أثارت طريقة تدريس الرياضيات العامة جدلاً واسعًا في عموم الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة. كان هناك من أيّد الطريقة على اعتبار أنها تعلم التلاميذ فهم العمليات الحسابية بشكل أفضل، وأن شكوى الآباء من الرياضيات العامة لا تنبع من القواعد نفسها لكن من المدرسين ضعيفي التدريب. ويقول النقاد، رغم ذلك، ابتعدت القواعد عن طرق الحساب الموثوقة، واعتمدت طرق بالغة التعقيد، وانتهى الأمر باستخدام وسائل محيرة. وعبر بعض الآباء والتربويين كذلك عن قلقهم من أن المسائل الحسابية الكتابية التي يتعامل معها التلاميذ تكون فوق مستوى فهمهم عند قراءتها، ولذلك تتسبب في تعطيل قدرتهم على الاستمرار في فهم تلك العمليات.
وعلقت ويندي ليكر، وهي كاتبة في مجموعة «هيريست كينتيكيت» الإعلامية ومحامية في مركز «قانون التعليم»، بشكل ناقد على ما وصفته بالمشكلة الكبرى التي تواجه الرياضيات العامة، والتي تكمن في أن التلميذ مطالب بشرح وتفسير كل إجابة.
وتقول ليكر، في نقدها الذي نشرته على موقع «ستامفورد أدفوكيت»: «طلبت مدرسة رياضيات بالمرحلة الثانوية موافقة الأبوين على تدريس أطفالهم القسمة المطولة بالطريقة القديمة، وبررت ذلك بأن الطريقة الحديثة التي تعلم بها التلاميذ القسمة المطولة كانت عائقًا أمام فهمهم قواعد الجبر. رثت المدرسة حال الطلاب الذين لم يتعلموا بعض المهارات الأساسية مثل حفظ جدول الضرب الذي كان سيساعدهم على إتمام خطوات حسابية أكثر تعقيدًا بطريقة أكثر كفاءة.
واتضح أن إعمال العقل يدعم ما قالته مدرسة الرياضيات، حيث إن الحفظ عن ظهر قلب في مرحلة سنية مبكرة يعد أمرًا في غاية الأهمية لتنمية المهارات الحسابية».
وأجرت «كلية طب ستانفورد» اختبارا على جزء من المخ يسمى «هيبوكامبوس» (الحصين) ودوره في تنمية المهارات الحسابية عند الأطفال. وأشار القائمون على التجربة إلى أن الانتقال إلى منطقة الذاكرة المختصة بحل المشكلات هو سمة مميزة للنمو الإدراكي للأطفال في مجال الحساب وفى غيره من المجالات. وأجرى الفريق القائم على التجربة مسحا على مخ الأطفال والمراهقين والبالغين، واكتشف أن «الحصين» يلعب دورًا حيويًا، لكن لوقت قصير في تنمية المهارة المعتمدة على الذاكرة في حل المشكلات.
ويساعد «الحصين» المخ على تكويد الذكريات لدى الأطفال حتى مرحلة البلوغ، وحينها يمكنهم استرجاعها بكفاءة عند التعامل مع عمليات حسابية أكثر تعقيدًا. ويعمل النظام «الحصيني» بطريقة معينة عند الأطفال، ليساعدهم على تنمية المهارة المعتمدة على الذاكرة لحل المشكلات، وبمجرد أن يتخطى الأطفال سنًا معينة، يتغير الإجراء.
واكتشفت الدراسة أيضًا أن «تكرار حل المشكلات في المراحل المبكرة لتنمية المهارات الحسابية عند الأطفال تساعد على إعادة تكويد وتعزيز المخ». بمعنى آخر، تساعد عملية تكرار الحفظ عن ظهر قلب على تنمية نظام المخ المعقد ليكون جاهزًا لإجراء عمليات حسابية أكثر تعقيدًا في مرحلة لاحقة.
وعليه فمن الواضح أن مطوري قواعد الرياضيات العامة قد أغفلوا أبحاث المخ في الرياضيات، كما أغفلوها في القراءة، حيث تؤكد الرياضيات العامة أهمية مفاهيم الإدراك في كل مراحل دراسة الرياضيات.
وعليه، فإن كل طفل صغير مطالب ليس فقط بإجراء عملية حسابية بسيطة، لكن أيضا بتفسير كل إجابة.
وكتبت أستاذة علم التربية كاثرين بيلز، ومدرس الرياضيات بيري غارليك، في مجلة «أتلانتك» مؤخرا، أنه عندما تصبح بعض الخطوات الحسابية تلقائية، فإنها تفسح مكانًا بالمخ لمفاهيم حسابية أصعب. فإجبار الأطفال على شرح كل إجراء حسابي بسيط يشتت ذهن التلاميذ عن تلك المرحلة الانتقالية المهمة. وفى مقال نشر في صحيفة «وول ستريت جورنال» العام الماضي، شرحت أستاذة الهندسة باربرا أوكلي الأمر، قائلة إنه مثلما أن التركيز على أرجحة مضرب الغولف تعوق من قوة عملية الأرجحة فإن إجبار الأطفال على التوقف لإثبات فهمهم من الممكن أن يؤدي إلى أعاقة استيعابهم. وعليه فإن إجبار الأطفال على شرح فهمهم للرياضيات يعوق إجراءهم للعمليات الحسابية. وتشير دراسة المخ التي أجرتها «كلية طب ستانفورد» إلى أن ذلك من شأنه أن يعوق نمو المخ أيضًا.
وبحسب بيلز وغارليك، فبعض التلاميذ، خصوصًا دارسي اللغة الإنجليزية، ومنهم من يعانون من مرض التوحد، يعجزون عن تفسير إجاباتهم، حتى وإن كانوا مدركين للمفهوم ولطبيعة الإجراء، وعليه فسوف يشكل ذلك نوعًا من العقوبة على هؤلاء الطلاب، حتى وإن كانوا من المتفوقين في مادة الرياضيات.
وأشار البروفسور أوكلي إلى أن فهم التلميذ مفهوما معينا لا يعني أنه قد أتقنه، فالخبرة تأتي بالتكرار. وإتقان الشيء، وفق بروفسور أوكلي، هو القدرة على اكتساب كم وافر من المعرفة بسرعة ثم استخدامها، وأن الخبرة هي التي تبني فهمًا استيعابيًا عميقًا وليس العكس.
ربما أن موضة إجبار الأطفال على شرح كل إجراء حسابي بسيط نشأت من ثقافة الـ«سيلفي» و«فيسبوك» التي نسعى من خلالها لتوثيق كل لحظة حياتية نمر بها. بالتأكيد لم تنبع تلك الموضة من فهم حقيقي أو اهتمام بتطور المهارات الحسابية.
ولاحظ بيلز وغيرليك أن مهندسي الرياضيات العامة يعتقدون أنه لو أن طلاب مادة الرياضيات تصرفوا مثل المتخصصين فسوف يصبحون مثلهم في طرفة عين. وأضافا أن هذا الأسلوب قد يكون تجربة سلوكية شيقة، لكنه لا يصلح لأن يكون تطورًا رياضيًا.
فالهدف من التربية العامة هو أن نزود الأطفال بالتعليم، لا أن تستخدمهم مثل أدوات غافلة في التجارب. فأطفالنا لا يذهبون إلى المدرسة سوى مرة واحدة، وعقولهم لا تنمو سوى مرة واحدة. ولذلك فتعريض نمو أطفالنا للخطر عن طريق فكرة لا أساس لها أو عن طريق صانع قرار اعتقد في نفسه الذكاء يعد في حد ذاته جريمة.
وبناء على كل ذلك، فإن أفضل ما نقدمه إلى أطفالنا هو أن يترك ساستنا التجارب للعلماء، وبعدها يمكن أن ننتبه إلى النتائج.
* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»
انتقادات حادة لطرق تدريس الرياضيات في أميركا
خبراء أعربوا عن قلقهم من كونها تعرقل النمو العقلي للطلاب
انتقادات حادة لطرق تدريس الرياضيات في أميركا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة