كانت سنة كالحة حقا.. سنة العنف في أعلى درجاته، والهجرة التي اختزلت تاريخ الهجرات، سنة بيع النساء كما تباع الخضراوات في السوق، سنة احتلال أنفار مجنونين لمدن كبرى قاومت التاريخ قرونا، نازعت الحر والقرّ، ورماد الدنيا وغبارها، لكنها سقطت في إغماضة عين. سنة غامضة كمصائرنا، لا يعرف فيها القتيل من قتله ويعرفه في الوقت ذاته. أوطان تقسمت أنصافا، وكل نصف يُقسَّم نصفا. عام الفيل. عام الدب القطبي، والقيصر الأخير على الأرض، وهو يلكأ جراحه في المكان الخطأ والزمان الخطأ.
عام الطائرات السّجيل المغيرة بكبرياء فارغ على أرض لم يبق فيها غير الحجر. لقد قالها البعثيون يوما: لن نبقي فيها غير الحجر. وصدقوا. لم يصدقوا مع الوحدة والحرية والاشتراكية، لكنهم صدقوا هذه المرة. للمرة الأولى في حياتهم يصدقون. وستكمل طائرات القيصر المهمة، مهمة سهلة جدًا، يأنف عنها الشجعان. يريد القيصر، رجل المخابرات السابق، الذي لا يعرف أن يميز بين تولستوي وراسبوتين، أن يعيد للأمة الروسية الجريحة مجدها وعظمتها كقوة كونية عظمى، وبدلا أن يفعل ذلك في الداخل، هرب إلى الخارج إلى أين؟ إلى ما تبقى من شعب وخرائب خلفها «الرفاق البعثيون». وهم آخر بالعظمة يغذيه عالم لا يعرف ماذا يفعل.
عام الحيرة في أقصى تجلياتها.
السيد الآخر، سيد العالم، لا يعرف ماذا يفعل بأمره وأمر العالم. كان ماركس يقول إن البشرية لا تطرح على نفسها إلا المشكلات القادرة على حلها. أخطأ ماركس. فها هي البشرية، كل البشرية، من القطب إلى الصحراء تبدو مشلولة اليد واللسان أمام الأسئلة التي تطرحها على نفسها. ماذا نحن فاعلون، وإلى أين نمضي؟ ما الذي فعله بنا الطغاة؟ ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ مجازر يشيب لها الولدان، كما اعتادت العرب أن تقول، والبشرية مشلولة اليد واللسان. وحده العنف ليس حائرا. وكأن العنف وحده يفكر. يبتكر الأفانين، ويحول نفسه إلى لغز متحرك من صحراء الرمادي إلى مسارح باريس. صار ميدوزا التي تعمي أبصار الناظرين إلينا يضرب ما يشاء، متى ما يشاء. ألم نره من قبل؟ هل خرج فجأة من كتب تاريخنا؟ هل أُخذنا على غفلة؟ هل يغفر التاريخ للأمم التي تؤخذ على غفلة؟
كان الأميركيون يتساءلون دائمًا: أين الخطأ؟ ولكننا لم نعد نسمعهم يطرحون هذا السؤال. كفوا عن طرحه لأنهم لا يريدون أن يسمعوا الجواب. وقف العالم على محور واحد سنينا طويلة، بعد أن كان واقفًا على محورين متعادلين في الطول والعرض، واعتاد على وقفته تلك.. ثم فجأة بلعته الأرض، فتهاوينا معه. اختل التوازن الذي أوهمنا أنفسنا به. اختل توازنا. اعتدنا، كما علمنا الطغاة، أن لا نفكر، فهناك من يفكر بدلا عنا، وهم يعرفون الحلول أيضا للمشكلات التي تطرحها البشرية، المشكلات التي صنعوها لنا حتى لا نعكر صفوهم، ولكي نملأ فراغات حياتنا الطويلة بها.. حتى انقلب السحر على الساحر، حتى تساوى كل شيء. أمم كانت حتى وقت قريب أمما، تبدو الآن وكأنها خرجت من التاريخ الإنساني لتدخل أحراش الغابة، فيبارز عضو عضوا، وينفي جسد جسدا، ويمزق ثوب ثوبا حتى العراء. إلى أين نحن سائرون؟ هل نعرف؟
ربما، للمرة الأولى في التاريخ، تطرح البشرية على نفسها أسئلة غير قادرة على حلها.. ويبدو أنها وصلت إلى الحالة القصوى من الاختناق، وإذا لم تغير نفسها، فإنها ستعود إلى عصر البربرية، الذي نعيش فصله الأول منه الآن، وقد تأتي فصول أشد دموية. التاريخ لا يسير في خط مستقيم.
كأن العنف وحده يفكر في هذا العالم!
كأن العنف وحده يفكر في هذا العالم!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة