الأبنودي: أنا مدين للسادات وللإخوان المسلمين بإبداعاتي!

الشاعر المصري يدعو إلى عدم استعجال ثمار الربيع العربي

عبد الرحمن الأبنودي
عبد الرحمن الأبنودي
TT

الأبنودي: أنا مدين للسادات وللإخوان المسلمين بإبداعاتي!

عبد الرحمن الأبنودي
عبد الرحمن الأبنودي

لم تمنع سنوات عمره التي تجاوزت الـ75، الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من متابعة الأحداث على الساحة بحماس الشباب والانفعال بها إبداعا، فكانت قصيدته «الميدان» أيقونة ثورة يناير التي ألهبت حماس شباب ميدان التحرير وصارت لسان حالهم آنذاك كما كتب قصيدة «آن الأوان» بعد فض اعتصامي الإخوان المسلمين في رابعة والنهضة.
ينتمي الشاعر عبد الرحمن الأبنودي إلى جيل مبدعي الزمن الجميل وهو شاهد على عصر من الإبداع في شتى المجالات ويعد أحد رواد الكتابة بالعامية المصرية واللهجة الصعيدية. وقد غنى كلماته الكثير من مشاهير الطرب في مصر والعالم العربي منهم عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وشادية ونجاة ومحمد رشدي وعلي الحجار ومحمد الحلو ومحمد منير وأنغام، كما كتب أغنيات تترات أشهر المسلسلات والأفلام وكان أول شاعر عامية يفوز بجائزة الدولة التقديرية.
إلى جانب ذلك أثرى الأبنودي المكتبة الشعرية بالكثير من الدواوين منها «الزحمة» و«جوابات حراجى القط» و «وجوه على الشط» و«صمت الجرس» و«بعد التحية والسلام». ورغم مرضه المزمن واضطراره لمغادرة القاهرة إلى الإسماعيلية لأسباب صحية فإن معينه الإبداعي لم ينضب ولا يزال الخال كما يناديه المصريون ممسكا قلمه وورقته متحديا الزمن الصعب.
هنا حوار معه حول رؤيته للمشهد المصري والعربي، وموقع المثقفين فيه، وخصوصا الشعراء، والدور الذين يمكن أن يلعبوه في التأثير على الأحداث الحالية:
* بداية ما تعليقك على المشهد الحالي في مصر؟
- المشهد واسع جدا ويصعب وصفه كله. ولا شك أن الوضع الحالي في مصر حاليا ومنذ فترة طويلة وضع شديد الصعوبة وبالغ التعقيد لأننا قمنا بثورتين ليس لهما قيادة واضحة أو حزب جماهيري محدد المعالم بحيث يرث قيادة الأمة مباشرة فلجأنا للاستدانة! وفيها نخضع لشروط الدائن وهكذا دخلنا تجربة الإخوان المسلمين لا أعادها الله وفشلوا فشلا ذريعا في قيادتنا بعد أن اعتقدوا أنها فرصتهم التاريخية للاستيلاء على مصر ووضعها في جيوبهم ونفي كل القوى السياسية وحتى الجماهير التي ليست من فصيلهم إلى خارج دائرة الرحمة! وهكذا في لحظة عبقرية للشعب المصري كعادته استطاع أن يقوم بالثورة الثانية في 30 يونيو بفضل المغامرة الوطنية للفريق عبد الفتاح السيسي ووقوف الجيش كمصد أساسي لذلك النهر الأسود الذي كان يتهدد مصر بالرجوع إلى الخلف آلاف السنين، فوضع قدره على كفه واستجاب للإحساس الوطني العميق الذي دفع الشعب المصري كي يخرج للشارع احتجاجا على حكم «الإخوان» فتنفست الجماهير الصعداء وأحست أن «ثمة مخلصا» يخلصهم من هذا الحكم وكان هذا من رحمة الله.
* بحكم معاصرتك للفترة الناصرية بحلوها ومرها، هل تعتقد أن مصر بحاجة إلى ناصر جديد كما ينادي البعض أم إلى قائد من طراز مختلف؟ وما رأيك فيمن يشبهون السيسي بعبد الناصر؟
- أظن أن هذه الأحلام الوردية التي تدور حول عبد الناصر والسيسي والتشابهات المختلقة هي نتيجة الإحساس بقسوة الفترة التي نعيشها وقسوة الخروج منها. فالسيسي أنقذ الشعب من الدخول في حرب أهلية كانت على الأبواب وغامر بذلك مغامرة تتشابه مع مغامرة الضباط الأحرار في ثورة 1952 ولأنه بهذا الموقف أحس الشعب أنه من ضحى لأجله بحياته فظهرت من جديد صورة عبد الناصر ولكنها صورة حلم وليس عبد الناصر الحقيقي. لأن الفترة الحالية ليست هي فترة الخمسينات من القرن الماضي ولأن السيسي ليس عبد الناصر. ولكن منذ فترة ناصر لم نجد حاكما يتعاطف بهذا القدر مع جماهير الشعب المصري. ومن هنا جاءت فكرة انبعاث عبد الناصر مرة أخرى ولكنه يصلح قضية للشعر، ولكن لا تصلح أن يتفاعل معها الواقع بصورة عقلية.
* هل معنى ذلك أنك تؤيد ترشيح السيسي لرئاسة مصر؟
- على الرغم من أن حمدين صباحي صديقي جدا وانتخبته في المرة الماضية لكن مصر الآن في الحقيقة في حاجة لمن يلم شتاتها بقوة. وإذا كنت أصلح أنا الآن لإدارة مصر يكون حمدين صباحي صالحا لنفس الشيء فأنا وحمدين لدينا من القدرة والخبرة ما يجعلنا نفشل بعظمة فنحن لسنا أقوى من الببلاوي ومن سبقه وكل الذين فشلوا في إدارة مصر بعد الثورة.
* لكن في المقابل هناك من يهتف بسقوط حكم العسكر؟
- أعرف ذلك وكنت في قصائدي قد نددت كثيرا بحكم العسكر أيام المجلس العسكري برئاسة طنطاوي وعنان والذين سلموا من خلاله رقبة مصر للإخوان المسلمين ولكن تلك كانت فترة والآن نحن في فترة أخرى وهؤلاء كان بشرا والسيسي شيء آخر.
* فى خضم هذه الأحداث الساخنة هل تشعر أنك ظلمت ولم تلق التكريم اللائق بتاريخك الطويل؟
- أولا دعك من الحكومات، أظن أن الشعب المصري لم يحتف ولم يحب ولم يمنح عاطفته وثقته لشاعر مصري في حياته كما يفعل معي الآن من الحفاة العراة وأهل الجلاليب الفقراء وحتى قمة المثقفين وقد حصلت على جائزة الدولة التقديرية بمصر كأول شاعر يكتب باللهجة العامية وحصلت على جائزة النيل التي هي أعلى الجوائز الأدبية في مصر على الإطلاق، كما حصلت على وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى من تونس. وعلاقتي بالعرب والجمهور العربي واسعة فماذا أريد أفضل من ذلك! أن أنتظر من الحكومات أن تمنحني نيشانا أو نوطا أو شريطا أخضر في طرفه قطعة حديد أو نحاس أو حتى ذهب فهذه مسألة لا أفكر فيها، وأنا سعيد بما وصلت إليه من علاقة طيبة بالشعب المصري والأمة العربية، ودفاعي عن كل قضاياها وقد دفعت في سبيل ذلك ثمنا غاليا من السجن والمطاردة وغيره من المتاعب التي جنيتها بسبب مواقفي.
* لكن ألا ترى أن هناك تناقضا في مواقفك بين قبولك الجوائز في عهد مبارك ثم ثورتك ضده؟
- بالفعل حصلت على تلك الجوائز الكبرى في زمن حسني مبارك وسارت بعض التقولات لكني قلت وقتها أن الحاكم لا يعطي ولكن الذي يعطي الجائزة هم مثقفو ومفكرو مصر وأنا مدين لهم بالفضل.
* ما تقييمك لدور المثقف المصري والعربي بشكل عام فيما يدور من أحداث على الساحة؟
- يكفي موقف المثقفين وموقفهم ضد الإخوان المسلمين فكانت أول مرة يخرجون فيها من قوقعتهم وابتعادهم عن قضايا الشارع فالمثقف يتحرك على ورق وحجم الأمية لدينا كبير ثم وجدناه ينزل لأول مرة إلى معركة الشارع ليصبح جزءا أساسيا منها. وربما معركة المثقفين المصريين حول وزير الثقافة الإخواني الذي حاول الإخوان أن يأتوا به كانت معركة رائعة وشريفة ولا شك أنها غيرت في مسلكهم وأفكارهم كثيرا. وحركة تمرد التي أعتبرها الأم الشرعية لثورة 30 يونيو قام بها شباب مثقف نجح في كسر العازل بينهم وبين الشارع المصري واستطاعوا أن يدفعوا بالجماهير البسيطة والفقيرة جدا إلى التوقيع على استمارات تمرد ضد وجود الإخوان المسلمين.
* فى رأيك هل عبر مبدعو الربيع العربي عن ثوراتهم كما عبرتم أنتم عن الثورة الناصرية والحلم القومي آنذاك؟
- التحام قيادة ثورة يوليو 1952 بالشارع والجماهير وارتباطها بالمثقفين والمفكرين ودخولها في الصراع مع الاستعمار مباشرة وتحقيق الإجراءات التي أدت إلى تحسين أوضاع الفقراء ذات البعد الاجتماعي والرغبة في القتال والمشاركة في المعارك ضد الاستعمار والصهيونية فجر طاقات إبداعية غير محدودة ولا تحصى. أما الآن فنحن نعيش حيرات وننتقل من حيرة إلى حيرة أخرى منذ ثورة 25 يناير ونحن نرى الاتهامات والشبهات التي أحاطت برموز من شباب 25 يناير بما يعني أننا نعيش الآن فترة مختلفة ومضطربة جدا. لكني لا أخفي عليك أن تجربة ميدان التحرير في 25 يناير جاءت لنا بفنون مختلفة وبشعراء شباب يختلف شعرهم عن أشعارنا فيها نبض الميدان وحركة الزحام وحرارة الهتاف إلى جانب الفرق الغنائية التي انتشرت في كل مكان والتي أنضجتها تجربة ميدان التحرير ويجب ألا نتعجل. وقد انتعشت الرواية أيضا وهذا شيء غريب وغير مألوف إذ إن الرواية تحتاج إلى وقت وإلى انفصال عن العالم ولم يكن أحد يستطيع في مصر أن ينفصل عما يدور من حوله ومع ذلك ازدهرت الرواية! أما عن الشعر فأحمد الله أنني والكثير من زملائي الشعراء لم نقصر وإنما اجتاحتنا الثورة كما اجتاحت كل إنسان في مصر.
* أيهما أكثر تأثيرا في إبداعك فترات الهدوء التي تتيح لك التأمل أم الأحداث الساخنة التي تلهب المشاعر؟
- فترات الركود والهدوء لا تستفزني وإنما حرارة الأحداث هي التي تلهب مشاعري، ففي خضم أحداث عام مضى كتبت ونشرت مربعاتي الشعرية في جريدة «التحرير» القاهرية يوميا وأنا مدين للإخوان المسلمين كما كنت مدينا لأنور السادات بأنهم وراء فيض إبداعاتي حيث إنني في فترة حسني مبارك كنت كالبركة الراكدة لأنها كانت دهنية وراكدة فلم تستثر فينا حرارة الصراع الذي يولد الشعر. وأعتقد أنه في الفترة من 25 يناير وحتى الآن قدمت الكثير من الأعمال. أنت تذكرين قصيدة «الميدان» وهي أول قصيدة قيلت قبل عزل المعزول وصارت أيقونة ميدان التحرير وأعطت الكثير من الثقة والأمان للشباب وتابعتها بقصائد حديثة وحتى الآن لا أكف.
* هل للزمن أثر على تناقص فيض الإبداع؟ ومتى ينضب معين الشاعر؟
- أظن أنه ليس للسن ولا لتقدم العمر صلة بالإبداع وأذكر أن نجيب محفوظ حبيبنا وصديقنا وعمنا الكبير ظل يكتب وحتى في فترة احتضاره الطويل كان يكتب أحلام فترة النقاهة. سأظل أكتب طالما أني مرتبط بهذا الوطن وحياة الناس. المبدع بشكل عام لا يعيش لنفسه فقط، وهو يستطيع أن يتجاهل المرض ويجعل من الظروف الخاصة فرصة للتعبير عن الوطن، ونحن نذكر الشاعر محمود درويش وما كان يعانيه قلبه ومع ذلك ظل يكتب حتى آخر لحظة في عمره. فالشعر الصادق لا صلة له بشاعره وإنما يخرج لوجه الله والأمة والوطن.
* ما جديدك بعد تجربة المربعات الشعرية؟
- حاليا أكتب مجموعة رباعيات شعرية جديدة لمسلسل «دهشة» للمخرج شادي الفخراني، بطولة يحيى الفخراني، يؤديها كورال جماعي في المسلسل على ألحان الموسيقار عمر خيرت.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!