عميد الصحافة العراقية فائق بطي يرحل بعيدًا عن وطنه

أرخ لها منذ نشوئها وساهم في تأسيس نقابتها الأولى

فائق بطي
فائق بطي
TT

عميد الصحافة العراقية فائق بطي يرحل بعيدًا عن وطنه

فائق بطي
فائق بطي

برحيل الدكتور فائق بطي، أول من أمس في العاصمة البريطانية عن 81 عاما، هوى عمود أساسي في الصحافة العراقية، إن لم يكن العمود الأول، فقد امتهن الفقيد الصحافة مبكرا في الخمسينات، سيرا على خطى أبيه الوزير والنائب، روفائيل بطي، صاحب جريدة «البلاد» الشهيرة في الأربعينات التي أسست لصحافة مهنية حديثة، مستقلة، استقطبت خيرة المثقفين والمبدعين والصحافيين العراقيين آنذاك.
تسلم بطي مسؤولية الجريدة بعد وفاة والده عام 1956، وكان آنذاك يدرس الصحافة في جامعة القاهرة، فقطع دراسته وعاد إلى بغداد. ومنذ ذلك الوقت المبكر، اقترن الاثنان؛ الصحافة وفائق بطي، اقترانا نادرا قلما عرفناه في الصحافة العراقية والعربية، حتى بات يلقب، عن وجه حق، بـ«عميد الصحافة العراقية». لم يتخل بطي عن مهنة الصحافة يومًا، التي كان يسميها «مهنة البحث عن الحقيقة» وليس «مهنة المتاعب»، ودفع ثمنا باهظا لإيمانه الراسخ هذا برسالة الصحافة ووظيفتها، فتعرض للاعتقال بعد انقلاب البعثيين في 1963.
وحتى في المنافي الكثيرة التي عرفها بعد ذلك، في سوريا وأميركا وبريطانيا، بعد هجرته مع عشرات المثقفين العراقيين عام 1978 إثر اشتداد حملة «البعث العراقي» على معارضيه، ظل بطي يصدر عددا من الصحف الصغيرة، منفقا عليها من ملكيته الخاصة، أو مشرفا على كثير من صحف المعارضة العراقية في المنفى، ومنها «الغد» و«رسالة العراق». وأكثر من هذا، واصل كتابة تاريخ الصحافة للصحف العراقية منذ صدور أول صحيفة عراقية هي «الزوراء» عام 1869، وحتى موسوعته الأخيرة عن تاريخ الصحافة السريانية وشخصياتها، التي أصدرها قبل سنتين على الرغم من ظروفه الصحية الصعبة. لقد أصدر «الصحافة العراقية.. ميلادها وتطورها»، و«صحافة العراق: تاريخها وكفاح أجيالها»، 1968، و«صحافة الأحزاب وتاريخ الحركة السياسية»، 1969، و«صحافة تموز وتطور العراق السياسي»، 1970، و«أعلام في صحافة العراق»، و«الموسوعة الصحافية العراقية»، 1976. و«الصحافة اليسارية في العراق» و«الصحافة العراقية في المنفى»، 2006، و«الموسوعة الصحافية الكردية في العراق»، 2011، وغيرها كثير، بالإضافة إلى سيرته عن والده، وكتابه «الوجدان»، الذي تحدث فيه عن عدد من الشخصيات العراقية التي عرفها، وكتاب «ذاكرة وطن».
ونتيجة لهذه المكانة الكبيرة التي حققها الفقيد في تاريخ الصحافة والحركة الوطنية العراقية، توالت ردود الفعل على فقدانه؛ فقد نعاه الرئيس العراقي فؤاد معصوم بقوله: «الوسط الصحافي والثقافي فقد بوفاة فائق بطي إعلاميا بارزا كرس حياته وثقافته من أجل إعلاء الكلمة الحرة ورفعة المهنة الصحافية الملتزمة. وفيما نستذكر بتقدير عال مكانة الفقيد في إرساء قيم الصحافة الوطنية والأمانة المهنية، لا يسعنا إلا الإعراب عن الاعتزاز بالدور الكبير الذي لعبه هذا الصحافي الرائد، وتجلى جانب منه في الالتزام بقضايا شعبه، وفي ترسيخ تقاليد الصحافة الحرة، ونشر قيم التقدم، كما كان لنتاجه الفكري ومؤلفاته وتاريخه التأثير البالغ في تكوين أجيال من الصحافيين، فيما كانت حياته النضالية والمهنية تعبيرًا عن التواصل الحيوي القيّم بين الصحافة والمجتمع».
أما رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، فقال قال في نعيه: «لقد ترك عميد الصحافة العراقية، فائق بطي، بصمة متميزة في تاريخ الصحافة الوطنية من خلال عمله الدؤوب وإنجازاته ومؤلفاته المهمة».
وقالت مؤسسة «المدى»، التي ارتبط بها بطي صحافيا وفكريا، على لسان رئيسها فخري كريم: «رحل فائق حسرةً على عراق ملتاعٍ ممزق الأوصال تتنازعه طغم (الطوائف المستباحة) المغلوبة على أمرها، بعد أن اغتصب إرادتها أدعياء الوصاية على حقوقها، في لحظة انحدار لم يسبق لها مثيل. رحل فائق بطي وهو يرى ببصيرته كيف صار الوطن الذي لطالما تغنّى بأسمائه ومعانيه.. مرتعًا خصبًا للرثاثة وتبديد الآمال، وانحسار ما تبقى من طاقة للصبر على المكاره، والسكوت على اغتيال حُلم أجيالٍ عاشت على وعدٍ بجنة على الأرض يتسيّد فيها سواد الناس».
وأشارت نقابة الصحافيين في نعيها إلى أن الراحل فائق بطي كان أحد أعضاء اللجنة التأسيسية التي ضمت 11 صحافيا لتأسيس نقابة الصحافيين التي تولى مهامها محمد مهدي الجواهري عام 1959 أول نقيب للصحافيين العراقيين، بالإضافة إلى نعي كثير من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، والشخصيات الثقافية.
ولد فائق روفائيل بطي في بغداد عام 1935، وحصل على شهادة البكالوريوس في الصحافة من الجامعة الأميركية في القاهرة، وعاد إلى العراق عام 1959 ليترأس تحرير جريدة «البلاد» آنذاك. حصل على الدكتوراه في الصحافة من موسكو. غادر العراق في نهاية السبعينات إلى أوروبا وتنقل بين الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!