«دابق» وتصوّر الزمن عند الجماعات المتطرّفة

الوعد الداعشي بين الهجرة إلى الشام.. ونهاية الزمان

«دابق» وتصوّر الزمن عند الجماعات المتطرّفة
TT

«دابق» وتصوّر الزمن عند الجماعات المتطرّفة

«دابق» وتصوّر الزمن عند الجماعات المتطرّفة

وقف اللغويون بمفهوم الزمن عند حدود الإحساس بالوقت، فالزمن هو طول الوقت - خاصة - أو قصره، ومنه القول الشائع مرض مزمن! لكن الزمن، منذ أرسطو وحتى ظهور ما يسمى السنوات الضوئية، هو حركة واتصال، يقيس المنجز البشري كما يقيس مسافات الكون. بينما يبدو تعبير «الوقت» استاتيكيًا وفرديًا، يحمل مفهوم الزمان دلالات حضارية وسياسية وجدلية دائما، هو فعل الإنسان في التاريخ وتعاطيه مع تحدياته، وهو ما استلهمه الفلاسفة والمفكّرون لربط الزمن فلسفيًا، بالمفاهيم الشغالة والحاكمة في حقب زمنية ما.
تحدث الفيلسوف الكبير هيغل عن الأزمنة الحديثة كعلامة على ظهور الحداثة وتحكم مفاهيمها ومنظومتها في الغرب بين القرنين السابع عشر والعشرين، ويقال الزمن ما بعد الحديث عند ليوتار في سبعينات القرن الماضي، في إشارة لاستنفاد الحداثة مفاهيمها وظهور ما بعد الحداثة وما بعد الحتميات الكبرى، بل غلب استخدام فاصلة «الما بعد» كإشارة للفاصل الزمني وصيرورة التحدي البشري في التاريخ، فكان ما بعد الحرب الباردة وما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما بعد البنيوية.. إلخ.
بعبارة أبسط، يفضي إيقاف الزمن يُفضي إلى توقُّف الحركة وإلى توقُّفه هو، بالتالي، وإلى تجمد العالم بأسره! ولعل إدراكنا المحدود للزمن يُعزى إلى حقيقة كونه لغةً للتعامل مع الأحداث، أو قياس زمنيتها، ولكنه في الحقيقة قياس لمسافات الكون كما أنه مضمار ومسار للتطور الحضاري والإنساني.
أولاً: سمات التصوّر الداعشي للزمن:
- الزمن المحدد سلفا: فكل الأحداث سبق رصدها والتلميح أو التلويح بها في الماضي، المصدر الوحيد للمعرفة والتعرف عند هؤلاء، ولكن في زاوية واحدة منه، أو من زاويتهم فقط! إنهم غالبًا لا يحددون موعدا لتحقق الحدث المعروف سلفًا، لكنهم يلحون على مصادفته لما يشبهه مما يرون. فالبغدادي «الخليفة القرشي» المزعوم في آخر الزمان - رغم تشكيك بعض نسّابة بغداد في نسبه - ينطلق من النبوءة، متجاهلا تعدد رواياتها وتتعارض أحيانًا مع روايات أخرى أكثر منها صحة في مصادره، مصرا وفقط على أي شاردة تصادفه أو يسعى لمصادفتها.
- تجاهل الواقع ومحايثته: يفتقد الزمان في الوعي الداعشي زمنيته متمثلة في الوعي بالواقع، أو اتصاله بالماضي والمستقبل، ويبدو لحظة شعور ممتدة ومنعزلة لتحقيق الوعد أو الانتصار، غير مرتبط بزوامنها أو بسياقاتها وغير قادر معها على المراجعة، فيصيح الجمع الداعشي وفقط «موعدنا دابق».
- الزمن فرصة تحقيق النبوءة: هكذا يحضر ويتقد وعي الزمان ذاتيا لتأجيج الصراع مع التاريخ والتعالي على الواقع، يبدو - فقط - فرصة لتحقيق النبوءات والوعد وأمدًا لا يمكن أن يخلو من الصراع حتى بعد انتصارها.. تغيب عنه مفاهيم الاجتماع وقوانين التاريخ وفلسفته لصالح التعلق بلحظات محددة فيه، وتصور خاص له، وسنكتشف سمات أخرى مع عدد من النماذج الكاشفة لهذا التصور للزمن، وكذلك روافده من مثلث المفاهيم الآيديولوجي الداعشي، فيما يلي:
أ‌ - موعدنا دابق:
«موعدنا دابق» هكذا ختم الطفل الداعشي الأسود، ذو الـ12 سنة، بيانه مهدّدًا العالم أجمع، في الخامس من فبراير (شباط) الحالي، وهو ينحر النائب الشرعي لـ«الجبهة الشامية» محمد عبد العزيز طيشو، وإمام مسجد إحدى القرى التي سيطر عليها تنظيم داعش في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
يرجّح أن هذا الطفل المتشرّب والمشحون تطرفًا والمتحدث بإنجليزية واضحة، هو ابن «أبي الدرداء»، أحد قادة «داعش» وهو من أصل صومالي ولقد قُتل في عين العرب (كوباني) عام 2014، وكانت خاتمة بيانه «موعدنا دابق».
«دابق» هي الوعد الداعشي، حيث النبوءة التي جعلها «داعش» اسما لمجلته بالإنجليزية، ومحلّ جذب للمقاتلين الأجانب فيه، كما حدّدها لأفراد التنظيم سلفهم الذبّاح أبو مصعب الزرقاوي قبل وفاته عام 2005. وأن هذه القرية - القريبة من مدينة حلب بشمال سوريا - ستكون موقع «حرب آخر الزمان» بين الأعداء والمؤمنين، بين الروم والطائفة المنصورة، استنادا لحديث يؤلونه ورد في «صحيح مسلم» في «كتاب الملاحم»، ويرتبط بنزول عيسى (عليه السلام) ولا يتحدث عن المهدي، الذي تثبت لقاءهما روايات صحيحة أخرى تربط وتزامن بين نزولهما.
ب - الشام من التكفير والهجرة حتى «داعش»:
لم يكن «داعش» وحده من فكّر بالشام وأخذها منطلقا لحروبه، وإن مهّد لها بشار الأسد حين استدعى الميليشيات الطائفية نصرة له ضد شعبه فأرسلت القوى نصرتها ثم انفصلت عنها!
ولكن تلويح «داعش» المستمر وأنصاره «بحروب الشام»، ليس سباقًا فيه، بل سبقته «جماعة التكفير والهجرة». والثابت أيضًا أن شكري مصطفى زعيم «جماعة المسلمين» - أو «التكفير والهجرة» - كما هو شائع، كان قد طلب من السلطات المصرية السماح له «بالهجرة» للشام حيث «ستكون حروب آخر الزمان»، كي يقيم «خلافته» و«دولته» بعيدًا هناك.
ولم تكن فعالية فكرة الرايات السود حديثة أيضًا مع «داعش»، بل انتشر استخدامها منذ ظهور حركة طالبان في تسعينات القرن الماضي.
لم يجد المنظّر الداعشي تركي البنعلي دليلا أبلغ على شرعية «خليفته» البغدادي غير أنه عدد الخلفاء القرشيين في الدولتين الأموية والعباسية ليقول: «وبقى واحد غير المهدي، هو البغدادي». وهكذا يبدو التاريخ والزمن في تصور الدواعش محددًا مسبقا، يصادف أشباهه.
باختصار، يمكن القول إن تنظيمات التطرّف الراديكالية تملك تصورًا مشتركًا للزمان أو يملكها ويحرك عناصرها. إنه تصور يقوم على تحدّي التاريخ والانقلاب عليه، وعلى تجاهل الواقع والاجتماع الإنساني والعالمي لصالح عزلتها الشعورية والعقدية والإنسانية.
ج - محمد الفاتح ليس هو «الفاتح»:
كتب أحد منظري التطرف الراديكالي باسم الإسلام، متكئا على هذه النبوءات التي تتحقق لطائفة بعينها، لها أوصافها، التي يرونها تنطبق عليهم وحدهم، أن محمد الفاتح الإمبراطور العثماني (المتوفى عام 1481م) بعد فتحه للقسطنطينية عام 1453 م ليس هو المقصود في رواية «بشرت بمثل هذا الفتح» لا لشيء غير أنه حنفي وأشعري صوفي! ولا يحمل أوصاف الطائفة المنصورة، وأنه سيكون فتحًا ثانيًا لها على يديها، مقرونًا بخروج الدجّال كما تقول روايات الملاحم والنبوءات.
يتجاهل هؤلاء أحداث التاريخ كما يتجاهلون ما هو واقع، ولا يرونه غير تمهيد لتحقيق نبوءاتهم التي لا تتحقق إلا على قمم الصراع. كما أنهم يتجاهلون نبوءات أخرى قد تصف تطرّفهم كونهم، كما أخبر الحديث عن خوارج آخر الزمان «حدثاء الأسنان وأسماؤهم الكنى». كذلك يتجاهلون نبوءات أخرى يحملها أعداؤهم وخصومهم منها نبوءات «الجهادية الشيعية» التي تحاربهم في سوريا ستكون حسب رواية منسوبة لجعفر الصادق في منطقة سهل اليابس، وأنه سيظهر بعدها المهدي، أو النبوءات اليهودية عن خراب دمشق وقرب نهاية العالم.
ثانيا: مفاهيم ثلاثة حاكمة:
تنشط وتتقد جماعات التطرف الإسلامي - قديما وحديثا - من روافد ثلاثة، هي كما يلي:
1 - الوعد والنبوءة: يأتي الوعد بالانتصار، لكن في زمان مجهّل ومفتوح، ليكون قريبا من وجدانات أنصارها دائما، ولكن يكون مكانه محددًا.
يكون الوعد هو الهدف والطاقة التي تحرك القتال والكفاح المستمر من الأتباع، كشرط للتحقق، وإقامة دولتها المثالية أو «مدينتها الفاضلة» التي هي «دار الإيمان» أو «دار الخلافة». ولكنها رغم ذلك لا تحسم لهؤلاء الانتصار ببقائها، بل تظل محركة لهم ببقاء الصراع بينها وبين أعدائها. وفي الحالة الإسلامية لا تقوم القيامة على شرار الناس، وتراجع الحق بعد انتصاره في حروب آخر الزمان، ليسود الباطل من جديد.
2 - أبدية الصراع:
لا نهاية للصراع في تصور ومنظومة الوعي المتطرّف، لأنه لا يوجد الاستقرار أو العمران كغاية أو هدف، بل الحياة ابتلاء وفتن لا تنتهي، تنفجر في مسار الملاحم! تنزاح وتطرد من المنظومة الأصولية مفاهيم الاجتماع الإنساني، لصالح فكرة الخلاص الفردي والانتصار الآيديولوجي قتلا وقتالاً، . ويكون الخروج هو الإيمان الصحيح، والقعود مشرفة الكفر وحافته، والبيعة عقد للإيمان وليست عقدا مع الحاكم، والحضارة وغيرها من مفاهيم مرفوضة عند بعض المتطرفين (وضع السعودي ناصر الفهد في نقض مفهوم الحضارة ورفضه واستخدامه ولو إشارة للحضارة الإسلامية في العصور السالفة).
والصراع في هذا الفهم الراديكالي لا يكون مع الآخر الحضاري أو الطائفي فقط، بل يمتد أيضًا للمتقاربين معه فكريًا ومذهبيًا، احتكارا للحق والحقيقة، بين الجماعات نفسها، بين «داعش» و«جبهة النصرة»، أو بين المجموعات المتطرفة الجزائرية في تسعينات القرن الماضي، وكذلك بينها وبين حركات الإسلام السياسي الأقل تطرفًا، لا يحضر في فهم هؤلاء تمرين الاختلاف والتقارب، ولكن وفقط انتصار الحق الذي لا يتعدد.
3 - العزلة ثم الدولة:
استعدادًا للوعد وتجهيزا للصراع، تؤمن أصوليات الإمامة والخلافة بضرورة العزلة مكانيًا أو شعوريًا، تزامنًا مع الحشد والتجهيز. وعبر هذه الأداة تمركز لدي بعضها مفهوم التكفير والهجرة ووجوبها، من التكفير والهجرة حتى «داعش»، وكذلك الولاء والبراء، والتكوين والتعليم على أدبيات خاصة، رفضًا واستغناءً عن العالم منجزاته، فتكون الديمقراطية دينا يكفر من يؤمن به كما كتب المقدسي وعبد القديم زلوم وغيرهما.
وهذا ما أكده «داعش» وجماعة «بوكو حرام»، والأقل تطرفًا من جماعات التطرف ترى الديمقراطية مجرد أداة وقناة شرعية لبلوغ الغاية وتطبيق تصورها للحكم بيدها وغلبتها، حتى لو طبق الآخرون الشريعة، فغالبًا الأمر مرفوض. فـ«بوكو حرام» تناضل ولايات تطبق الشريعة في الشمال النيجيري، وتنشط كثير من الحركات المتطرفة ضد من طبقوا أو يطبقون الشريعة، منذ عصور الخلافة الأولى وحتى أيامنا هذه. وقديمًا قال أحد الراديكاليين المصريين في تسعينات القرن الماضي: «نريد الحكومة الإسلامية وليس الحكم الإسلامي فقط»!
كل هذا بغية تحقيق الغاية، التي هي الدولة وحكم وتغلب الجماعة. هذا مشترك بين مختلف الحركات الخارجية والمهدوية والمتطرفة المعاصرة، بالإضافة لمشترك ثالث هو مشترك «الدولة» أو «الغيتو»، فتصور الدولة الخاصة الحاكمة والمتحكمة والمشخصنة في شخص الحاكم أو الأمير وفقط.
ختامًا، ليس «داعش» وحده، من يبشرنا بـ«نهاية العالم»، إذ بلغ عدد رواياتها، منذ انهيار الحضارة الرومانية وحتى الآن، 183 رواية تمتد في الزمان والمكان، كما أحصاها المؤرّخ الفرنسي لوك ماري (Luc Mary) تصور أبرزها النهاية عام 1000 م، والأخرى عام 2000، أي في نهاية الألفية التي مر عليها الآن 15 سنة!
ومن أشهر روايات «نهاية العالم» أسطورة حضارة المايا لدى الهنود الحمر في أميركا الوسطى والمكسيك، إذ اكتشف علماء الآثار المهتمّون بهذه الحضارة، مطلع القرن الماضي، حجرًا ضخمًا منحوتًا على شكل دائري، يعود إلى عام 669 م، وعليه نقوش وكتابات يزعم مفسّروها أنها تتنبّأ بنهاية العالم يوم 21 ديسمبر (كانون الأول) 2012! أي قبل ثلاث سنوات، ولقد أذاعت الخبر وبثته حينذاك وسائل إعلام دولية معروفة!
وتنشط روايات «نهاية العالم» لدى الجماعات الدينية في مختلف الأديان، السماوية وغير السماوية على السواء، كل بطريقتها وحسب مصادرها وغاياتها. فجماعة شهود يهوَه، مثلاً، توقعت نهاية العالم ثلاث مرّات: 1942، ثمّ 1975، ثمّ 1994. ولم تقع وفق تصوّرهم.
إنه مشترك بين جماعات العزلة التي تعادي التطوّر الحضاري والإنساني، ولا تستوعب حركة التاريخ، صانعةً زمنها الخاص أو وعيها اللا تاريخي. ولكنه في الفارق الداعشي يمثل وقودًا وسندًا للتجنيد، خاصة لبعض المتحولين الجدد أو أبناء الجاليات في الغرب الذين يعانون أزمات الهوية والحضور ويبحثون عن الخلاص والمُخلّص.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.