عكف العمال التابعون لمجلس المدينة على تغطية النعشين بالتراب، بينما استمر إمام في قراءة دعاء باللغة العربية، مردّدا: «ربنا اغفر لنا خطايانا، واعف عنا».
وغاب جانب أساسي عن المشهد؛ دموع الأقارب والأحباب وأسماء المتوفيين، اللذين أشير إليهما بأرقام فحسب، حيث حمل أحد النعشين رقم: 42453. والآخر: 42454. وتحولت هذه المدينة الساحلية، بالنسبة لمئات الآلاف من اللاجئين الفارين من حروب الشرق الأوسط بحثًا عن الأمان في أوروبا، إلى نقطة عبور. فيما أصبحت بالنسبة لمئات آخرين، وجهتهم الأخيرة.
وقال أحمد التان، إمام بمقبرة دوغانكاي، التي خصصت مساحات لدفن المهاجرين المجهولين الذي يلقون حتفهم في البحر: «إننا نواجه الآن حالات تغرق فيها أسر بأكملها بالبحر، ولا يتبق أحد لتسلم الجثامين». ومع إرسال حلف شمال الأطلسي «الناتو» سفنا حربية لبحر إيجة، في إطار محاولات جديدة لاحتواء تدفق اللاجئين القادمين عبر تركيا باتجاه أوروبا، ما تزال الوفيات في تصاعد، حيث لقي منذ بداية السنة 400 شخص مصرعهم على الأقل، تبعًا لما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة. وتشير الإحصاءات إلى أنه خلال عام 2016 حتى الآن، وصل ما يزيد على 76.000 شخص، أي بمعدل نحو 3.000 يوميًا، إلى سواحل اليونان قادمين من تركيا.
واعتقد المسؤولون أن تكثيف الدوريات من جانب حرس السواحل الأتراك، وانخفاض درجات الحرارة والأمواج العاتية بالبحر، سيخففان من الإقبال على العبور على الجانب الآخر من البحر المتوسط، إلا أن هذه العوامل لم تؤثر إلا بشكل ضئيل على أعداد اللاجئين المتدفقين على أوروبا. بل إن وتيرة محاولات العبور ارتفعت خلال الأسابيع الأخيرة، مع سعي اللاجئين اليائسين للاستفادة من انخفاض الرسوم التي يفرضها المهربون عادة خلال الشتاء، عندما تزداد مخاطر الرحلة بحرا. إلى ذلك، يتوقّع المسؤولون الأتراك أن تزداد الأعداد بدرجة أكبر، مع قدوم موجة جديدة من الفارين من غارات القصف الروسية المكثفة، والهجوم الذي تشنه القوات الحكومية السورية بالقرب من حلب هذا الأسبوع.
وعن ذلك، قال مهدي، 36 عامًا، وهو لاجئ سوري ومدرس سابق كان يستعد للقيام بالرحلة إلى السواحل الأوروبية برفقة زوجته وطفلين يبلغان من العمر 11 و3 سنوات، إنه «ليس أمامنا خيار سوى الرحيل الآن. لقد أصبح من الصعب بالفعل الوصول لأوروبا، وسيزداد صعوبة لأن هذه الدول تفضل أن نغرق على أن نعيش على أراضيها».
أما بلال (35 عامًا) فانطلق في رحلته باتجاه اليونان على متن قارب خشبي، حمولته 30 شخصا، مع زوجته وثلاثة أطفال (10 و8 و6 سنوات)، إلى جانب 34 بالغًا آخر و15 طفلاً. وقال: «لم يستطع المحرك تحمل الوزن، وتعطل عن العمل في منتصف الرحلة. بعد ذلك، انقلب القارب ووجدنا أنفسنا جميعًا في المياه شديدة البرودة». وتشبثت زوجته باثنين من أطفالهما، وربطت سترتي النجاة الخاصة بهما بسترة النجاة التي يرتديها، لكن لم يكن باستطاعة أي منهم السباحة. وتسبب التيار القوي للمياه في تحركهما بعيدًا عن بعضهم البعض. وتابع: «ظللنا بالماء ما يزيد على الساعتين، قبل قدوم حرس السواحل. ورأيت الناس من حولي يموتون واحدً تلو الآخر». وبدأ نجل بلال، إبراهيم (6 سنوات)، إثر ذلك في التقيؤ دمًا، بينما غابت ابنته عن الوعي، لكن نجح أفراد الأسرة في النجاة. أما أبناء ابن عمه الثلاثة الذين كانوا معه على متن القارب، فقد غرقوا جميعًا مع 18 راكبا آخر.
وعن هذا، قالت زوجته، خلود: «أصبح الموت قدرنا، فإما أن تموت من القصف في سوريا أو تموت في البحر».
وتتجلى المأساة الإنسانية بكامل أبعادها داخل أكبر مشرحة في إزمير، حيث فاقت أعداد الجثث الواردة إليها قدرتها مؤخرًا، وتعمل المشرحة الآن على توسيع نطاق قدرتها لتوفير مزيد من المساحة للجثث المتدفقة. وتكشف صور المهاجرين المتوفين أن الغالبية من الأطفال، بعضهم بعمر صغير لا يتجاوز 4 شهور.
وقال مسؤول بالمشرحة، رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول له الحديث لوسائل الإعلام، إن «أصعب جزء في عملنا استقبال جثث الأطفال، إنهم في أعمار كان ينبغي فيها أن يلعبوا ويمرحوا في البحر، لكن بدلاً من ذلك تقذف الأمواج أجسادهم واحدًا تلو الآخر». وشرح أنه بمجرد قدوم جثث اللاجئين إلى المشرحة، يجري الاحتفاظ بها مدة 15 يومًا لتوفير وقت للأقارب للتعرف على ذويهم وتسلم جثثهم. وحال عدم التعرف عليهم خلال تلك الفترة، يجري قسم الطب الشرعي تشريحًا للجثث ويسجل الحامض النووي الخاص بها. ويجري تغسيل وتكفين كل جثمان، تبعًا للشريعة الإسلامية، قبل إرساله للمقبرة حيث يجري الأئمة مراسم دفن إسلامية كاملة. وقال الإمام التان: «قررنا توفير مقابر خاصة للاجئين، لجعل عملية التعرف عليهم سهلة قدر الإمكان، حتى بعد دفن الجثامين. ولدينا منظومة كاملة لمساعدة الأسر على تحديد جثامين أبناءها ولو بعد 100 عام».
في المتوسط، يقيم الأئمة الأربعة العاملين بالمقبرة مراسم خمس جنازات يوميًا، لمواطنين أتراك ومهاجرين. ويقولون إنهم ما يزالون يعانون من وطأة عدد المهاجرين المجهولين الذين أشرفوا على مراسم دفنهم العام الماضي. وقال التان: «أصبت بانهيار لدى دفني طفل يبلغ 3 شهور فقط. وعجزت عن السيطرة على نفسي. إنه من الصعب قبول هذا الوضع، لأن هذه الوفيات يمكن منعها من جانب السياسيين، لكنهم لا يفعلون ذلك، بل ويزداد الأمر سوءا».
وبعد عاصفة استمرت ثلاثة أيام، تدفق اللاجئون على الكثير من نقاط المغادرة عبر الساحل، متلهفين للرحيل قبل قدوم عاصفة جديدة. ووقفت قمر، أم لثلاثة أطفال، حاملة طفلها البالغ 5 شهور تتطلع باتجاه البحر، وقالت: «أشعر بالفزع على سلامة أطفالي، لكنها مغامرة يجب أن نخوضها. الكثيرون يموتون، لكن كثيرين آخرين ينجون. الله وحده سيقرر مصيرنا».
* خدمة «نيويورك تايمز»
المقابر التركية.. المقر الأخير لمئات اللاجئين السوريين
اضطروا إلى الاختيار بين الموت قصفًا أو غرقًا
المقابر التركية.. المقر الأخير لمئات اللاجئين السوريين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة