالها أن يمنح نصوصه حرية أوسع على مستوى البوح والتجريب وتقمص سير الآخرين والحكي من وراء أقنعتهم، والنبش في حياتهم ومصائرهم من خلال مرآة الذات الساردة، أيضا توفر هذه الحيلة للغة القص أن تجري على سننها وعبلها الواقعي، متخففة من ثقل الرتوش والمجازات الفنية المراوغة التي تثقل المخيلة، وتعطل طاقتها على تفجير المعنى والدلالة من داخل نسيج القص نفسه، وهو ما تحقق في أغلب قصص المجموعة، حيث تطالعنا لغة ساخنة، عارية، تعي ثقل خفتها، محولة فعل القص إلى شرك، لاصطياد اللحظة والمشهد والواقعة، سواء في غبارها اليومي، وظلالها المتشعبة ما بين الماضي والحاضر والغد.
وما بين تمرين وآخر، وبتنويعات لغوية وفنية لافتة، يجدد الكاتب غواية شركه القصصي، لكنه يحافظ دائما على سقف من الفاتنازيا والسخرية والتهكم والمفارفة واللعب مع الذات والآخر، في مساحات تظل على اتساعها ضيقة وحرجة وخطرة أحيانا، لكنها في كل الأحوال تتمتع بقدر عال من الإثارة والطزاجة والحميمية، فنيا وإنسانيا، في الوقت نفسه.
يدفع الكاتب شخوصه إلى الحافة دائما، ليسقطوا بإرادتهم في الشرك (شرك القص)، حتى إنهم في أحيان كثيرة تنطلي عليهم حيل اللعبة القصصية، فيتقمصون الدور ببراءة شديدة، وكأنه مرآة لما بداخلهم، أو الزمن الهارب من ضغوط زمنهم الواقعي اللاهث، وهو ما يحدث في قصة «الحادثة النارشوجية»، حيث يوقع السارد، صديقه بطل القصة في مأزق إنساني خطر، محولا حبه لهواية المراسلة إلى شرك، بعد أن سرب له - عبر مقلب مدبر - رسالة مصطنعة من فتاة متوهمة من بلد مجهولة، تعبر فيها عن شغفها به، وحرصها على أن تكون صديقته المحبة.
يرد البطل على الرسالة المدعاة برسالة أخرى أكثر توهجا وشغفا، لكنه يواجه كثيرا من المفارقات المضنية؛ بداية من موظف البريد الذي يسخر منه والبلدة المتوهمة التي يريد أن يرسل إليها الرسالة، مصرا على أن صديقته تقطن بها، ثم تحاصره كنيته الجديدة التي شاعت على أفواه الناس في الشارع وفي المدرسة: «أيمن النارشوجي». الطريف أن البطل يتوحد بهذه الشخصية/ الوهم، ويناجيها كأنها موجودة بالفعل، حتى بعد اعتراف صديقه له بحقيقة الأمر، وهو ما يوقعه في كثير من المفارقات التي أثرت على مجرى حياته، كان أكثرها إيلامًا دخوله مصحًا للأمراض العقلية والنفسية.
في هذا الفضاء المحموم بالفانتازيا لا يخجل الراوي، وفي قصة بالعنوان نفسه، من أن يصف نفسه بأنه «حرامي ولاعات»، بل يتباهى بذلك، متقبلا مصائر فعلته وما ينجم عنها من مفارقات وورطات إنسانية. وبروح محارب مهزوم، يسلم سيفه طواعية للفائز، الذي يتصادف أنه أحد مدمني هذه السرقة أيضا، حين يخاطبه قائلا بعد أن كشف لعبته البائع في السوبر ماركت: «هو أنتَ.. ثم ضحك، حاولت أن أقول شيئا، فتلعثمت. مد يده، فوضعت الولاعة في كفه صاغرا، واستدرت لأغادر. استوقفني. طلب مني ألا أبالي، وقال لي إنه أيضا حرامي ولاعات، وإن هذه الولاعة بالذات مسروقة».
هذه الجرأة في احتواء المهمش والمسكوت عنه، وكسر الحواجز والعقد السميكة، على مستوى زمن القص واللغة والنبش فيما وراء الأشياء والعناصر، وخلخلة إيقاع الحياة الرتيب، لا تمنح مشهد القص طزاجة أو إثارة عابرة فحسب؛ وإنما تساهم فنيا في تضييق المسافة بين الضمائر الساردة والمسرود عنها، مما يجعل فعل القص نفسه بمثابة لحظة انفلات أو انفجار مباغت لطاقات وحيوات مكبوتة في الداخل، تمارس حريتها بتلقائية شديدة على مسطح الورقة في الخارج، وكأن فعل القص نفسه فعل انعتاق وتحرر من أوهام الذات والماضي والحاضر.
بهذه الطاقة يستعرض الكاتب نماذج من حياة أصدقائه ووالده، ويعري مساحات المهمش والمخفي في طواياها، فتبدو كشريط سينمائي متقطع، يختلط فيه الجد بالهزل.. لحظات الفرح وحيوية الروح والشباب، بلحظات المرض والشيخوخة والوحدة والانكسار. وأيضا لا يخجل من أن يدس في قصته التي يستهل بها المجموعة «كيف تثقب وجهك بقصيدة»، عبارات صادمة للقارئ على لسان بطلتها الناشطة الحقوقية، مثيرا من خلالها تساؤلات عن معنى الحياء نفسه، وهل هو مجرد صرعة للخروج عن المألوف، أم ضرورة فنية فرضها نسيج القص، ثم تبلغ ذروة هذه الجرأة في قصة «الأستاذة» حين تصبح مراوغة الخجل مجرد قشرة وقناع هش لحيوات مكبوتة، تكمن في ظلالها لذة هاربة من متاهة الجسد والروح، بين رجل وامرأة، تقودهما مصادفة الرغبة والحياة في صناعة مشهد خاطف، يظل أشبه بأيقونة استثنائية في هذه المتاهة.
وعلى هامش شرك القص، يوسع الكاتب أفق الحكاية، معنونا كل تمرين باسم شخص معين؛ ذكرا أو أنثى، أو رموزا لشخوص معينة؛ سياسيين وكتابا وشعراء وفنانين، وكأن شهوة الكتابة لا تتحقق إلا عبر وسيط، أيا كانت طبيعة وجوده وهويته، المهم، أن تتوافر فيه (الوسيط) نوازع للإثارة، صالحة لإثارة الدهشة والسؤال، حتى لو أسفرت محصلة التمرين في فضائهما عن اصطياد؛ نكتة أو قفشة أو مفارقة إنسانية عابرة، أو رسم صورة كاريكاتورية لمشهد ما، أو قنص حالة ما من حالات الوجود الحرجة؛ الناقصة والمبتورة دائما، في مغامرة القص والواقع معا.
يدرك القاص ذلك، ويبدو مستمتعا بلعبته السردية، وينجح في إيهامنا بأنها لعبة غفل، ابنة المصادفة، مثلما في قصة «الشطحة الأرمنية»، فأجواؤها تتشكل عبر محضر في الشرطة عن فقد البطل هاتفه الجوال، ومقابلته بالصدفة بطلة القصة المرأة الأرمنية الستينية، التي تزيد المشهد غرابة بإصرارها على تحرير محضر لجيرانها بدعوى أنهم يصدرون لها طاقة سلبية، وينتهي المشهد إلى رصد لتاريخ الأرمن، وتحولات زمنهم، والمذبحة الشهيرة التي تعرضوا لها على يد الأتراك.
وتكشف قصة «الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة» التي وسمت عنوان المجموعة، وجه الفن الحقيقي، المفتوح بعفوية على براح الواقع والحلم، في مواجهة الفن المعلب المؤطر لخدمة مصالح وغايات آيديولوجية محددة، فـ«شيكو» البطل المغني سيئ الحظ يتجاوز بغيتاره الأعزل عتمة شقوق كوخه الذي هو عبارة عن سرداب متهالك بإحدى بنايات وسط البلد، ويتحول بموسيقاه وأغانيه البسيطة إلى أنشودة لحلم جماعي عن معنى الحب والحرية والأمل.
من الأشياء اللافتة في المجموعة رحابة المشهد وبساطته، كما أنه ينمو ويتصاعد بشكل طبيعي، في ظل حراسة من الذات الساردة، التي تشبه عين طفل يراقب من بعيد بحيادية تامة، وهو ما يطالعنا في قصة «الرجل الذي أطرى عليه زي وانج»؛ حيث يتحول مشهد بطلها «أحمد محرز» وهو يدلي بصوته في الانتخابات الرئاسية، إلى محاكمة شديدة السخرية للواقع سياسيا وثقافيا واجتماعيا، تجري في ثوب استطلاع سردي على لسان مجموعة متباينة من الشخوص، بينهم شعراء وكتاب وفنانون وناس عاديون وأقرباء للبطل نفسه. تكشف المحاكمة الافتراضية، كيف يختزل الوطن في صورة مصطنعة، ومشهد عابر، هو في حقيقته معتم، شديد الالتباس والتناقض، فالبطل المثقف البسيط، الناشط السياسي المستقل الذي لم يكتب سوى ديوان شعر وكتاب آخر به بعض المقالات، ولم يصنع أي بطولة تذكر، ووقف كأي مواطن كادح في طابور الانتخابات مشعلا الأجواء بشعارات مرتجلة لمرشحه الخاسر النبيل.. هذا البطل الذي يخوِّنه اليمين ويشك فيه اليسار، أصبح نجم الفضائيات، وانتهى به المطاف «سفيرا للنوايا الحسنة».
ورغم أن مساحات التجريب والشطح والتناص تتسع معاولها بحيوية في هذه المجموعة القصصية المهمة، فإن هناك ازديادا في بعض القصص أفقدها كثيرا من دهشة المغامرة، فمثلا لم نكن بحاجة إلى استعراض تاريخ الأرمن في قصة «السيدة الأرمنية»، خصوصا أنه لا يذهب أبعد من التوثيق التاريخي، كما لم نكن في حاجة إلى اتساع أفق السرد في قصة «نوفيلا لأبي»، خصوصا أن كثيرا منه يندرج في سياق العادي والمألوف، لكن رغم هذا، فإنه نحت أمام عالم قصصي طازج يفتح نافذة حية، خصوصا لفضفضة الروح والجسد معا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!