مع نهاية عام 2015 أصبح في مصر برلمان، بعد نحو 3 سنوات عاشتها البلاد بلا مجلس تشريعي، لكن الأمر لم يلقَ الاهتمام الكافي في بلد قامت به ثورتان رفعتا شعارات الحرية والديمقراطية، مما أثار علامات استفهام وألقى بظلال كثيفة من الشك في طريق مجلس النواب. وباستثناء الاحتفاء الذي قوبل به ارتفاع نسبة تمثيل المرأة والأقباط، يواجه البرلمان حتى قبل انعقاده الكثير من الانتقادات ومخاوف بشأن ولائه، وطبيعة المسافة التي تفصله عن السلطة التنفيذية.
وبعد جولتين فاترتين من الاقتراع في شهري أكتوبر (تشرين الأول)، ونوفمبر (تشرين الثاني) الماضيين، ظلت الاتهامات التي يواجه بها المجلس تتراوح بين الارتجال المنفلت، والهندسة الصارمة. ففي حين يرى مراقبون أن تفتت الكتل البرلمانية وكثرة المستقلين من شأنه خلق برلمان معرقل غير قادر على اتخاذ قرارات، يرى آخرون أن السلطات تمادت في ضبط تركيبته ليأتي متوافقا مع شروطها.
ويتألف مجلس النواب من 568 عضوا بينهم 448 تنافسوا على المقاعد الفردية، و120 فازوا من خلال نظام القائمة المطلقة المغلقة، بإضافة إلى نسبة 5 في المائة من الأعضاء يحق للرئيس المصري تعيينهم بالمجلس. وبالنسبة لبرلمان توسعت صلاحياته بشكل غير مسبوق للمرة الأولى منذ ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، ليناط به وضع القوانين المكملة للدستور، إلى جانب توسيع صلاحياته ليكون بمقدور أغلبيته تشكيل الحكومة وطرح الثقة عن الرئيس، يشعر أصحاب وجهتي النظر بالقلق من طبيعة وأداء النواب الجدد، خصوصًا في ظل ارتفاع عدد أعضاء المجلس مقارنة بالبرلمانات السابقة.
وأظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية هيمنة المستقلين والأحزاب الليبرالية الناشئة، على غالبية مقاعد مجلس النواب الجديد. وحصل حزب «المصريين الأحرار»، الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، على أكثرية مقاعد المجلس بـ65 مقعدا، يليه حزب «مستقبل وطن» بـ50 مقعدًا، بينما هبط نصيب حزب النور السلفي إلى 12 مقعدًا فقط، بعد أن حقق ثاني أكبر كتلة برلمانية في انتخابات عام 2012.
وفي المركز الثالث للأحزاب جاء حزب الوفد الليبرالي العريق بـ45 مقعدًا. تلاهم حزب «حماة وطن» بـ17 مقعدًا، و«الشعب الجمهوري» بـ13 مقعدًا، فحزب المؤتمر 12 نائبًا، والنور السلفي 12 نائبًا.
ومن بين الأحزاب الأقل تمثيلا: جاءت أحزاب (المحافظين 6 مقاعد، الحركة الوطنية 5 مقاعد، السلام الديمقراطي 5 مقاعد، المصري الديمقراطي الاجتماعي 4 مقاعد، مصر بلدي 3 مقاعد، مصر الحديثة 3 مقاعد، التجمع مقعد وحيد، الإصلاح والتنمية مقعد وحيد).
وأشارت نتائج جولة الإعادة بالمرحلة الثانية إلى تفوق واضح للمرشحين المستقلين على مرشحي الأحزاب بنسبة كبيرة بعدما حصدوا 126 مقعدا مقابل 87 مقعدًا للحزبيين، عكس المرحلة الأولى والتي حصد فيها مرشحي الأحزاب 108 مقاعد أمام 105 مقاعد للمستقلين.
وبدا صعبا إقناع الناخبين المصريين بالاقتراع على برلمان تنافس مرشحوه على إعلان تأييد رأس السلطة التنفيذية، الأمر الذي انعكس على نسبة المشاركة في آخر استحقاقات خريطة المستقبل، بحسب مراقبين، فجاءت دون الـ30 في المائة، لتحتل بها انتخابات مجلس النواب الترتيب الأخير من حيث إقبال الناخبين، على مدى السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت 8 استحقاقات.
كانت الساحة السياسية في البلاد قد شهدت أعلى درجات حيويتها في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011. وتنوعت درجات الطيف السياسي من أقصى اليمين حيث أسست قيادات الجماعة الإسلامية، حزب البناء والتنمية، حتى أقصى اليسار مع «الاشتراكيين الثوريين»، مرورا بعشرات الأحزاب الليبرالية واليسارية والإسلامية، التي استفادت من إطلاق حرية تأسيس الأحزاب بعد الثورة. وتُرجمت تلك الحيوية في نسب إقبال غير مسبوقة في الانتخابات والاستفتاءات التي جرت منذ مارس (آذار) 2011، وحتى ديسمبر (كانون الأول) 2012.
لكن حالة الاستقطاب التي شهدتها البلاد قبيل ثورة 30 يونيو (حزيران)، التي أطاحت بالرئيس الأسبق محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، قلصت التنوع إلى حدوده الدنيا، وبات التمييز يجري على أساس التناقض البسيط بين الأبيض والأسود، قبل أن تتصدع كُتلتا الصراع، تاركة المجال العام غارقا في ظلال اللون الرمادي.
وفي أجواء من الحيرة والتوجس، تضخمت بفعل غياب القواعد التقليدية التي أسست شروط اللعبة السياسية في مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مثل البرلمان مصدر قلق للجميع. وعبر هذا القلق عن نفسه خلال مداولات لجنة الخمسين التي أنيط بها كتابة دستور البلاد الجديد، حيث عجزت اللجنة عن حسم موقع الانتخابات البرلمانية على خارطة المستقبل، قبل الانتخابات الرئاسية أم بعدها؟!
ألقت لجنة الخمسين بأزمة البرلمان على كاهل المستشار عدلي منصور الذي تولى منذ يوليو 2013 ولنحو عام رئاسة البلاد بصورة مؤقتة. وانتقل هذا القلق على ما يبدو إلى الرئيس منصور الذي فضل إجراء الانتخابات الرئاسية أولا، ليلقي بدوره المسؤولية على كاهل الرئيس المنتخب.
وكان الدستور قد وضع موعدا تنظيميا لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في غضون 6 أشهر، لكن أزمة البرلمان التي بدت عصية على الحل استمرت، فتأخر الموعد المفترض لانتخاب مجلس للنواب لنحو عام ونصف العام.
وشهدت الساحة السياسية جدلا واسعا على خلفية القوانين التي تنظم العلمية الانتخابية، واستقبل الرئيسان عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي خلال عدة جلسات ممثلين عن الأحزاب السياسية الذين أعربوا جميعهم عن رفض القوانين مطالبين بتعديلها، لكن القوانين ظلت على حالها حتى بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكما ببطلان مواد في قانوني تقسيم الدوائر وانتخابات مجلس النواب، واكتفت لجنة شكلها الرئيس السيسي بمعالجة ضيقة للقوانين في ضوء حكم المحكمة الدستورية.
وحين جاءت لحظة انطلاق قطار الاستحقاق البرلماني، كان طيف واسع من الأحزاب قد أعلن مقاطعته. وفي غياب المشهد التقليدي وجد المرشحون المستقلون والأحزاب والناخبون أنفسهم أمام انتخابات برلمانية بلا بوصلة هادية، وخارج المربع المريح للموالاة أو المعارضة، فالرئيس السيسي، القادم من المؤسسة العسكرية رأسًا إلى سدة الحكم، تعهد بألا يؤسس حزبا أو يدعم حزبا من الأحزاب الموجودة على الساحة.
واستعانت الأحزاب التي تفتقر للحضور الشعبي والكوادر المؤهلة بقيادات شعبية محلية أو نواب سابقين لخوض الصراع الانتخابي، على طريقة الاحتراف في عالم كرة القدم، حتى إن أحزاب تبادلت اتهامات بسرقة مرشحين محتملين للمجلس.
وعكست الحيرة بشأن الاستقرار على رئيس مجلس النواب قبل الانتخابات وفي أعقابها قدر القلق الذي يساور دوائر صنع القرار في مصر من أداء المجلس المقبل، كما بدا الحرص على تشكيل ائتلاف واسع يضمن أغلبية مريحة طريقة لضبط إيقاع برلمان يضم وجوها مثيرة للجدل وأخرى تفتقر للخبرة البرلمانية في لحظة فارقة من تاريخ البلاد.
وخارج السياق العام للقلق الذي رافق الميلاد العسير لمجلس النواب، برزت المرأة المصرية التي حققت رقما قياسيا لأول مرة في المجالس النيابية بحصد عدد كبير من المقاعد، حيث فازت بـ71 مقعدا في الانتخابات، بخلاف نصيبها من نسبة التعيينات، حيث أقر قانون مجلس النواب أن يكون نصيب المرأة 14 مقعدا من إجمالي المعينين، ليصبح مجموع مقاعدها في البرلمان الجديد 85 مقعدا.
كما قوبل ارتفاع نسبة تمثيل المسيحيين في المجلس بالحفاوة نفسها، حيث حقق النواب الأقباط رقما قياسيا جديدا في تاريخ البرلمان المصري، إذ أسفرت نتائج المرحلتين الأولى والثانية من الانتخابات عن فوز الأقباط بـ36 مقعدا داخل مجلس النواب، منهم 24 بنظام القوائم و12 بالنظام الفردي، فيما سجل الدكتور سمير غطاس اسمه كأول قبطي يفوز من الجولة الأولى في الانتخابات دون خوض جولة الإعادة عن دائرة مدينة نصر.
وبعيدا عن حسابات ما جرى خلال الانتخابات البرلمانية، من المرجح أن تحسم الملفات العالقة طبيعة البرلمان المقبل، ومن أبرزها اختيار رئيس الحكومة، ومناقشة القوانين التي صدرت في غيبة المجلس، وتعديل الدستور ومنح الرئيس صلاحيات أوسع، وسيكون على النواب أن يجيبوا عما إذا كانوا فاعلا رئيسيا على الساحة السياسية، أم مجرد ديكور يكمل ما يبدو كالمشهد الديمقراطي.
مصر تنتخب برلمانا بعد 3 سنوات من دون مجلس تشريعي
المرأة والأقباط أكثر الرابحين.. والأحزاب الدينية تتراجع
مصر تنتخب برلمانا بعد 3 سنوات من دون مجلس تشريعي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة