أذكر أنني قمت بزيارة لإسبانيا منذ فترة غير بعيدة بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عامًا، وبمجرد أن بدأت التجول في بعض مدنها، ومنها العاصمة مدريد، وجدتني أشعر بارتياح لا أشعر به في مدن أوروبية أخرى. وتقديري أن هناك الكثير من الأسباب التي سمحت بشعور الألفة الذي تملكني يومئذٍ، فإلى جانب أنني أتكلم الإسبانية وهو ما سمح لي بالانخراط المباشر في هذه المدينة وشعبها بلا حواجز. تقديري أن هذه العاصمة هي من أكثر العواصم الأوروبية قربًا للثقافة العربية بما جعلها قريبة إلى الوجدان، فاللغة الإسبانية بها ألفاظ كثيرة مشتقة من اللغة العربية. ولكن الأهم هو قرب هذه المدينة من الثقافة العربية بصفة عامة بعدما كان العرب يحتلون إسبانيا لقرون كثيرة حتى جاء عام 1492 فتم توحيد الدولة الإسبانية على أيدي الملك فرديناند والملكة إيزابيلا اللذين أصدرا «مرسوم الهمبرا» الذي بمقتضاه تم طرد العرب واليهود من إسبانيا لكي تحتفظ الدولة الإسبانية بالديانة الكاثوليكية خالصة. مع ذلك احتفظت الدولة الإسبانية بالكثير من تراث العرب وتأثير اليهود، خاصة، بعد أن آثر بعضهم التحول للكاثوليكية ولو ظاهريًا للبقاء في بيوتهم.
واقع الأمر أن العام نفسه شهد وميض ضوء سمح لإسبانيا بعد ذلك بتبوؤ مكانة دولية لم تشهدها من قبل، إذ اكتشف كريستوفر كولومبوس «العالم الجديد» عندما أبحر لصالح إسبانيا من الشرق إلى الغرب، حيث اكتشف الطريق إلى الأميركيتين، وسرعان ما أصبح القرن السادس عشر «قرن إسبانيا المشرق» بعدما ملكت إسبانيا أراضي ما يقرب من قارتين بكل غناهما وذهبهما وفضتهما وتجارتهما، وهو ما سمح لها بأن تصبح في غضون حقب غير كثيرة سيدة القارة الأوروبية لفترة وجيزة، إذ انطفأت شعلتها في فترة زمنية قليلة بسبب سوء الإدارة والفوضى السياسية والاقتصادية التي عمت البلاد خاصة بعد هزيمة أسطولها الشهير في معركة «الأرمادا» ضد إنجلترا في عام 1588.
مع ذلك وخلال هذه الفترة استطاعت إسبانيا أن تنهل من عصر النهضة Renaissance الذي كان قد ازدهر في إيطاليا، ثم هولندا، وغيرها من الدول، خاصة في مجالي الفن والرواية، اللذين كان لهما طابعهما الخاص الذي عكس ظروف الدولة الإسبانية في ذلك الوقت خاصة من حيث الدين وعمقه والهوية الإسبانية ذاتها. هذه الأمور لن تخفى على زائر متحف «البرادو» العظيم الذي يعد من أجمل المتاحف في العواصم الأوروبية، فروح عصر النهضة تكاد تكون مسيطرة على اللوحات المختلفة والتي لن تغيب العين عن ملاحظتها، فهذه اللوحات تعكس بوضوح هذا العصر خاصة لوحات الفنان العظيم «إل غريكو Elgreco»، وهو رسام من جزيرة كريت استوطن إسبانيا ولهذا أطلق عليه هذا الاسم والذي يعني بالإسبانية «اليوناني» نسبة إلى موطنه الأصلي. ولقد لفت نظري في هذا المتحف الكبير لوحة كبيرة للغاية يقدم فيها مجموعة من اليهود المال إلى رجال الدولة والكنيسة من أجل البقاء في إسبانيا بعد مرسوم الطرد، وهي تعكس بوضوح روح العصر والرباط الكاثوليكي - السياسي الذي ظل لقرون طويلة يسيطر على الدولة الإسبانية. وارتباطًا بالفترة ذاتها فإن اللوحة عكست روح عصر النهضة من حيث التركيز على معالم الوجوه والتراجيديا الحقيقية ونوع من الظلام الواضح للعين، وذلك شأن كثير من لوحات هذا الفنان التي عكست نفس الروح خاصة روح محاكم التفتيش Inquisition الإسبانية التي كانت تطرد من البلاد كل من لا ينتمي إلى الديانة المسيحية الكاثوليكية وهناك الكثير من اللوحات التي تعكس عمل هذه المحاكم.
لقد انعكست هذه الروح أيضًا في الأدب الإسباني في ذلك الوقت، خاصة كتابات الكاتب العظيم لوبي دي فيغا Lope de Vega الذي يعد من أهم الروائيين الإسبان، خصوصا أنه كتب ما يقرب من ألف وخمسمائة رواية لم يصل منها إلينا إلا ما يقرب من خمسمائة فقط. وتتركز كتاباته في تعظيم الملك والقضاء على الإقطاع والحفاظ على التراث الديني الكاثوليكي لإسبانيا والذي يعد جزءًا لا يتجزأ من هويتها السياسية والثقافية. كذلك شهد ذلك العصر بعض روايات للروائي ترسو دي مولينا الذي يعد من أشهرها روايته الشهيرة «دون جوان» المتناولة مغامرات أحد النبلاء النسائية وغيرها، والتي أدت في النهاية إلى هلاكه.
مع ذلك فإن أشهر ما أنجبته إسبانيا من الروائيين في عصر النهضة كان ميغيل دي سيرفانتس المؤلف الشهير لرواية «دون كيخوته Don Quixote» العظيمة. وهي رواية يرى البعض أنها أفضل رائعة على مستوى العالم. ومضمونها قصة أحد النبلاء الإسبان المضطربين نفسيًا إثر قراءاته المتعمقة في الرومانسية والبطولات العسكرية لعصر الفرسان، ما دفعه إلى القيام بدور الفارس ومحاربة طواحين الهواء على اعتبارها كائنات شيطانية. فبات يشن غاراته على قطعان من الخرفان على اعتبارها جيوشًا تمثل أعداء الدولة الإسبانية. وكانت لشخصية تابعه «سانشو بانزا»، وهو من أهم ركائز الرواية، فهي تعكس الشخصية العملية التي تعرف أن سيدها يعاني من خلل نفسي، لكنه يستمر معه سعيًا وراء العيش الرغد ويقبل بالأمر الواقع، ولقد عبرت هذه الرواية بوضوح عن نهاية عصر الإقطاع في إسبانيا وبداية عصر النهضة الإسبانية.
واقع الأمر أن عصر النهضة الإسبانية لم يدم طويلاً، فسرعان ما طويت صفحاته بحلول منتصف القرن السابع عشر لأسباب عدة منها أن إسبانيا أخذت تضعف على الساحة الدولية، كما أن تركيزها الأساسي كان على مستعمراتها الجديدة وسبل تعظيم الاستفادة المادية منها بعيدًا عن الفن والرواية. ولكن من أهم الأسباب التي أدت إلى نهاية عصر النهضة الإسبانية كان طردها العرب واليهود من البلاد، ومن ثم اعتمادها بشكل كبير على أبنائها فقط دون الأثر الخارجي، بعكس ما حدث في إيطاليا على سبيل المثال، وهو ما أضعفها بدرجة كبيرة. لذلك فإن الأدب والفن الإسبانيين لم يشملا الكثير من اللوحات والروايات بالمقارنة مع إيطاليا خلال عصر النهضة، ذلك أن الأخيرة كانت أكثر انفتاحًا على العالم الخارجي، وإن كان هذا لم يمنع من ظهور رسامين عظام من أمثال غويا خلال القرن الثامن عشر بعد ذلك.
أذكر جيدًا الانطباع الذي جاءني بعد جولاتي في متحف «البرادو» وفي مدينة مدريد الجميلة بعد مشاهدة اللوحات العظيمة والتثقف ببعض روايات الأدب الإسباني. يومها أيقنت أن القوة السياسية والعسكرية لا بد أن يكون لها مرادف فكري وفني. ثم إن الشعوب لا تحيا بمعزل عن التفاعل بعضها مع بعض، وأن بواعث النهضة والثقافة والفكر لا تتدفق من العزلة والبعد عن الآخر، بل من التقرب والتناغم، بل والاختلاف، وما أدل على ذلك من الفن والرواية، فهذه سنة الله في خلقه.
من التاريخ: عصر النهضة الإسباني
من التاريخ: عصر النهضة الإسباني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة