لندن العظيمة.. مدينة بلا طبق

عرَّفها الرومان على البصل والثوم وأخذت من بلاد الشام السكر والبهارات

لندن العظيمة.. مدينة بلا طبق
TT

لندن العظيمة.. مدينة بلا طبق

لندن العظيمة.. مدينة بلا طبق

على عظمتها ورغم تاريخها العريق والمديد، فإن مدينة لندن التي تضم نخبة المطاعم في العالم وتجمع مئات من مطابخ الأقليات القادمة من آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا بشكل عام، لا تملك مطبخها الخاص بها أو طبقها المتميز الذي يحظى به الفرد.
تاريخيا يعتبر الرومان المسؤول الأول عن جلب الكثير من الخيرات إلى المدينة وخصوصا البصل والثوم والزعتر وإكليل الجبل وغيره، وقد نشروا المآكل التي ترتبط بمآكلهم والتي كانت تستهلك الكثير من الدجاج ولحم الأرانب الذي كانوا يجلبونه من إسبانيا. وفي هذه الفترة الرومانية الأولى بدأت تنتشر ظاهرة المطاعم والحانات المعنية بخدمة الرومان وجنرالاتهم وجنودهم.
ويقال: إنه لم يتغير الكثير على المدينة في القرون الوسطى باستثناء الاستخدام المكثف للبيض والجبن والزبدة والشوربة وإضافة أنواع جديدة من الخضار واللحوم والخبز بعض أنواع اليخني (المطبوخة على نار هادئة). ومع الحروب الصليبية، أحضر البريطانيون من سوريا وفلسطين السكر وشتى أنواع البهارات ليضيفوا مذاقات جديدة.
وفي أحد النصوص الشهيرة التي وضعت بعد القرن الثاني عشر عن لندن، يثني ويليام فيتزستيفان على المدينة وعلى ما كانت تتمتع به من خيرات نهاية القرن الثاني، ويقول: إن المدينة كانت غنية بجنودها الشجعان ونخبها الذكية ومآكلها المتميزة. ويصف فيتزستيفان صفوف الأكشاك (البسطات) والمحلات التجارية التي تبيع الطعام للمسافرين على طول ضفتي نهر التيمز. وكان الناس يجدون على جانبي النهر ما لذ وطاب وما يقدم بشكل سريع وما يدل على فن الحياة المدنية.
وتقول الكاتبة ربيكا سليت بهذا الخصوص، وفي مجال الحديث عن الفرق بين طعام الريف وطعام المدن في أوروبا وبريطانيا، بأن الانتشار الدراماتيكي للتجارة والمدن في أوروبا في القرن الثاني عشر، فتح أبوابا كثيرة لسكان المدن على الأكل وعالم الطعام، إذ إن الحملة الصليبية الأولى مكنت من الاتصال والتواصل بين أهل الشرق أو بلاد الشام والأوروبيين، وبالتالي تمكن الإنجليز والفرنسيون من تطوير مذاقاتهم وتنويع استخدامهم للبهارات والمطيبات المتوفرة في بلاد الشام، كما فتحت طرقا تجارية جديدة يمكن من خلالها وصول الطعام من فلسطين وسوريا ولبنان إلى أوروبا.
كما كانت مآكل أهل الريف تختلف عن مآكل أهل المدن آنذاك، إذ كان أهل المدن يأكلون أكثر مما ينتجون مقارنة بأهل الريف. كما كان أهل المدن يشترون أكثر من أبناء الريف وكان لديهم الكثير مما يمكن لهم أن يختاروه من المآكل والخيرات. ويمكن العثور على شواهد التنوع الكبير والهائل للمآكل والخيرات آنذاك في المدن الإيطالية المعروفة كالبندقية وجنوة وغيرها. وهذا التنوع انطبق على مدينة لندن رغم بعدها عن المتوسط وخيراته. وقد ساعد على التنوع انتشار المناطق الخضراء والحدائق في المدينة كما كان الحال في باريس حيث درج أهل المدن على زرع وإنتاج ما يحلو لهم من الخضار والفاكهة.
وتذكر ربيكا سليت بشكل خاص انتشار الأفران في المدن والخبز الممتاز وانتشار شتى أنواع اللحوم والاعتماد الكبير على الأسماك، إذ إن بريطانيا ولندن بشكل خاص غنية بالسواحل والأنهار - فقد كانت المدينة قريبة من البحر ومن جميع الطرق التجارية المتوفرة. ويمكن القول: إن التنوع في أنواع الأسماك المتوفرة في لندن في القرن الثاني عشر هو أكبر بكثير مما نجده في السنوات الأخيرة أو ما توفر خلال القرن العشرين لعامة الناس.
وقد ساهمت الحروب الصليبية كما ذكرنا في انتشار البهارات والمطيبات الغالية الثمن وقد ساهم ذلك في التنافس وتنوع الأطباق التي تستخدمها، كما ساهم تباهي الطبقات الغنية بامتلاكها وخصوصا الزنجبيل والقرنفل والفلفل الأسود والزعفران والسكر بتنوع المطابخ الملكية وبعض المطاعم.
ومع هذا ظل الناس بشكل عام في بريطانيا بعد القرون الوسطى يأكلون ما يزرعون، ولم تظهر بعض الأطباق المتميزة والتي تحمل هويتها الخاصة بها إلا لاحقا في القرنين الثامن والتاسع عشر.
بالطبع هناك الكثير من الأطباق البريطانية والإنجليزية التقليدية والكلاسيكية كالغنم بالفرن - والفطور الإنجليزي والسمك والبطاطس (فيش اند تشيبس)، لكن لندن المدينة التي تضم حاليا نحو ستة آلاف مطعم لا تملك ما يميزها عن غيرها ولا تتغنى بأي من وصفاتها أو أطباقها التي لا تعوض كما ذكرنا.
ومع هذا فإن البعض يذكر بعض الأطباق البسيطة التي درج أهل لندن وبشكل خاص أهل المناطق الشرقية الفقيرة على تناولها، مثل شوربة البازلاء المجروشة (خضراء أو صفراء) وطبق الحنكليس وكعكة تشيلسي الشهيرة.
وفيما يطلق البعض على طبق البازلاء اسم عصيدة البازلاء يطلق عليه البعض الآخر اسم شوربة البازلاء المجروشة. وبينما يتناول البعض الطبق باردا يفضله البعض الآخر ساخنا وحارا أيام الشتاء والبرد. بأي حال فإن الطبق يعتبر من الأطباق المغذية والصحية والتي تتمتع بمذاق طيب، إذ إن البازلاء لذيذة ويرغب فيها الكثير من الناس ويتمتع بها الكثير من الأذواق. تاريخيا كجميع أطباق الحبوب والبقول، كان الطبق من أطباق الفلاحين قبل أن ينتقل إلى المدينة ويصبح من أطباق الطبقة العاملة ولاحقا الطبقات المتوسطة والعليا.
وكان الفلاحون في إنجلترا وفي مدينة لندن بشكل خاص يغلون البازلاء في قدر كبير فوق النار مع بعض ما توفر من الخضار للحصول على العصيدة، وفيما كان يغلي في الليل يصبح باردا في اليوم التالي مع انطفاء النار. ويعاد إشعال النار من جديد وإضافة المزيد من الخضار إلى نفس القدر، وتتم العملية لمدة تسعة أيام - وكان البعض يفضل الشوربة أو العصيدة بعد تسعة أيام من الطبخ وإعادة الطبخ كما يرغب البعض في إعادة غلي الشاي عدة مرات ولعدة أيام.
وبالطبع كان البعض يفضل البازلاء الخضراء رغم طعمها الخشن، ويفضل البعض الآخر البازلاء الصفراء المجروشة لمذاقها الحلو نسبيا، وقد درج الكثير من أهل لندن على تناول الأصفر منها لهذا السبب بالذات. ولطالما ارتبط اسم العصيدة أو الشوربة الصفراء باسم «شوربة البازلاء الخاصة بلندن - London Particular Pea Soup» لتشابه كثافتها واصفرار لونها بضباب لندن في الخمسينات والذي كان يطلق عليه اسم «London Particular».
يتم تحضير النسخة الحديثة من شوربة البازلاء عبر قلي بعض الثوم والبصل بزيت الزيتون على نار هادئة لمدة ثلاث دقائق، قبل أن يضاف إلى القدر بعض البطاطا والجزر المقطع قطعا صغيرة ويقلب الخليط معا لمدة دقيقتين.
بعد ذلك تتم إضافة البازلاء واللحم وإضافة الماء والغلي لمدة أربعين دقيقة مع بعض الملح والفلفل الأسود المطحون.
أما طبق الحنكليس اللزج - Jellied eels الذي يعتبره البعض من أطباق لندن الأصلية، فهو من الأطباق التي تنتشر في الدنمارك وألمانيا وفرنسا ويقدم مع خل البلساميك والفلفل الحار. ومع هذا فهو يرتبط بالمدينة بشكل عضوي إذ إن انتشاره في القرن التاسع عشر جاء نتيجة التلوث في نهر التيمس الشهير الذي كان يعتبر الشريان الحيوي تجاريا وغذائيا للمدينة منذ قرون طويلة. فقد كان الحنكليس من أنواع السمك القليلة التي كانت قادرة على العيش في النهر الملوث بشكل لا يوصف. كما كان هذا الطبق من الأطباق المغذية والمفيدة والرخيصة للطبقات الدنيا. وكان يتم تناول الحنكليس على حدة وأحيانا في فطائر الفرن وأحيانا أخرى إلى جانب البطاطا المهروسة.
بأي حال، فإن الحنكليس اللزج من أطباق إنجلترا القديمة والتقليدية التي انتشرت في القرن الثامن عشر وبشكل خاص في الأحياء الشرقية الفقيرة. ويضم الطبق قطعا من الحنكليس المغلية في مرق مبهر والتي تترك لتبرد وتشكل قطعا لزجة، قبل تناولها. وقد انتشرت مطاعم تقديمه أو الحانات الخاصة به في لندن في منذ القرن الثامن عشر كما سبق وذكرنا، وكان هناك ما لا يقل عن مائة مطعم خاص بالحنكليس اللزج في لندن عند نهاية الحرب العالمية الثانية ولا يزال مطعم «منزي- Manze» الذي افتتح في العام 1902 شاهدا على هذا النوع من المطاعم والأطباق النادرة والغريبة. يتم تحضير الطبق عبر غلي قطع الحنكليس في الماء والخل لتحضير المرق، ويضاف إليه جوز الطيب وعصير الحامض قبل أن يترك ليبرد.
وفي المطاعم السريعة يتم بيع قطع الحنكليس إلى جانب البطاطا المهروسة وفطيرة لحم البقر مع الخل الحار والفلفل الأبيض المطحون.
أما كعكة تشيلسي فإنها من الحلويات التي انتشرت أيضا في القرن الثامن عشر في منطقة تشيلسي في لندن الغربية وبشكل خاص من «بيت الفطيرة» الشهير في المنطقة والذي كان خاصا بخدمة الأغنياء والعائلة المالكة.
وبشكل عام يتم تحضير كعكة تشيلسي، من عجينة غنية بالخميرة مع قشور الليمون والقرفة وعدد من البهارات (حسب الذوق) بالإضافة إلى الزبدة والسكر البني. وتشبه عملية تحضير الكعكة عملية تحضير لفافة القرفة الشهيرة، إذ بعد تحضيرها يتم تزجيجها أو صقلها بالماء البارد والسكر ما دامت حارة لتبخير مائها وزيادة طعمها الحلو.



«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
TT

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة، وتنوع أطباقه التي تبدأ من زبدية الجمبري والكاليماري إلى الفسيخ بطريقة مختلفة.

وتعتبر سلسلة المطاعم التي تحمل اسم عائلته «أبو حصيرة» والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة هي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، لكن بسبب ظروف الحرب اتجه بعض أفراد العائلة إلى مصر؛ لتأسيس مطعم يحمل الاسم العريق نفسه، وينقل أطباق السمك الحارة المميزة إلى فضاء جديد هو مدينة القاهرة، وفق أحمد فرحان أحد مؤسسي المطعم.

«صينية السمك من البحر إلى المائدة»، عنوان إحدى الأكلات التي يقدمها المطعم، وهي مكونة من سمك الـ«دنيس» في الفرن بالخضراوات مثل البقدونس والبندورة والبصل والثوم والتوابل، وإلى جانب هذه الصينية تضم لائحة الطعام أطباق أسماك ومقبلات منوعة، تعتمد على وصفات قديمة وتقليدية من المطبخ الفلسطيني. وتهتم بالنكهة وطريقة التقديم على السواء، مع إضفاء بعض السمات العصرية والإضافات التي تناسب الزبون المصري والعربي عموماً؛ حيث بات المطعم وجهة لمحبي الأكلات البحرية على الطريقة الفلسطينية.

على رأس قائمة أطباقه السمك المشوي بتتبيلة خاصة، وزبدية الجمبري بصوص البندورة والتوابل وحبات القريدس، وزبدية الجمبري المضاف إليها الكاليماري، والسمك المقلي بدقة الفلفل الأخضر أو الأحمر مع الثوم والكمون والليمون، وفيليه كريمة مع الجبن، وستيك، وجمبري بصوص الليمون والثوم، وجمبري بالكريمة، وصيادية السمك بالأرز والبصل والتوابل.

فضلاً عن قائمة طواجن السمك المطهو في الفخار، يقدم المطعم قائمة متنوعة من شوربات السي فود ومنها شوربة فواكه البحر، وشوربة الكريمة.

يصف محمد منير أبو حصيرة، مدير المطعم، مذاق الطعام الفلسطيني لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً: «هو أذكى نكهة يمكن أن تستمتع بها، ومن لم يتناول هذا الطعام فقد فاته الكثير؛ فالمطبخ الفلسطيني هو أحد المطابخ الشرقية الغنية في منطقة بلاد الشام، وقد أدى التنوع الحضاري على مر التاريخ إلى إثراء نكهته وطرق طبخه وتقديمه».

أطباق سي فود متنوعة يقدمها أبو حصيرة مع لمسات تناسب الذوق المصري (الشرق الأوسط)

وأضاف أبو حصيرة: «وفي مجال المأكولات البحرية يبرز اسم عائلتنا التي تتميز بباع طويل ومميز في عالم الأسماك. إننا نتوارثه على مر العصور، منذ بداية القرن الماضي، ونصون تراثنا الغذائي ونعتبر ذلك جزءاً من رسالتنا».

«تُعد طرق طهي الأسماك على الطريقة الغزاوية خصوصاً حالة متفردة؛ لأنها تعتمد على المذاق الحار المميز، وخلطات من التوابل، والاحتفاء بالطحينة، مثل استخدامها عند القلي، إضافة إلى جودة المكونات؛ حيث اعتدنا على استخدام الأسماك الطازجة من البحر المتوسط المعروفة»، وفق أبو حصيرة.

وتحدث عن أنهم يأتون بالتوابل من الأردن «لأنها من أهم ما يميز طعامنا؛ لخلطتها وتركيبتها المختلفة، وقوتها التي تعزز مذاق أطباقنا».

صينية أسماك غزوية يقدمها أبو حصيرة في مصر (الشرق الأوسط)

لاقت أطباق المطعم ترحيباً كبيراً من جانب المصريين، وساعد على ذلك أنهم يتمتعون بذائقة طعام عالية، ويقدرون الوصفات الجيدة، والأسماك الطازجة، «فنحن نوفر لهم طاولة أسماك يختارون منها ما يريدون أثناء دخول المطعم».

ولا يقل أهمية عن ذلك أنهم يحبون تجربة المذاقات الجديدة، ومن أكثر الأطباق التي يفضلونها زبدية الجمبري والكاليماري، ولكنهم يفضلونها بالسمسم أو الكاجو، أو خليط المكسرات، وليس الصنوبر كما اعتادت عائلة أبو حصيرة تقديمها في مطاعمها في غزة.

كما انجذب المصريون إلى طواجن السي فود التي يعشقونها، بالإضافة إلى السردين على الطريقة الفلسطينية، والمفاجأة ولعهم بالخبز الفلسطيني الذي نقدمه، والمختلف عن خبز الردة المنتشر في مصر، حسب أبو حصيرة، وقال: «يتميز خبزنا بأنه سميك ومشبع، وأصبح بعض الزبائن يطلبون إرساله إلى منازلهم بمفرده أحياناً لتناوله مع وجبات منزلية من فرط تعلقهم به، ونلبي لهم طلبهم حسب مدير المطعم».

تحتل المقبلات مكانة كبيرة في المطبخ الفلسطيني، وهي من الأطباق المفضلة لدى عشاقه؛ ولذلك حرص المطعم على تقديمها لزبائنه، مثل السلطة بالبندورة المفرومة والبصل والفلفل الأخضر الحار وعين جرادة (بذور الشبت) والليمون، وسلطة الخضراوات بالطحينة، وبقدونسية بضمة بقدونس والليمون والثوم والطحينة وزيت الزيتون.

ويتوقع أبو حصيرة أن يغير الفسيخ الذي سيقدمونه مفهوم المتذوق المصري، ويقول: «طريقة الفسيخ الفلسطيني وتحضيره وتقديمه تختلف عن أي نوع آخر منه؛ حيث يتم نقعه في الماء، ثم يتبل بالدقة والتوابل، ومن ثم قليه في الزيت على النار».

لا يحتل المطعم مساحة ضخمة كتلك التي اعتادت عائلة «أبو حصيرة» أن تتميز بها مطاعمها، لكن سيتحقق ذلك قريباً، حسب مدير المطعم الذي قال: «نخطط لإقامة مطعم آخر كبير، في مكان حيوي بالقاهرة، مثل التجمع الخامس، أو الشيخ زايد».