طرحت نتائج الدورة الثانية لانتخابات المناطق في فرنسا معادلات صعبة الحل على المجوعات الثلاث التي تنافست على أصوات الناخبين الـ44 مليونا الذين توجهت منهم نسبة عالية إلى صناديق الاقتراع أول من أمس، لتعدل بذلك من منحى نتائج الدورة الأولى.
انطلقت تحركات سياسية واسعة في فرنسا، حيث يتحتم على اليسار الحاكم واليمين المعارض مراجعة حساباتهما بعد الانتخابات المناطقية التي حقق فيها اليمين المتطرف نسب تأييد غير مسبوقة رغم عدم فوزه بها.
وباتت المعركة مفتوحة لدى حزب الجمهوريين اليميني بزعامة نيكولا ساركوزي مع الإعلان عن فريق جديد يستبعد خاصة المسؤولة الثانية في الحزب ناتالي كوسيوسكو موريزيه التي تنتقد صراحة رئيس الجمهورية السابق (2007 - 2012).
والتحدي الأول والأكبر يواجهه حزب الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان، الذي لم يستطع الفوز بأية منطقة من أصل المناطق الـ13، رغم أنه احتل المرتبة الأولى في ست منها في الدورة الأولى مع نسب جاورت في اثنتين منها على الأقل الـ45 في المائة.
وقالت لوبان: «لا شيء يمكن أن يوقفنا» منددة بـ«الانحرافات والمخاطر المتأتية من نظام يحتضر» وذلك بعد الهزيمة التي شكلت صفعة لها في الشمال أمام خصم من اليمين مدعوم من اليسار.
فاليمين المتطرف حسّن من عدد أصواته، إذ حصد في الدورة الثانية 6.8 مليون صوتا، وهو رقم لم يبلغه أبدًا طيلة تاريخه بما في ذلك عندما ترشحت ابنة جان ماري لوبان إلى الانتخابات الرئاسية في عام 2012. رغم أن الجبهة الوطنية اجتذبت 800 ألف صوت إضافي في الدورة الثانية، فقد تراجع موقعها من المرتبة الأولى (28 في المائة من الأصوات) إلى المرتبة الثالثة.
وذلك أن اليمين وحلفاءه من الوسط، ويمين الوسط عادا ليشكلا الكتلة السياسية الأكبر مع نسبة من الأصوات بلغت 40.67 في المائة.
لكن هذه الأصوات ليست كلها أصوات اليمين بل تضم كل الأصوات اليسارية التي انضمت على لائحتيها في منطقة الشمال ومنطقة الشاطئ اللازوردي، حيث طلب الحزب الاشتراكي سحب لوائح اليسار لقطع الطريق على اليمين المتطرف. وحل اليسار الذي حصل على 31.24 في المائة من الأصوات في المرتبة الثانية.
ويصاغ السؤال المزدوج المطروح على استراتيجيي الجبهة الوطنية كالتالي: «ما الخطة التي يتعين على الجبهة الوطنية تطبيقها لكي لا تتكرر بمناسبة الاستحقاقات القادمة (الرئاسية والتشريعية) ربيع العام 2017 الانتكاسة التي أصابتها أول من أمس؟».
يرى الخبراء الانتخابيون والسياسيون أن مشكلة الجبهة الوطنية تكمن في الدورة الثانية من الانتخابات التي تجرى كلها في فرنسا على مرحلتين. والسبب مزدوج، فمن جهة لا يبدو الفرنسيون مستعدين اليوم لتقبل وصول اليمين المتطرف إلى السلطة مع برنامج قد تكون انعكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية سيئة فضلا عن انهيار صورة فرنسا في الخارج.
وبهذا المعنى يكون الانتخاب للجبهة الوطنية في الدورة الأولى بمثابة اقتراع احتجاجي أو للتعبير عن الاستياء من السلطات القائمة.
ومن جهة أخرى، لا يبدو أن الجبهة الوطنية تمتلك خزانا كافيا من الأصوات يمكنها من الفوز في مبارزة انتخابية ثنائية. وترجمة هذا الواقع فيما خص الانتخابات الرئاسية هي أن مارين لوبان يمكن أن تتأهل للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية لكنها لن تستطيع، بأي حال، أن تفوز برئاسة الجمهورية، إذا بقي الرأي العام الفرنسي ومزاج الناخبين على حاله. وهذا ما خبره والدها في عام 2002. أما هي فقد فشلت في عام 2012 في التأهل للمرحلة الثانية. لكن استطلاعات الرأي ترجح اليوم إمكانية تخطيها للحاجز الأول ووصولها إلى الدورة الثانية.
إذا صحت هذه المقاربة، يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها أن مرشح اليمين أو اليسار الذي سيتأهل للمرحلة الثانية سيكون هو رئيس الجمهورية الفرنسية المقبل. لذا، فإن المعركة حامية للغاية داخل صفوف حزب الجمهوريين وتحديدا بين الخط الذي يمثله الرئيس ساركوزي والداعي إلى الاستدارة يمينا من أجل منع ناخبي اليمين المعتدل من الالتحاق باليمين المتطرف واجتذاب ما يمكن اجتذابه ممن التحقوا بمارين لوبان.
ومنطق ساركوزي أن المجتمع الفرنسي يستدير يمينا بسبب تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وإخفاقات اليسار الحاكم والرئيس فرنسوا هولاند تحديدا.
لكن النتائج التي حصل عليها حزب «الجمهوريون» مع حلفائه (الفوز بسبع مقاطعات قارية) تبدو متراجعة عما كان يأمله من وضع اليد على غالبية المناطق الـ13، خصوصا أن لوائحه فازت في ثلاث منها بفضل أصوات اليسار المنسحب.
لكن ساركوزي الذي دعا أمس إلى اجتماع للمكتب السياسي يشدد على «انتصارات» حزبه وخصوصا فوزه بمنطقة إيل دو فرانمس التي تشمل العاصمة، وبأكبر منطقتين من حيث عدد السكان، وهما منطقة رون آلب التي تضم مدينة ليون (ثاني المدن الفرنسية) ومنطقة الشمال وهي عرين تقليدي لليسار لكونها منطقة عمالية.
في مواجهة ساركوزي، يقف رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق آلان جوبيه (ومعه الليبراليون ومناصرو الوسط ويمين الوسط)، الذي لديه مقاربة مختلفة.
وحجة جوبيه أنه ليس من المفيد «الركض» وراء الجبهة الوطنية وطروحاتها العنصرية. والدليل على ذلك أن حزب ساركوزي وحلفاءه لم يحصلوا في الدورة الأولى (أي من غير أصوات اليسار التي انصبت عليه في الدورة الثانية) إلا على 27.33 في المائة من الأصوات بحيث جاء بعد الجبهة الوطنية.
وما يهم ساركوزي تحديدا هو أن يكون حزبه في وضع يؤهله للعبور للدورة الرئاسية الثانية ربيع عام 2017 خصوصًا أن «انتصاراته»، أول من أمس (سبعة مناطق من أصل 13 منطقة)، لا تعني بالضرورة نجاحا للخط السياسي الذي فرضه على الحزب ولوائحه. وبالتالي لو حذفنا المناطق الثلاث التي قبض عليها الحزب بفضل أصوات اليسار لكان حل في المرتبة الثالثة بدل المرتبة الأولى التي وصل إليها حاليا من حيث عدد المناطق وعدد الناخبين، والأثبت أن المنافسة للفوز بالترشح للانتخابات الرئاسية ستوضع منذ الآن على نار حامية.
وأعرب ساركوزي أن «الظهور القوي للجبهة الوطنية في الانتخابات الأخيرة يجب أن يكون إنذارا لكل السياسيين المعتدلين في فرنسا»، مشيرًا إلى «أن التصويت التكتيكي لصالح مرشحينا ينبغي ألا ينسينا التحذير الذي مثله الدور الأول لكل السياسيين».
وفي هذا السياق، بدأ جوبيه ورئيس الوزراء الأسبق فرنسوا فيون بإسماع نغمات مختلفة عما يصدر عن ساركوزي، ومن الناحية المبدئية، كان من المقرر أن يفتح التنافس الداخلي في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. لكن يبدو أن الوضع سيتغير ما سيفتح الباب على نزاعات داخلية حامية.
يبقى وضع الرئيس فرنسوا هولاند الذي اختفى تماما عن ساحة الانتخابات ولم يصدر عنه أو عن المقربين منه علنا أي تصريح تاركًا إدارة المعركة لأمين عام الحزب الاشتراكي ولرئيس الحكومة مانويل فالس مع مواكبة النتائج عن قرب لرسم استراتيجيات المستقبل.
ويرى المراقبون أن مصلحة هولاند تكمن في أن يبقى بعيدا عنها في الوقت الحاضر وأن يبقى متجلببًا بثياب الرئيس الذي يهتم بمشكلات العالم (البيئة والمناخ والمؤتمر الدولي الناجح الذي استضافته فرنسا) وبرداء الرئيس الساهر على أمن وراحة مواطنيه وببزة القائد العسكري الذي يحارب تنظيم داعش والإرهابيين في الداخل والخارج.
وهذه الوضعية أتاحت له أن ترتفع شعبيته في الأسبوعين الأخيرين بأكثر من عشرين نقطة، وهو ما لم يعرفه منذ ثلاث سنوات ونصف.
لكن مشكلته ليست المنافسة التي يواجهها من داخل الحزب الاشتراكي (كما حال ساركوزي مع حزبه) بل في السياسات التي سار عليها منذ وصوله إلى السلطة في مايو (أيار) 2012، واستمرار البطالة على معدلات مرتفعة للغاية وغياب النمو الاقتصادي وتفاقم المشكلات الاجتماعية والمالية وارتفاع الضرائب.
وهذه المسائل هي التي تقرر وجهة الناخب وليس سياسة بلاده الخارجية.
ورغم أن هولاند ومعه اليسار نجحا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث احتفظ الاشتراكيون بخمس مناطق، (يذكر أنه كان يسيطر سابقا على كل المناطق باستثناء الألزاس)، فإن خوف الاشتراكيين الأكبر أن تعود شعبية هولاند إلى التدهور وأن يخفق كما أخفق رئيس الحكومة الاشتراكي في عام 2002 في التأهل للمرحلة الثانية. وسبق لهولاند أن أعلن أنه لن يترشح لولاية ثانية إلا إذا نجح في كسر شوكة البطالة وهو أمر مرتبط بعودة النمو وتسريع الدورة الاقتصادية.
بينت الانتخابات أن أنصار اليسار ابتعدوا عنه بسبب سياسات الحكومة اليمينية. والحال، أن الحكومة الحالية برئاسة مانويل فالس لا تبدو مستعدة لتغيير منهاجها، الأمر الذي طلبه أمين عام الحزب الاشتراكي الذي دعا إلى اتباع سياسات تأخذ بعين الاعتبار الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع التي عادة تكون معقودة اللواء لليسار. وفي السنوات الأخيرة أخذت تهجره لتلتحق باليمين أو اليمين المتطرف، الأمر الذي يفسر خسارته لمعاقل انتخابية يسارية وتقليدية.
من بين من يدعوه لتصويب سياساته ومن يحثه على الإبقاء عليها، يتعين على هولاند أن يختار. ولكن هل ما زال أمامه الوقت الكافي ليحسم خياراته، وخصوصا لتعطي الخيارات الجديدة نتائج ملموسة؟ هذا هو التحدي المطروح على الرئيس الاشتراكي.
تحركات سياسية واسعة في فرنسا بعد هزيمة لوبان
ساركوزي يعلن عن فريق جديد.. وهولاند يختفي عن ساحة الانتخابات
تحركات سياسية واسعة في فرنسا بعد هزيمة لوبان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة