هابرماس والحاجة إلى مجتمع ما بعد العلمانية

لا تراجع عنها ولكن إعادة النظر في مقوماتها الحديثة ضرورة

هابرماس
هابرماس
TT

هابرماس والحاجة إلى مجتمع ما بعد العلمانية

هابرماس
هابرماس

يؤمن هابرماس بأن مسار العَلمنة الذي اتخذته أوروبا في العصر الحديث، والذي ترافق بسيرورة التحديث وفلسفة التنوير، هو مسار واعٍ ولا مجال للنقاش حول تداول فكرة التراجع عنه، غير أنه قد انبنى على أسس لم تعد صالحة اليوم أمام التغيرات التي يعيشها العالم، مما يستوجب إعادة النظر في مقومات العلمنة الحديثة، ويأخذ على سبيل المثال: التسامح. ذلك أن المضمون الاجتماعي والسياسي للتسامح لم يعد صالحًا لواقعنا المعاصر، لأن سياق الحروب الدينية التي مزقت أوروبا والغرب عامة، لم تعد شروطها قائمة، بفضل التغيرات الحاصلة في عمق الدين في حد ذاته. لذلك يتوجب إعطاء مضمون جديد للتسامح، يستجيب للمتطلبات المعاصرة. والشيء نفسه يقال عن دور الدين في الحياة السياسية، لأن المبادئ السياسية التي قامت عليها نظرية العدالة المعاصرة، بحاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار تلك الشروط السياقية التي تتدخل بوعي في تحديد الاختيارات السياسية الكبرى.
يصرّ هابرماس على أن مجتمع ما بعد العلمانية، هو مرحلة جديدة تقتضيها العودة الراهنة للفعل الديني إلى الفضاء العمومي، حيث يقول: «لا يقر تعبير (ما بعد العلمانية) للجماعات الدينية بالاعتراف العلني بها لمساهمتها الوظيفية في إنتاج الدوافع والتصورات»، وإنما احترامًا لصوتها وتصورها، بحيث يتوجب على هذه الجماعات قبول الدستور العلماني، وقبول التعددية الثقافية وواقع الممارسة السياسية التي فرضتها الليبرالية الدستورية في الدولة الديمقراطية الدستورية. ولأن الدستور باعتباره أسمى القوانين لا يمكنه أن ينتصر لجماعة ضد أخرى، ليضمن بذلك حيادية الدولة اتجاه تصورات العالم السائدة.
إذا كان هابرماس لا يرى أن هذا الشرط أساسيًا ومناسبًا للجماعات الدينية، فإن المواطن العلماني بدوره لا يحق له، «طالما يقدم نفسه في دوره كمواطن، ألا ينكر الصحة الممكنة للتصورات الدينية حول العالم، ولا حرمان المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينية، وطرح مواضيع للمناقشة عمومية. ويمكن للثقافة العلمانية الليبرالية أن تنتظر من المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة إلى لغة عمومية واضحة بالنسبة للجميع». وما يفيد في هذا السياق، أن مقارعة الحجج في الفضاء العمومي، هي أساس قيام تواصل غير مشوه بين المتدينين وغير المتدينين، لأن معضلة العالم المعاصر هي معضلة التواصل المشوه.
- المنظور المغاير للتسامح الديني
لم يدخل مصطلح التسامح إلى اللغة اللاتينية والفرنسية إلا في القرن السادس عشر، مع اندلاع الحروب الأهلية، وأريد به آنذاك، التسامح بين الديانات (بين الطوائف الدينية المتصارعة). وفي القرن 16 و17، اتخذ التسامح الديني دلالة حقوقية، حين أجبرت الحكومات في أوروبا الموظفين على ضرورة التسامح مع الأقليات الدينية، وتحديدا مع اللوثريين والمسيحيين الفرنسيين والبابويين، حيث وقع هنري الرابع سنة 1598، مرسومًا يدعو فيه إلى احترام الأشخاص الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة ويمارسون اعتقادات خاصة بهم، أو الذين ينتمون إلى جماعات دينية مضطهدة. وبشكل واضح، يقول هابرماس: يميز الألمان والإنجليز بين مصطلح Tolerance، الذي يعني الفضيلة أو التصرف السلوكي (la disposition conceptuel) وبين Tolération الذي يفيد الفعل القانوني. ويذهب هابرماس، إلى أن «تعددية رؤى العالم والنضال من أجل التسامح الديني، لا يعززان فقط ولادة الدولة الدستورية الديمقراطية، وإنما يعطيان، اليوم أيضًا، نبضًا تجاه الكمال، حيث قدم أول الأمر تعريفًا لمفهوم التسامح، مناقشًا ماذا يعني الدور الرائد للتسامح الديني من أجل فهم أدق للتعددية الثقافية، ومن أجل التعايش في ظل حقوق متساوية بين أشكال مختلفة للحياة الثقافية، داخل إطار الدولة الديمقراطية نفسها (الدستورية). ويميز هابرماس بين دلالتين لمفهوم التسامح:
دلالة حصرية، أو ضيقة، حيث يفيد التسامح اتجاه الأديان الأخرى، بالمعنى الذي كان سائدًا أيام الحروب الدينية. ودلالة قانونية، ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حيث أصدرت الحكومات مراسيم التسامح التي تجبر بموجبها الدولة موظفيها وكل المواطنين المؤمنين، لأن يكونوا متسامحين تجاه الأقليات الدينية الأخرى، مثل اللوثريين أو البروتستانت الفرنسيين les Huguenots (وهم بروتستانيون أجبروا على مغادرة فرنسا سنة 1685 بسبب الحروب الدينية، ويقدر عدد المغادرين، آنذاك، بنحو 300 ألف)، والبابويين (الذين يسندون إلى البابا السلطة المطلقة) Les Papistes.
لا تقتصر هذه المراسيم على إقرار احترام الأقليات الدينية، بل أيضًا للأفراد المغايرين الذين يمارسون تعبدات دينية أخرى. ولهذا يؤكد أن الأصل السياسي لكلمة التسامح، باعتبارها نوعًا من «الفضيلة السياسية»، يسمح بمعاملة المواطنين لغيرهم ممن يخالفونهم في التعبد معاملة حسنة. ويعود هذا المعنى السامي للتسامح إلى مكيافيلي، وكل الفلاسفة الذي شددوا على الحق في التعبير عن الانتماء الديني، ولو كان مخالفًا: لوك، وسبينوزا وغيرهما.
يشدد هابرماس على ضرورة إقرار البينذاتية (علاقة التفاعل بين ذاتين) في العلاقات الاجتماعية، وهو الأمر الذي جعله ينظر إلى التسامح كفضيلة سياسية، أي كتسامح من نوع آخر. ويقصد بالأساس، تسامح العلمانيين من المؤمنين، مما يجعله يتجاوز منطق النظرة الأحادية. فإذا كان التسامح الديني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، يشدد على ضرورة احترام المتدينين والمؤمنين لعقائد وأفكار العلمانيين وغير المؤمنين، فإننا بأمس الحاجة اليوم إلى تسامح معكوس؛ أي تسامح العلمانيين وغير المؤمنين مع المؤمنين، في مجال التعبير عن القناعات الدينية في الفضاء العمومي، شريطة استبعاد الجماعات الدينية والكنائس والمؤمنين للعنف، والكف عن شحن الأنصار والأتباع والمريدين وشحنهم بشعارات التطرف، على الرغم من أن الشرط السياسي الأخير، الذي يفرض على الجماعات الدينية حصر دعواتها في المجال الديني الفردي، والكف عن توجيه اهتمام أتباعها نحو الفعل السياسي الذي يمكن أن يلعب دورًا نقديًا وممانعًا، يطرح جملة إشكالات، منها أساسًا: ألا يعتبر هذا الموقف نكوصيًا بالمقارنة مع الوظيفة النقدية التي يلعبها الفضاء العمومي اتجاه السلطة السياسية وأجهزة الدولة؟ هل يعبر هذا الموقف عن تنازل هابرماس عن مبادئ المدرسة النقدية؟ ألا يخرج هابرماس بموجب هذا الموقف عن الفلسفة الاجتماعية؟
يفهم شرط هابرماس هذا في ضوء قناعته الأساسية، المتمثلة في أن عملية العلمنة ستبقى مستمرة ومتواصلة حتى في مجتمع ما بعد العلمانية؛ مما يعني أن مجتمع ما بعد العلمانية، هو بالضرورة، مجتمع علماني، وبذلك يقطع الطريق أمام ما يمكن أن نسميه بـ«مجتمعات ما قبل العلمانية» لتشخيص وضعنا الراهن في المجتمعات الشرقية. لذلك فالمؤمن والجماعة الدينية، ككل، يستمر وجودها في مجتمع تؤطره قواعد العلمانية، وهو ما يتفق فيه بالجملة مع جون راولز في اشتراطه أن يكون ذوو المناصب العليا في تدبير الدولة الدستورية أشخاصًا علمانيين بالمطلق، وذلك لضمان سير ما يسمونه معًا «حيادية الدولة».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!