وليس أخيرًا، دخلت المرأة السعودية في مسار جديد كان التوقع فيه أن تظفر بالوجود الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وإن كانت التوقعات أن يكون عدد المقاعد التي حملتها إليها أصوات الناخبين والناخبات أقل، لكنها نجحت في تحريك صورة ظلت محدودة الإطارات، يتنازعها كثير من الأمور بين العادات والتقاليد وأمور شتى.
عوامل عدة ساهمت في إزالة بعض التعتيم الذي ظل مناهضًا لظهور المرأة السعودية في مسارات مدنية وتشريعية، لكن وإن حضرت، تظل الصراعات حول المرأة نشيطة في المجتمع السعودي، مما يجعل الأمل أن تساهم مثل هذه النتائج وتحقيق الحضور النسائي في تحييد تلك الصراعات إلى مستوى العمل التنموي الوطني الكبير الذي ينتظر البلاد.
المرأة السعودية تعيش في حالة تصالح واقعيًا، ولديها الأمل البعيد، وتتوق إلى تحقيقه عبر الطرق والأنظمة السعودية، التي حملتها - مؤخرًا ومنذ سنوات - إلى مراحل مختلفة من العمل السياسي من خلال مجلس الشورى، وفتح مجالات التوظيف الواسعة خلافًا لما كانت عليه في عقود ماضية، واليوم يتجلى ذلك من بوابة المجالس البلدية.
جعلت المرأة السعودية من الانتخابات البلدية حدثًا عالميًا، تناقلته وسائل الإعلام بمختلف أطيافها وتوجهاتها، صورتها كانت البارزة في مجمل الحضور الانتخابي، وكذلك مشهد الختام بعد إعلان أسماء المرشحين والمرشحات الفائزين والفائزات، في دورة ثالثة كانت وسائل الإعلام منجذبة كثيرًا للأولى قبل عشرة أعوام، وأقل حضورًا للثانية، وأكثر تميزًا في الدورة الثالثة، إن صحت تسميتها بدورة دخول المرأة ناخبة ومرشحة.
أمران كانا نقطة اللفت في الانتخابات - وإن بدا فاترًا - مقارنة بنسبة الإقبال بين من قيد اسمه ناخبا، التي تجاوزت 47 في المائة.. أولى تلك النقاط اللافتة هي في الدخول التاريخي للمرأة، والعدد الكبير الذي لم يكن متوقعًا لدى طيف من المتفائلين، إضافة إلى الصلاحيات الواسعة الممنوحة للمجالس البلدية في الحلة الجديدة.
المجالس البلدية التي لا يمكن أن تصل إلى مرحلة مزايا مجلس الشورى حتمًا، لكنها أكثر المجالس التشريعية في ملامسة الواقع، وتلمس احتياجات المجتمعات المحلية، التي غالبًا ما تغلب على تفاصيلها الصغيرة فرصة تقويض المطالبات الكبرى، ويستطيع الفرد ذكرًا أو أنثى تلمسها من خلال ملامسته المعيشة.
وعلى خلاف الوجه الجديد للانتخابات البلدية في دورتها الثالثة، اتخذت النساء المرشحات طرقهن في الحملات الانتخابية مستفيدات من التطور التقني والوهج الدائم لمنصات التواصل الاجتماعي، خلافًا للطريقة الرجالية التي انحصر غالبها في تكوين مقرات لإبراز برامجهم الانتخابية، واستطعن جذب بعض الأصوات من خلال هذه الأساليب الإلكترونية.
على الصعيد النسائي، وجدت عشرون سعودية (من بين 979 مرشحة) فرصتهن في الدخول بقوة نحو المقاعد البلدية، في كل بلدية من بلديات المملكة، وهذا العدد مرشح للازدياد، إذ سيكون هناك ثلث متبقٍ سيكون تحت تصرف الحكومة السعودية، إذا بلغ مجموع الفائزين والفائزات عبر الاقتراع 2106 مرشحين ومرشحات.
تأمل النساء في طريقهن الجديد بالدخول في عالم التشريع إلى تحقيق الطموحات، بعد أن أثبتن سيدات في مجلس الشورى وجودهن، وحملن ملفات عدة إلى طاولة النقاش، منها ما تمت الموافقة عليه، وأخرى كانت المعارضة ضدها، لكنها كانت تعبر عن حراك كبير في مسيرة النساء في السعودية، بل وكانت هي العنوان الأبرز في وسائل الإعلام الأجنبية، نظرا للدخول الكبير في المجال، رغم أصوات تعارض الحضور النسائي لاعتبارات دينية وأخرى تمس العادات والتقاليد.
ما يميز النسوة في أسلوب التعبئة قبل أيام من الاقتراع الكبير الذي شارك فيه ما يزيد على 700 ألف ناخب وناخبة، عن نظيرها الرجل، هو دخولها الكبير بمساعدات نسائية خالصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كانت ترغب في أن يكون الصوت مسموعًا، وهي في حال عدم تحقق أي إنجاز ترى النسبة الكبرى منهن أن منحها حق الحضور ناخبة ومرشحة يعد إنجازًا يضاف في طريق المرأة الطويل نحو الطموح الغالب على السواد الأكبر.
الإشادات العالمية التي حظيت بها المرأة نظير مشاركتها، كانت وستكون حتمًا مساهمة في تغيير النظرة التي كانت تحيطها الهالة الإعلامية الغربية عن المرأة في المملكة، وبالنظر إلى الأرقام التي أفرزتها عملية الاقتراع، يتضح مشاركة 82 في المائة من النساء الناخبات في عملية الاقتراع، بمشاركة تجاوزت 106 آلاف امرأة من أصل أكثر من 130 ألف ناخبة مسجلة.
جديع القحطاني، رئيس ومتحدث اللجنة التنفيذية للانتخابات البلدية، أكد أن مشاركة السعوديات ناخبات بلغ 24 في المائة، من إجمالي الناخبين الجدد المسجلين في هذه، مصرحا من موقعه الرسمي بأنهم كانوا يتمنون أن تكون المشاركة أكبر، لكنها وفق الحضور الأول لهذا الاستحقاق تعطي الأمل في مستقبل مختلف.
* ثقافة نيل الاستحقاق
الناخبة أشواق الجعيد، قالت إنها على علم بعدم فاعلية المجالس البلدية في الدورتين السابقتين، لكن سبب تسجيلها في قيد الناخبين هو المساهمة في الاستحقاق الأهم في نظرها، بضرورة وصول امرأة على الأقل في مجلس مدينتها، معبرة عن سعادتها بوصول أكثر من سيدة من خلال الصناديق الانتخابية، مؤكدة، لـ«الشرق الأوسط»، أن الدعاية الانتخابية عبر شبكة التواصل الاجتماعي (تويتر) جعلت صوتها يصل إلى من تراها في نظرها تستحق الوصول نظير أهدافها الانتخابية.
وقالت الجعيد، إنها تلقت اتصالات قبل الاقتراع من قبل إحدى المرشحات بعد أن تأكدت من تسجيلها في دائرتها الانتخابية، معبرة عن سعادتها لتنامي هذه الثقافة الانتخابية التي تعبر عن انطلاقة فعلية نحو العمل المدني النسائي، مشددة على أنه لن يحقق للمرأة وجودها سوى المرأة نفسها، من خلال إثبات العمل دون الالتفات إلى الأصوات التي تنادي بتحييد السيدات عن العمل المشرع لها من قِبل الدولة.
بالأمس تجلت النساء في السعودية، لتعبر أصواتهن عباب البحار، ولتكون الرسالة الأكثر وضوحًا أن البلاد تتغير، وقودها في ذلك الدعم السياسي، ووعي شامل جاب أركان الشارع السعودي، في وقت كان التوقع أن يكون الإقبال على ترشيح النساء ضعيفًا أو معدومًا، فكانت النتائج المعلنة بالأمس تثبت أن المشاركة الأولى أثمرت نتائجها الجيدة خصوصًا بين النساء.
حضورها الصامت الراضي سابقًا، مع إنجازات متتالية فردية وجماعية، جعل الرؤية السياسية محققة واقعًا، وإن كانت النساء الحاضرات، ناخبات ومرشحات، استطعن إثبات الحضور حتى في المناطق والمدن ذات الزخم القبلي الذي غالبًا ما يستجيب لتقاليده، لكن المرأة هي واحدة في حضورها وتميزها، وإن كانت خارج الحدود.
* نساء «الشورى» دافع للمشاركة
ورأت الأكاديمية السعودية، الدكتورة ميساء الحكمي، أن دخول المرأة مجلس الشورى ساهم في تغيير الصورة المتشائمة في قدرة النساء على التغيير وإثبات القدرة على تحمل الأعباء في الشؤون العامة، وأضافت، في حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط»، أن التغيير ومشاركة الرجال في دعم المرأة في هذه الانتخابات يعطي مؤشرًا آخر على قبول المشاركة النسائية.
وتمنت الحكمي من المرشحات الفائزات في عموم السعودية، أن يفعلن الدور المنوط بهن في الاتجاه الصحيح للعمل، لأن هذه خطوة من خطوات كثيرة في طريق المرأة نحو الحضور الريادي في المجتمع، وأن هذا المكسب الذي ساهم فيه الرجال لدخول المرأة إلى المجالس البلدية سيقوض كل ما يثار حول قدرة المرأة في تحقيق العمل المجتمعي.
* 3 يناير مرحلة العمل
السعوديات الفائزات سيبدأن العمل عبر المجالس البلدية ومعهن الرجال حتمًا، في الثالث من يناير (كانون الثاني) المقبل، وستكون أمامهن والمجالس البلدية صلاحيات أوسع للمجالس التي ظلت لدورتين ماضيتين أقل من الطموح الشعبي، من خلال إقرار الخطط والبرامج البلدية ذات الصلة بتنفيذ المشروعات البلدية المعتمدة في الميزانية، ومشروعات التشغيل والصيانة، والمشروعات التطويرية والاستثمارية، وكذلك الدراسة والرأي حول المخططات الهيكلية والسكنية، ومشروعات نزع الملكية للمنفعة العامة، وشروط وضوابط البناء، بجانب نظم استخدام الأراضي والخدمات البلدية والرسوم والغرامات البلدية، وكذلك متابعة الشروط والمعايير المتعلقة بالصحة العامة.
وتبرز مزايا أعضاء المجالس البلدية في حضور الجلسات المقررة لمرة واحدة في الأسبوع، تبلغ معها مخصصات الجلسة الواحدة قيمة كبرى لا تتجاوز (ألفي ريال)، وغيرها من البدائل المالية الأخرى، لكنها ذات ثقل تنموي لما سيتحمله المرشح أمام ناخبيه في ضوء الصلاحيات الجديدة والمتجددة لتحقيق التنمية على النطاق الصغير.
الدولة السعودية تتغير من يوم إلى آخر، يترافق معها الاهتمام بمجالات التعليم والعمل والتدريب، الذي تشارك فيه المرأة، فالنساء السعوديات بعد مجلس الشورى في رحلة مميزة بدأت قبل أكثر من عامين.. وجودها في الشورى يشكل 20 في المائة من أعضاء المجلس، فكان فاتحة التاريخ حين تم تعيين ثلاثين سيدة بعضوية كاملة داخل المجلس، فشكلت خلال عامين منذ دخولها لقاعة المجلس الذهبي في عام 2013 حضورًا بارزًا على صعيد كثير من الملفات، وحاولت تلك (الكوتة) النسائية في حيزها أداء كثير على شتى اللجان العاملة.
وسيحمل العام الجديد تغيرات كثيرة ستشهدها البلاد، خصوصًا بعد ورش عمل شاملة تضج بها العاصمة الرياض، من أجل تحقيق تنمية متطورة، لم تغفل بلا شك حضور المرأة في المشاركة والنقاش، وكذلك ظهورها في أوراق الخطط المستهدفة للقطاعات كافة.