مباشرة بعد الاعتداءات الإرهابية في باريس في أكتوبر (تشرين الأول)، قال الرئيس الفرنسي بالحرف الواحد في خطابه الذي أعقب الاعتداءات مباشرة: «سنحاربهم بالفكر والثقافة». وفي إيطاليا، خصص عمدة روما مزيدًا من الأموال لتنمية المناطق المهمشة ثقافيًا. لكننا، في المنطقة للأسف لا نزال عمومًا نتعامل مع العنف، المترسخ بأشكال مختلفة في أنفسنا وواقعنا الاجتماعي من منظور ديني وأخلاقي ضيق، وربما لهذا السبب عجزنا عن معالجته حتى استفحل وتحول إلى مرض اجتماعي خطير يهدد حتى وجودنا، ومنظومتنا الأخلاقية والدينية، بل تحول حتى إلى سمة نوصم ونعرَّف بها. بات عرق كامل، ودين كامل في قفص الاتهام، مضطرين يوميًا للدفاع عن نفسيهما أمام الضمير الإنساني. لم ندرك أن مشكلة العنف هي أساسًا مشكلة ثقافية، بحاجة إلى حلول ثقافية، بمعنى إشاعة القيم الإيجابية في المجتمع، والمساعدة على فهم الذات والآخر، والتعامل مع المشكلات التي ينتجها أي مجتمع من المجتمعات بقدر معقول من العقلانية والتبصر، وبقدر أقل من ردود الأفعال السلبية، التي تؤدي إلى الشعور بالانسحاق والمهانة، الانغلاق على الذات، ورفض الآخر، الذي يتم تحميله كل المسؤولية، وبالتالي اللجوء إلى العنف الموجه المنصب أساسًا على الذات، قبل أن يكون موجهًا للآخرين، مهما حاول أن يقنعنا المتعصبون بعكس ذلك. عصاب فردي يتحول مع الزمن، وبالتراكم، إلى عصاب جماعي فالت، يحاول معتنقوه أن يلبسوه لباسًا ثوريًا كما في الماضي، أو لباسًا سماويًا كما في حاضرنا. وفي الحالتين، هناك إغراء كبير يدغدغ رومانسية الشباب؛ حطب العنف في الماضي والحاضر والمستقبل.
نمو العنف في الفراغ بمستوييه؛ الواقعي والفضائي، كبير جدًا في مساحاتنا العربية، تقابله وتزيده هولاً ومتاهة انغلاقات تاريخنا العربي والإسلامي العصية على التفكيك كما يبدو، وإلا لنجحنا في ذلك منذ زمن طويل، منذ زمن علي عبد الرازق ومحمد عبده والكواكبي، بل قبلهم بقرون، منذ ابن رشد.
لقد نجحت «داعش»، وقبلها «القاعدة»، وهذا ما يعترف به كثيرون، في ملء هذا الفراغ، مستخدمة أحدث ما أنتجته ثورة المعلومات، وكسبت شبانًا كثيرين، حتى ممن تربوا في بيئات غربية، مستغلة الهشاشة الثقافية التي يعاني منها هؤلاء، إضافة إلى التهشيم الاجتماعي والاقتصادي، الذي ينبه إليه جيل كيبل في كتابه «الرعب في قلب فرنسا»، الذي يعقب عليه في هذه الصفحة الزميل هاشم صالح. وهذا التهشيم نجده مضاعفًا ربما عشرات المرات في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وعرف الفكر المتطرف كيف يوظف هذه الحقيقة، ويسوق تصوراته حول يوتوبيا وهمية هلامية موجودة هناك وليس هنا، رافعًا بوعي كامل التاريخ الإسلامي والمقدس فيه إلى مستوى تجريدي فضفاض لا يتبين فيه أي شيء، سوى البياض الخالص. العنف، هذا «النظام الساكن المعقد»، كما وصفه أحد الكتاب بصواب، بحاجة إلى ثورة شاملة تبدأ بالتراث العربي والإسلامي. لا يكفي أن نطلق النعوت على الفكر المتطرف وأصحابه، أو أن نجفف منابعه المالية، بل أن نجفف منابعه الفكرية، الموجودة في تراثنا، من خلال تقديم القراءة الصحيحة لهذا التراث، ونبذ الغث فيه، وإبراز وجوهه المشرقة.
لقد حفر مثقفونا ومفكرونا كثيرًا، منذ بداية ما سمي بالنهضة العربية إلى اللبنانين حسين مروة ومهدي عامل، اللذين اغتالهما مبكرًا هذا الفكر المتطرف بثوبه الشيعي، في أرض لا تزال صلبة لحد الآن، وضحى الآلاف بحياتهم من أجل ما سمي حينها بـ«القضايا الكبرى»: العدل والمساواة الاجتماعية والحرية أولاً، الكفيلة بسحب الأرض من الفكر المتطرف بأشكاله الاجتماعية والطائفية. لكن المحاولات البطولية حقًا فشلت لسبب واضح: إنها لم تجد حاملها السياسي، الممثل في السلطة، ولا حاملها الاجتماعي الذي لا يمكن أن يتوفر إلا في مجتمعات منفتحة مستقرة، مستريحة، لا تعاني من الشد القاتل بين الفرد والمجموع، والحاكم والمحكوم. كان صراعنا، في مرحلة من المراحل صراعًا واضحًا، وطنيًا أو طبقيًا إن شئتم، لا طوائف ولا مكونات. وانقلب التاريخ بنا، أو نحن قلبناه، حتى بتنا نتحدث عن مكونات وطوائف تشكل شعوبًا، واتحادات طائفية بلا حدود. نحن ما زلنا نعيش مرحلة ما قبل التاريخ، وعصر ما قبل الأمم.
تجفيف المنابع الثقافية للإرهاب

تجفيف المنابع الثقافية للإرهاب

لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة