في الليلة التي سبقت وصول «أميرالد برنسيس» السفينة الأميركية، السياحية، المحيطية، العملاقة، الأنيقة، التابعة لشركة «برنسيس كروز» إلى بريطانيا، عقدت فيها ندوة عن العلاقة بين الأميركيين والبريطانيين. كان في السفينة ثلاثة آلاف سائح تقريبا، أغلبيتهم أميركيون، وعدة مئات من البريطانيين. وجرت العادة في السفينة على ترتيب محاضرات، أو ندوات، في الليلة التي تسبق وصول السفينة إلى دولة أوروبية معينة.
كان عنوان الندوة: «أكروس ذي بوند» (عبر البحيرة). يشير هذا إلى عبارة ود بين الأميركيين والبريطانيين بأنهم «إخوان»، لكن، تفصل بينهم «بحيرة»، إشارة إلى المحيط الأطلسي.
بدأ الندوة أستاذ جامعي سابق يتكلم بلكنة بريطانية، لكنه قال إنه صار مواطنا أميركيا قبل سنوات قليلة. بعد أن قضى 20 سنة في أميركا، وبعد أن وقع في «حب هذا البلد العظيم». وأشاد كثيرا بالأميركيين. لكنه قال إن «بريطانيين كثيرين انتقدوه لأنه حصل على الجنسية الأميركية». واعترف بأن نظرة البريطانيين إلى الأميركيين فيها استعلاء. وهو نفسه لا يخلو منها.
وتندر بأن أوسكار وايلد (كاتب وشاعر بريطاني توفي عام 1900)، قال: «اكتشف البريطانيون أميركا قبل كولمبس. لكنهم لم يعلنوا ذلك خجلا مما اكتشفوا». وقال: «الأميركيون هم الشعب الوحيد الذي انتقل من البربرية إلى الاستعلاء، دون أن يمر بمرحلة الحضارة».
* أستاذ أميركي
وتحدث أستاذ جامعي أميركي متقاعد، كان درس في أكسفورد وكمبردج. وقال إن «الأميركيين والبريطانيين، بدلا عن أن يتهموا بعضهم بالاستعلاء على الآخر، يجب أن يفتخروا باستعلائهم، هم الاثنين، على بقية شعوب العالم». وذلك لأنهم «صناع الحضارة الحديثة»، كما كرر.
وأشار إلى كتب عن هذا الموضوع صدرت مؤخرا. منخت: «أنفينتنغ فريدوم» (اختراع الحرية)، عن الماضي الأميركي البريطاني المشترك. وكتاب «أنغلو ساكسون ستيت» (الاتحاد الأميركي البريطاني) عن احتمالات المستقبل بين الشعبين. وقال إن «هذا الاحتمال موجود، لكن ليس قريبا. وربما هو سبب تردد البريطانيين في الانضمام انضماما كاملا للاتحاد الأوروبي.
وقال إن الأميركيين والبريطانيين «هم الذين اخترعوا الحرية». وإن شعوب العالم الأخرى «تعرف ذلك معرفة جيدة. لكن، لا تريد الاعتراف به. إنهم يرفضون التفكير فيها بعقولهم الواعية، لكنهم يفكرون فيها بعقولهم غير الواعية، بعقولهم الباطنية».
وقال إن الفرنسيين والإيطاليين والألمان أول من يجب أن يعترف بدور «الأنغلو ساكسون» (أميركيين وبريطانيين) في «اختراع الحرية». وانتهز هذه الفرصة، وتندر على هذه الشعوب:
* في لندن
في الحافلة الأنيقة التي نقلت نحو 50 سائحا أميركيا من ميناء ساوثهامبتون إلى لندن، كان المرشد بريطاني يتكلم بلكنة بريطانية واضحة.
وكأن الشركة السياحية تعمدت ذلك. ها هو البريطاني وكأنه يفتخر بلكنته أمام الأميركيين، وها هم الأميركيون وكأنهم حققوا حلم حياتهم.
بقى حلمان آخران: زيارة قصر بكنغهام، واكل «فيش أند جيبز» (سمك وبطاطس مقلية).
أكلوا السمك والبطاطس، لكنهم لم «يزوروا» قصر بكنغهام.
وقفت الحافلة في شارع جانبي. وهرع السواح نحو ميدان القصر. ووقفوا خارج سور الميدان. والتقطوا عشرات، بل مئات، الصور. وفي جو إثارة وفرح واضح، تحدثوا مع بعضهم البعض عن: «هناك تقف العائلة المالكة» و «هناك هبطت الملكة إليزابيث يوم عيد جلوسها» و«هذه هي اصطبلات خيول الملكة» و«هنا يسكن خدم الملكة».
في شارع «فليت ستريت»، دخل السياح مطعما عريقا، كان كله تقريبا حجز مسبقا لهم، لأكل «فيش أند جيبز»، وشراب البيرة السوداء غير الباردة. ومرة أخرى، التقطوا كثيرا من الصور.
لكن، ارتكب البريطانيون خطأ لن يغفره لهم الأميركيون: عندما جاء وقت الحلوى، قدموا لهم «أبل باي» (فطيرة التفاح)، وفوقها «كستارد»:
أولا: يفضل الأميركيون آيس كريم فوق الفطيرة. ويسمونها «آيس كريم ألامود» (الموضة الجديدة).
ثانيا: ليس «كستارد»، المشهور في بريطانيا، مشهورا في الولايات المتحدة. حتى «بودنغ» البريطاني، لا ينتشر كثيرا في الولايات المتحدة.
وتمتم أميركي، وهمس: «منذ أن طردناهم من أرضنا، قاطعنا ألكستارد». وهمست أميركية: «حتى لو قدموا لنا آيس كريم، لن يكن مثل آيس كريم بن أند جيري الأميركي».
وفي حديقة خلفية جميلة وكبيرة، جهزت مسبقا للسياح الأميركيين (ومع جو غير ممطر، عكس ما توقع الأميركيون)، استمتعوا بشراب «أفترنون تي» (شاي العصر). رغم أن القهوة أكثر انتشارا في الولايات المتحدة من الشاي. لكن، لا بأس: «وي آر إن إنغلاند» (نحن في إنجلترا).
* متاحف لندن
رغم يومين في لندن، وزيارة متاحفها الرئيسة، لم يبدو أن الأميركيين متحمسون للمتاحف مثل حماسهم للكنة، الملكة، والسمك المقلي. وكان ملاحظا الآتي:
أولا: تفضيل الأميركيين لآثار لندن الأدبية والفكرية: المكتبة البريطانية، ومتاحف: ويليام شكسبير، شارلز ديكنز، بيرنارد شو، أوسكار وايلد، شيرلوك هولمز.
ثانيا: قلة اهتمام الأميركيين بمتاحف عن تاريخ بريطانيا، واختراعاتها العلمية، وتراثها الصناعي. مثل: المتحف البريطاني، متحف التاريخ الطبيعي، متحف العلوم، متحف فيكتوريا وألبرت.
لماذا؟
صار واضحا أن الأميركيين، لأنهم يعترفون بالتراث الأدبي والفكري البريطاني، يريدون مشاهدة المتاحف والأماكن عن هذه الموضوع. لكن، قل اهتمامهم بالتاريخ البريطاني. لثلاثة أسباب:
أولا: جزء من هذا التاريخ عن سنوات احتلال الولايات المتحدة، حتى استقلالها (عام 1776).
ثانيا: جزء من هذا التاريخ عن المستعمرات البريطانية، التي ينفر منها الأميركيون، لأنهم لم يكونوا دولة استعمارية (غير حالات قليلة).
ثالثا: رغم أن الثورة الصناعية كانت في أوروبا، يفتخر الأميركيون بأنهم أصحاب الاختراعات القديمة (مثل: السيارة، الطائرة، الصاروخ)، والاختراعات الحديثة (مثل: التلفزيون، السينما، الكومبيوتر).
لكن، في الجانب الآخر، ركز «هنري»، المرشد السياحي البريطاني (صاحب اللكنة البريطانية) على العكس. ركز على تاريخ بريطانيا، وخصوصا إنجازاتها العلمية. لم يزر السياح كل هذه المتاحف. لكن، كانت الحافلة تمر بالقرب من بعضها. وكان المرشد البريطاني يشير إليها في فخر واضح. مثل: متحف غرف العمليات، متحف الأسنان، متحف ماكينات الحياكة، متحف التخدير، متحف لعب الأطفال.
وكان أميركيون يهمسون، ويغمزون: «صارت اللعب إلكترونية وعندما كانوا يقلعون الأسنان بالشاكوش ونشتري ملابسنا جاهزة من الصين».
* عمالقة العلوم
ركز المرشد البريطاني على الاختراعات، وعلى عمالقة بريطانيين. وقال: «لا ينافسنا شعب في وضع حجر الأساس للتطور العلمي الحديث»
هذا هو روبرت بليك (مخترع التلسكوب عام 1665، والميكروسكوب، عام 1698).
وهذا هو إسحق نيوتن (أبو الرياضيات، والميكانيكا، والحركة، والجاذبية، توفي عام 1727).
وسأل سائح: «أين شجرة التفاح التي شاهد نيوتن تفاحة تسقط منها؟» وأجاب المرشد: «انقرضت. اليوم، توجد شجرتان، واحدة في أكسفورد، وواحدة في كمبردج، ويعتقد أن واحدة منهما سليلة شجرة نيوتن».
* عمالقة الحرية
لم يناقش المرشد، وهو البريطاني الحذر، الأميركيين في دستورهم، وفي أبيهم الأول جورج واشنطن، وفي كاتب دستورهم توماس جفرسون (لأنه يعرف قدسية هؤلاء عندهم). لكن، مثلما ركز على عمالقة العلوم البريطانيين، ركز على عمالقة الفكر الحر البريطانيين. ومرات كثيرة، كرر بأنه، قبل مائة عام تقريبا من الثورة الأميركية (وقعت عام 1776)، ومن الثورة الفرنسية (وقعت عام 1789)، كانت هناك الثورة البريطانية (وقعت عام 1688). وقال إن اسمها الحقيقي هو «غلوريوس ريفليوشن» (الثورة الرائعة). وقال إنها أم الثورات في كل العالم.
وبرع المرشد البريطاني في الاستعلاء في المكتبة البريطانية، حيث وثيقة «ماغنا كارتا» (في اللغة اللاتينية: الميثاق العظيم)، التي قدمت يوم 15 - 6 - 1215، إلى الملك جون، وطلبت منه وضع اعتبار لآراء شعبه.
وتعمد المرشد بان يقول الآتي:
أولا: «ماغنا كارتا» هي أم وثائق حقوق الإنسان، إطلاقا.
ثانيا: أثرت على واضعي الدستور الأميركي.
ثالثا: «ماغنا كارتا» الموجودة في مبنى الكونغرس في واشنطن ليست أصلية.
واستمر المرشد يشير إلى هنا وهناك:
هذا هو توماس هوبز أبو الفلسفة السياسية، ومؤلف كتاب «ليفياثيان» عن قوة الملوك. لكن، فيه أسس الحرية والفردية. توفي عام 1679.
وهذا هو جون لوك أبو الليبرالية، والملكية الفردية، والعقد الاجتماعي، وفصل الدين عن الدولة. توفي عام 1704. وأثر على الفرنسيين: فرنسوا فولتير، وجين جاك روسو. ثم بعدهم، على الأميركي توماس جفرسون.
وهذا هو ديفيد هيوم تلميذ لوك، ومؤلف كتاب «الطبيعة الإنسانية»، بأن العاطفة أقوى من المنطق، ونقيض الفرنسي رينيه ديكارت، أبو العقلانية. توفي عام 1776. وهذا هو أدم سميث (أبو الرأسمالية. ورغم أنه دافع عن الربح في كتاب «ثروة الشعوب»، دعا إلى رأسمالية إنسانية في كتاب «الأحاسيس الأخلاقية». توفي عام 1790.
وهذا هو بنجامين روبنز (مطور البندقية، ومخترع المدفعية. ويسمى «نيوتن العسكري». توفي عام 1751.
وأسهب المرشد في الحديث عن روبنز، وقال إنه هو الذي حمى الغرب من سيطرة الخلافة التركية. ذلك أن اختراع المدفعية كان بداية نهاية الخلافة التركية، التي غزت الشرق والغرب اعتمادا على القذائف.
وهذا هو ونستون تشرشل (أشهر رئيس وزراء في القرن العشرين، ومخلص بريطانيا من الغزو الألماني). وأسهب المرشد في الحديث عن تشرشل. وربما مجاملة للسياح الأميركيين، أشار المرشد إلى أن أم تشرشل أميركية: جانيت.
لكن، قال في خبث واضح إنها خانت زوجها مع أصدقائه مرات كثيرة. وإنها اخترعت كوكتيل ويسكي «مانهاتان» وإنها تخلت عن أميركيتها، وصارت جزءا من عائلة تشرشل الأرستقراطية، وأصبح اسمها «ليدي راندولف شير تشرشل».
* معالم أميركية في لندن
وأخيرا، قد تعمد المرشد البريطاني أن تمر الحافلة (لكن، لا تقف) بالقرب من معالم أميركية. مثل:
أولا: سفارة تكساس (عام 1836، استقلت ولاية تكساس من المكسيك. ولسنوات، قبل أن تنضم إلى الولايات المتحدة، أعلنت نفسها دولة مستقلة، وفتحت سفارة في لندن).
ثانيا: البيت الذي سكن فيه بنجامين فرانكلين (من الآباء المؤسسين الذين قاوموا الاحتلال البريطاني، واشترك في كتابة إعلان الاستقلال).
ثالثا: محطة كهرباء هولبورن (أول محطة توليد كهرباء في العالم، صممها الأميركي توماس أديسون، مكتشف الكهرباء، عام 1882. وكانت تدار بالبخار).
وتعمد المرشد البريطاني أن يكرر: «بنى محطة كهرباء لندن قبل أن يبني محطة كهرباء نيويورك».