إذا كانت الثورة الصناعية الأولى قد أتت بمتغيرات في وسائل الإنتاج من خلال استخدام ماكينات البخار وبعض الاكتشافات الكهرومغناطيسية التي سمحت بظهور التراسل، وغيرها من الاختراعات لمدة مائة سنة منذ منتصف القرن الثامن عشر، فإن الثورة الصناعية الثانية التي اندلعت من منتصف القرن التاسع عشر لمدة قرابة مائة سنة قد أتت بمتغيرات أكثر أهمية، حيث غيرت تمامًا حياة الإنسان على وجه الأرض.
وإلى هذه الثورة الصناعية الثانية يُنسب شكل النظام الاقتصادي الدولي الذي نعيشه اليوم، فهي التي وضعت الأسس العلمية التي كفلت لنا حياة مختلفة تمامًا عن قرن ونصف القرن مضيا.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه الثورة بدأت في حدود عام 1860 تقريبًا في بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا فيما بعد، ثم انتشرت في كل أوروبا بحلول العقود الأولى من القرن العشرين ثم إلى باقي العالم. ويمكن إدراج أهم ملامح هذه الثورة في اختراع وتطوير صناعة الصلب واختراع الموتورات المبنية على فكرة «الاحتراق الداخلي» Internal Combustion، واختراع الدينامو والتطورات الهائلة في المجال الكهرومغناطيسي والكهرباء.
لقد بدأت الثورة الصناعية الثانية من خلال عدد من الاختراعات التي سمحت بالتوسع في صناعات الصلب (الفولاذ) بدلاً من التركيز على الحديد فقط بعد تطويرها من خلال اكتشاف ضخ هواء نقي في الأفران لتنقية الحديد مهما كانت نوعيته ليتحول إلى صلب. هذا ساهم بشكل كبير في توسيع عمليات البناء في الغرب.
ثم جاء بعد ذلك مباشرة اختراع الدينامو، الذي بفضله استطاع العلماء تحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية. وعلى الرغم من أن فكرته ترجع إلى عام 1831 فإن تطبيقاته لم تدخل حيّز التنفيذ إلا في أواخر القرن نفسه، وهو ما سمح بالاستخدام الواسع للكهرباء باعتبارها مصدرا للطاقة التي باتت تدريجيًا أساسًا لأغلب إنتاج الطاقة في الدول الأوروبية بحلول القرن العشرين.
ولعل أهم إنجاز بعد استخدام الكهرباء كان اختراع أول محرّك (موتور) في عام 1876 يعمل على أساس الاحتراق الداخلي، وهو ما فتح المجال أمام صناعة السيارات والقطارات. ومن ثم أدخل العالم في «عصر الموتور» باستخدام منتجات البترول، باعتبارها أهم وسيلة للطاقة ولتوليد الكهرباء في الوقت الذي كانت استخدامات البترول فيه محدودة على استخراج الكيروسين للإنارة فقط. وينسب إلى ألمانيا هذا الاختراع من خلال سلسلة من العلماء ترتبط في حاضرنا اليوم بنوعيات السيارات التي نُسبت إليهم، فقد وضع غوتليب ديملر Daimler أول هذه المحركات، بينما اخترع كارل بنز Benz فكرة الشرارة الكهربائية، وينسب إلى فيلهلم مايباخ Maybach اختراع المفحم (الكاربُراتير)، وهو ما سمح بإنشاء أول سيارة تسير على أساس الاحتراق الداخلي، وقد طوّر بعد ذلك العالم الألماني رودولف ديزل Diesel فكرة الاحتراق الداخلي من خلال استخدام الخام الطبيعي - أو المازوت - الذي سرعان ما انتشر خصوصا في السفن التجارية، وإليه ينسب اسم «الديزل» أحد مشتقات البترول التي نعرفها اليوم.
وقد استمرت الثورة الصناعية في اختراعاتها تدريجيًا، فدخل العالم عصر الميكنة بشكل موسع للغاية، خصوصا بعد اكتشاف الخلايا الضوئية، وهو ما سهل عملية الإنتاج. وينسب إلى المستثمر والصناعي الأميركي هنري فورد فكرة حركة المصانع بوضع خطوط للإنتاج على أحزمة تتحرك عليها المعدات ويجري تركيبها من خلال العمال، ولقد انتقلت هذه الفكرة فيما بعد إلى خطوط إنتاج السيارات، حيث تم تجميع أول محرك سيارة في قرابة 93 دقيقة فقط، وهو ما سرّع من حركة الإنتاج بعد تطبيقه على كثير من الصناعات.
وصاحب هذا التقدم أيضًا دخول العلم بشكل كثيف في عملية التصنيع، خصوصا بعد تطور علوم الطبيعة والكيمياء، وأثرهما المباشر علي تصنيع منتجات الألياف والمطاط وغيرهما، كما صاحب هذه الفترة طفرة كبيرة في الصناعات الغذائية المصنعة فضلاً عن الحرير الطبيعي.
لعل أكثر الاختراعات التي أثرت على عالمنا اليوم كان اختراع اللاسلكي الذي استند إلى كثير من اختراعات الثورة الصناعية الأولى، لكن تطبيقاته تنسب إلى الإيطالي غوليلمو ماركوني Marconi الذي استند إلى اكتشافات هاينريش هيرتز Hertz - الذي ينسب إليه اسم الموجات المستخدمة في الراديو واللاسلكي اليوم - فقام بتصنيع أول لاسلكي. وكانت الفكرة الأساسية له تستند إلى إطلاق موجات كهرومغناطيسية واستقبالها من خلال أجهزة محددة، وقد استطاع ماركوني إجراء أول تجربة له لنقل رسالة من بريطانيا عبر بحر المانش إلى القارة الأوروبية، وطبقت التجربة ذاتها عبر المحيط الأطلسي عام 1901. ثم كان أول استخدام تجاري لها من خلال اختراع الراديو عام 1920، وتم تطبيق الفكرة نفسها على اختراع جديد هو التلفزيون في أربعينات القرن الماضي. وسرعان ما انتقل العلم لاختراع التليفون الذي سجلت براءته المخترع البريطاني ألكسندر غراهام بل Bell من خلال تطبيق مبادئ مشابهة لتسهيل الاتصالات عبر السلوك.
ولعل أكثر الاختراعات تأثيرا على المجتمعات كانت أيضًا الإنارة الكهربائية للبيوت والمصانع بدلاً من الشموع. وعلى الرغم من أن فكرتها ولدت في عام 1820، إلا أن تطبيقاتها العملية والتجارية بدأت في عام 1879 على أيدي المخترع الأميركي الشهير توماس إديسون Edison الذي اخترع اللمبة أداة للإنارة باستخدام الكهرباء.
لقد أدت الثورة الصناعية الأولى إلى كثير من النتائج المبهرة التي غيّرت أسلوب حياة كل المواطنين في العالم، ولا يوجد على كوكب الأرض من لم يستفد من هذه الاختراعات في حياته. ولكن هذه الثورة كانت لها آثارها الكبيرة على النظام الاقتصادي على المستوى القطري والدولي، فقد أدت إلى ظهور مفهوم «الرأسمالية الصناعية» بشكله الحالي، حيث وجهت استثمارات هائلة من إنتاج هذه الاختراعات على مستوى واسع وكبير. كذلك أدت هذه الثورة إلى هيكلة عملية التصنيع على الشاكلة التي هي عليها اليوم، وأسفرت عن إنشاء كيانات كبرى للغاية من خلال التوسع في إنشاء الشركات المساهمة، التي قامت بدورها بعملية مهمة للغاية في فصل الإدارة عن الملكية. إذ كانت ملكية هذه الشركات للمساهمين، بينما كانت الإدارة الفعلية في أيدي نخب معينة لإدارتها. وأسفرت هذه المتغيرات عن بزوغ نوعية جديدة من الممارسات التي كثيرًا ما يطلق عليها «الكارتل» التي كانت تهدف إلى التعاون بين مجموعة من الشركات المتخصصة في إنتاج منتج محددة لضرب المنافسة في الأسواق. وبدأ هذا المفهوم داخل الاقتصاد الواحد، ثم تحول مع مرور الوقت، ليصبح على المستوى الدولي عندما تحالفت شركات بعينها في دول مختلفة لضرب أي منافسة مستقبلية من خلال التحكم في أسعار المنتجات وأسرار التصنيع.
وأدت هذه التحولات المذهلة إلى متغيرات اجتماعية واسعة النطاق في النظم الرأسمالية، فعند تحوّل النظم الاقتصادية من الزراعة إلى الصناعة كان الأثر الاجتماعي الأول هو ظاهرة التحضّر التي أدت إلى ظهور طبقة العمال في كل الدول الصناعية، وذلك مقابل الطبقة الرأسمالية التي كانت تسيطر على وسائل الإنتاج. ومن هنا بدأت النظريات الاقتصادية الكلاسيكية لوضع أنماط التعامل الاقتصادي والاجتماعي بين هذه الفئات المختلفة، وعلى رأسها النظرية الماركسية التي هدفت إلى تمليك طبقة رجال الأعمال أدوات الإنتاج.
واقع الأمر أننا يمكن اعتبار الثورة الصناعية الثانية هي اللبنة التي وضعت الأرضية لشكل النظم الاقتصادية على مستوى العالم. وكل محاولات تغيير هذا المصير الرأسمالي باءت بالفشل الكامل، خصوصا بعد انهيار النظرية الاشتراكية أمام المتغيرات الدولية التي واكبت انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، .
وتعد الثورة الصناعية الثانية ونتائجها هي أساس النظام الاقتصادي الذي نعيش فيه اليوم وتمثل جذوره الحاضرة، فحتى مع ظهور الثورة الصناعية الثالثة في خمسينات القرن الماضي التي تمثلت في «الثورة الرقمية Digital Age»، فإن أسس قاعدة الإنتاج وأدواتها تنسب إلى عصر الثورة الصناعية الثانية التي أدت إلى متغيرات واسعة كما سنرى.
من التاريخ: الثورة الصناعية الثانية والنظام الدولي
من التاريخ: الثورة الصناعية الثانية والنظام الدولي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة