من السياسة إلى الاقتصاد تحفل العلاقات السعودية - اللبنانية التي يعود تاريخها إلى ما قبل «اتفاق الطائف» الذي كان له الدور الأكبر في إنهاء الحرب الأهلية، بروابط متينة في الحرب والسلم. وتكاد تختصر وصية الملك الراحل عبد العزيز آل سعود لأبنائه بقوله «لبنان وطنكم الثاني»، هذه المسيرة الطويلة التي وأن مرّت بـ«إخفاقات» محدودة في بعض المراحل إنما ليس على مستوى الدولتين، لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم بسبب سياسة لبنان الخارجية وإصرار بعض الأفرقاء وعلى رأسهم «حزب الله» على تحويله ساحة للحرب الإقليمية. ولم يكن قرار المملكة العربية السعودية الأخير بمراجعة العلاقات مع لبنان والتأييد الخليجي له، والذي تمثّل بوقف المساعدات الأمنية والعسكرية، إلا نتيجة لهذا التوجّه، وهو ما كان واضحا في قرار السعودية التي حمّلت حزب الله ووزير الخارجية اللبناني جبران باسيل مسؤوليته.
يصف عضو المكتب السياسي في «تيار المستقبل» راشد فايد العلاقة بين لبنان والمملكة العربية السعودية بـ«علاقة احتضان»، بحيث كانت المملكة تنظر إلى لبنان باعتباره أفضل فرصة للإطلالة إلى العالم العربي، فهي مقهى العرب وأرض ثقافاتهم وتنوع اهتماماتهم على العالم المتقدم». ويضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مما لا شك فيه أن هذه العلاقة كانت دائما تبادلية متكافئة. فاللبنانيون نالوا الكثير من السعودية وهم قدموا لها أيضا». ويؤكد فايد: «لم يحدث مرة أن ساءت العلاقة بين البلدين على الصعيد الرسمي كما هو اليوم. حصل قبل ذلك بعض التوتّر حين كان في لبنان بعض الحركات اليسارية، إنما لم تصل إلى مرحلة إلقاء الأوصاف والمواقف العدوانية التي ترميها اليوم جماعة إيران، حتى إنه وبعد ما يعرف بحرب الـ1967 رفعت في المنطقة الشرقية صورة للملك فيصل بن عبد العزيز فيما رفعت فيما يعرف بالمنطقة الشرقية صورة للرئيس الفرنسي شارل ديغول».
وفي حين لفت فايد إلى «أنّ العالم العربي يتحمّل بعض المسؤولية لناحية ما وصل إليه الوضع اليوم في لبنان، لا، أن التطاول على السعودية بدأ منذ حرب يوليو (تموز) عام 2006 وهي التي أنشأت أطول جسر بري إغاثي للبنان»، يؤكد «أن السعودية محقّة في القرارات التي اتخذتها أخيرا، لا سيما أن كل ما يقوم به حزب الله يؤكد بما لا يقبل الشك هيمنته على مفاصل الدولة واعتماده سياسة التهويل الدائم واستعراض القوة لفرض موقفه على الجميع».
كان القرار السعودي الذي أعلن عنه بداية الأسبوع الماضي بإعادة النظر في علاقاتها مع لبنان ووقف الهبة العسكرية له، والبالغة أربعة مليارات دولار، نظرًا «للمواقف اللبنانية التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين»، قد شكّل مفاجأة في الأوساط اللبنانية التي حملت حزب الله ووزير الخارجية اللبناني جبران باسيل المسؤولية. وأتى هذا القرار بعد المواقف اتخذها باسيل وخرج فيها عن الإجماع العربي، حيث نأى بلبنان عن التضامن مع السعودية وإدانة إيران على خلفية التعدي على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة، ومؤتمر دول منظمة المؤتمر الإسلامي.
وهنا يتطرق أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، الدكتور عبد الرؤوف سنّو، إلى محطات كثيرة مرّ بها لبنان كان للسعودية اليد الطولى في إنقاذه من أزماته بفعل «دبلوماسيتها الوسطية والهادئة»، معتبرا في الوقت عينه أن انكفاء المملكة يعني تقديم لبنان هدية إلى إيران وحزب الله. ويشرح سنّو في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في فترة الحرب الأهلية بذلت المملكة جهودا لافتة رغم تعثرها في بعض الأحيان إلى أن نجحت في التوصل إلى (اتفاق الطائف) الذي أقر بتوافق دولي ورعاية سعودية، وما كان لينجح لولا دبلوماسية الملك سعود الفيصل بن عبد العزيز، وهو لا يزال لغاية اليوم يثبت أنه لا بديل عنه».
ويلفت سنّو «إلى أنه وبعدما وضعت الحرب أوزارها، وتحديدا في عام 1990 دعمت المملكة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في الوصول إلى رئاسة الحكومة وقدمت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي وإعادة إعماره وضخ الرأسمال السعودي حتى وصلت إلى مراحل ومستويات متقدمة في عام 2000».
تحولات ما بعد اغتيال الحريري
لكن ومنذ اغتيال الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005 الذي نتج عنه تحولات في لبنان على مختلف الصعد، «بدأت السعودية تضغط على سوريا التي لطالما كانت تحاول التلاعب باتفاق الطائف إلى أن خرج الجيش السوري من لبنان، لكن المشكلة أنه ومنذ ذلك الحين بدأ حزب الله يمارس سياسته للتحكم بمفاصل القرار اللبناني» بحسب الدكتور سنّو، «وخير مثال على ذلك ما حصل بين عامي 2007 و2008 حين وصلنا إلى فراغ في رئاسة الجمهورية بعد القرار السوري بالتمديد للرئيس إميل لحود ثلاثة سنوات حتى عام 2007، ومن ثم اجتياح بيروت في 7 مايو (أيار) 2008، وبعد ذلك كان لها الدور في إعادة تصحيح الأمور إلى أن تم انتخاب الرئيس ميشال سليمان في 25 مايو 2008».
كذلك يشير سنّو إلى تسجيل بعض الانكفاء للمملكة في عام 2008 عند تهديد السفير السعودي لدى لبنان علي عواض عسيري حينها، بحيث سحبت بعض الودائع ومنع السعوديون من المجيء إلى لبنان، وقبل ذلك عند اشتداد الحملة من قبل حزب الله واعتصامه المفتوح في وسط بيروت عام 2007 بعد استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة على خلفية دعوة الحكومة للطلب من مجلس الأمن الدولي إنشاء محكمة خاصة بلبنان.
ويجد الأكاديمي اللبناني أن البيان الوزاري الذي صدر عن الحكومة بعد اتخاذ السعودية قرارها بوقف المساعدات العسكرية للبنان، كان «مفخخا» لغويا من قبل حزب الله من خلال عبارة «التضامن في القضايا المشتركة»، وهو ما قد يترك الباب مفتوحا أمام التمادي في سياسته.
من جانب آخر، في كتابه «السعودية للبنان، قلوب وسواعد»، يشير الإعلامي منير الحافي إلى أنّه بعد اغتيال الحريري، برزت مرحلتان، «مرحلة حرب تموز»، والمرحلة التي تلتها من اشتداد الخلاف بين «الإخوة الأعداء». موضحا: «في الأولى وقفت المملكة داعمًا قويًا سياسيا واقتصاديا للبنان»، مذكرا بما قاله حينها خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز آل سعود: «إن دعم لبنان واجب علينا جميعًا، ومن يقصِّر في دعم لبنان فهو مقصِّر في حقّ نفسه وعروبته وإنسانيته»، وفي الثانية عملت لتقريب وجهات النظر بين أبناء البلد الواحد، وهنا تجلّى بوضوح «صبر أيوب» في الدور الذي قام به سفير المملكة عبد العزيز خوجة تنفيذًا لتوجهات خادم الحرمين الشريفين في العمل الجاد والسعي والاتصال لتقريب الأفكار المتباعدة.
والجدير بالذكر، أن السعودية ومنذ اليوم الأول لاندلاع «حرب تموز»، وقفت إلى جانب لبنان، وقد سارعت بعد عشرة أيام إلى وضع مليار دولار وديعة في مصرف لبنان، وقدمت هبة بقيمة 500 مليون دولار للمساهمة في إعادة الإعمار كما أرسلت 50 مليونا للمساعدات الإنسانية، كذلك تولت مهمة دفع كل الرسوم العائدة إلى تلاميذ المدارس الرسمية، وهو مبلغ يقدر بنحو 20 مليون دولار، وتبنت إعادة بناء 29 مدينة وقرية وبلدة.
وفي جدول قدمه رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة كرد منه على أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي نسب الأولوية في الإعمار لدولة إيران، أكد أنه ومن أصل المبالغ المالية التي قدمت للمشاريع الإنمائية والتربوية والأمنية والتي بلغ مجموعها 1186 مليون دولار أميركي، فقد بلغت حصة أو مساهمة المملكة العربية السعودية نحو 746 مليون دولار أميركي، أي ما يوازي نحو 63 في المائة من هذا المجموع.
علاقة تاريخية
وتاريخيا، كانت بداية العلاقات بين البلدين هو ما أرساه الرئيس كميل شمعون أول الرؤساء اللبنانيين الذي زار المملكة العربية السعودية، بعد تسلمه سدة الحكم عام 1952 على رأس وفد رسمي رفيع، وكان شمعون موضع حفاوة من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، واتفق البلدان على أهمية الحوار والتفاهم وضرورة التعاون والتعاضد بينهما.
وبعد ذلك، وتحديدا خلال الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975، كان للسعودية دور بارز في محاولات عدّة على خط التهدئة، وقد مرّ لبنان قبل ما يعرف بـ«اتفاق الطائف» بحرب بين أبنائه استمرت 15 سنة، وبلغت الأمور ذروتها مع حصول فراغ في سدة رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، ومن ثم انقسام السلطة التنفيذية إلى حكومتين أولى برئاسة سليم الحص وثانية برئاسة ميشال عون، قبل أن يتفاقم الوضع مع إعلان العماد ميشال عون قائد الجيش بداية حرب التحرير من الوجود السوري في لبنان، فكان أن تداعى العرب إلى عقد قمة لحل الأزمة المتفاقمة في لبنان.
وقد أدى التدهور الأمني في لبنان الذي حدث في أواخر عام 1988 لقيام مؤتمر القمة العربي الطارئ في الدار البيضاء (23 - 26 مايو 1989)، بوضع آلية للوصول إلى تسوية للصراع اللبناني، تمثلت في تشكيل لجنة ثلاثية تضم الملك فهد بن عبد العزيز والملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد، تكون مهمتها الأساسية القيام بالاتصالات والإجراءات التي تراها مناسبة بهدف توفير المناخ الملائم لدعوة أعضاء مجلس النواب اللبناني لمناقشة وثيقة الإصلاحات السياسية، وإجراء انتخابات رئاسة الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني على أن يجري ذلك في غضون فترة أقصاها ستة أشهر.
وفي 16 سبتمبر (أيلول) 1989، أصدرت اللجنة الثلاثية العربية بيان جدة، الذي كان من ضمن قراراته دعوة مجلس النواب اللبناني للاجتماع في 30 سبتمبر 1989، وذلك لإعداد ومناقشة وثيقة الوفاق الوطني، وقد تقرر بعد مشاورات كلف بها الأخضر الإبراهيمي أن يكون مكان الاجتماع مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية. وفي الفترة من 30 سبتمبر إلى 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1989، تم عقد اجتماع استثنائي لمجلس النواب اللبناني في مدينة الطائف السعودية، وتم إقرار وثيقة الوفاق الوطني اللبناني المعروفة باسم «اتفاق الطائف»، التي أكدت هوية لبنان العربية وجاءت بعدد من الإصلاحات في النظام السياسي اللبناني. صُدِق الاتفاق في جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. وهو الذي أصبح فيما بعد بتاريخ 21 سبتمبر 1990 دستورا جديدًا للجمهورية اللبنانية.
القطاع الاقتصادي
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تقل العلاقات السعودية - اللبنانية عن السياسية والدبلوماسية، وهو ما يؤكد عليه رؤوف أبو زكي، رئيس مجلس الأعمال السعودي اللبناني، قائلا: «السعودية احتضنت لبنان سياسيا واقتصاديا منذ اتفاق الطائف وإعادة إعماره بعد الحرب الأهلية وصولا إلى حرب يوليو (تموز) عام 2006، ولم تترك وسيلة من وسائل الدعم إلا وقدمتها إلى لبنان». لكنه يضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «منذ اندلاع الحرب السورية وتورّط بعض الأفرقاء اللبنانيين فيها بدأ هذا الأمر ينعكس على العلاقات السعودية - اللبنانية وما رافقها من توتّر وانقسام لبناني حاد، وتحوّل لبنان إلى مسرح للصراع الإقليمي».
ويضيف أبو زكي: «حركة السياحة والاستثمار شبه متوقفة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبعدما كان الأمر يقتصر على نصائح دول الخليج بعدم مجيء مواطنيها إلى لبنان، ها هو اليوم تطور ووصل إلى حد المنع ما سيؤدي إلى تكريس الوضع السلبي القائم». مضيفا: «المشكلة اليوم هي أنه وإضافة إلى القرار الرسمي أصبح هناك (اشمئزاز) شعبيا من قبل السعودية ودول الخليج».
ثم يوضح: «مع انكفاء حركة الخليج السياسية والاقتصادية والسياحية خسر لبنان الكثير من حجم الإنفاق الذي كان في معظمه يعتمد على الإنفاق الخليجي، خاصة أن أكثر من 30 في المائة من السياح هم من الخليجيين، مع التأكيد أن القيمة هي ليست بالعدد بل بحجم الإنفاق الكبير الذي كان هذا القطاع يعوّل عليه من الخليجيين، إذ إن إنفاق كل سائح خليجي في لبنان يوازي إنفاق نحو 200 سائح أوروبي». ويلفت إلى أنّ الاستثمارات السعودية والخليجية شبه متوقفة في لبنان منذ نحو ثلاث سنوات، متوقعا أن تزيد بعد القرارات الأخيرة في انحسار حركة الاستثمار السعودي والخليجي، وهو الأمر الذي كان له تأثير سلبي على الوضع الاقتصادي والنمو وحد من توفير فرص العمل وزاد من هجرة اللبنانيين إلى الخارج.
ومع إشارة أبو زكي إلى أنّ هناك نحو 500 ألف لبناني يعملون في الخليج، 250 ألفا منهم فقط في السعودية، فإنه يفيد بأنّ التحويلات من اللبنانيين المغتربين الموجودين في الخارج إلى لبنان تصل سنويا إلى 8 مليارات، 65 في المائة منها من الخليج. في المقابل، يوجد في السعودية نحو 500 مؤسسة لبنانية تعمل في السعودية، ويديرها لبنانيون كان لهم دور كبير أيضا في الاقتصاد السعودي، وفق أبو زكي. ومع الإشارة إلى أنّ كل لبناني يعمل في الخليج يعيل ما بين 3 إلى 4 أشخاص أي إن ثلث الشعب اللبناني يستفيد من هذه المداخيل، يدعو أبو زكي المسؤولين اللبنانيين إعادة حساباتهم والأخذ بعين الاعتبار مصالح المواطنين في الخليج. ومن هنا، يجد أبو زكي أن أفضل تعبير يمكن أن يطلق على الدور الذي لعبته المملكة في لبنان هو أنه دور «إنقاذي» فهو أكثر من الرعاية ولا يمتّ إلى الوصاية بصلة، وهو دور يعكس تقدير المملكة لأهمية لبنان في المنطقة وأهمية الحفاظ على استقراره وسلمه الأهلي، لأن السعودية تعلم أن أي أزمات يمرّ بها البلد لا بد أن تؤثر على المنطقة. هذا التكامل في المصالح والاحترام المتبادل كان دومًا وعبر السنين الأساس التاريخي المتين الذي بُنيت عليه العلاقات السعودية اللبنانية، وهو أساس لا بديل منه.