إدوار الخراط.. العين الحكاءة

مهد الطريق للكتابة المغايرة واحتفى برموزها في فضاء الإبداع

إدوار الخراط
إدوار الخراط
TT

إدوار الخراط.. العين الحكاءة

إدوار الخراط
إدوار الخراط

نحو تسعين عاما من محبة الكتابة والحياة حملها إدوار الخراط على كاهله، رحل عن عالمنا في مستهل هذا الشهر، نافضا عباءة الشيخوخة وما يكمن تحت ظلالها من دفء فاتر لا يحرض العقل على معاودة الخيال والتفكير، أو يمنح الروح فرصة أخيرة للنظر في سقف الوجود، ولو على سبيل التحية والشكر ووداع من تحب.
قبل بضع سنوات زرته أنا وصديق مقرّب منه، كان الصمت يقبع في ملامح وجهه المتغضن، والكلام يغيب ويتعثر كأنه حجر ألقي من جبل شاهق. لم أندهش وهو يخلط بين اسمي واسم صاحبي، بل أحيانا كان يخاطبني أنا وصديقي باسم صديق آخر. أشفقت على صاحب رواية «الزمن الآخر» وهو يلملم بصعوبة شروده الذهني، ويتلمس من غبار الذكرى مشهد حياة، كم كانت مفتوحة أمامه، رغم ما اعتراها من مصاعب وعثرات، كان أقساها تجربة اعتقاله ثلاث مرات في مطلع شبابه بسبب نضاله السياسي الثوري.
حين غادرناه أوصتنا زوجته بأن تكون زيارتنا له في فترة الصباح، حيث يكون ذهنه حاضرا بشكل أصفى. لكن المشهد ظل يحاصرني بمسحة حارقة من المرارة والأسى، حتى أنني لم أستطع أن أكرر زيارته مرة أخرى، مكتفيا بالاطمئنان عليه عن طريق الأصدقاء.
أسئلة كثيرة دارت في نفسي حول الزمن والموت والكتابة، ورغم أن إيقاعها قديم، فإنها قفزت فجأة كمساحة صماء في لوحة مكتظة بالألوان والخطوط والدوائر، مساحة يختلط فيها الوضوح والغموض، الأبيض والأسود، الحضور والغياب.. هل فشلنا في إدراك المعنى الأبعد، الخفي المرمي وراء الأشياء وفي تجاويفها وشقوقها، في كتابات إدوار الخراط، وارتحنا لتفسيرات وتأويلات ارتجالية أولية، عن الهم الاجتماعي والصراع السياسي ومدى واقعيته وطزاجته في هذه الكتابات، باتساعها وتنوعها وغناها، وشططها وتمردها على كل ما هو جاهز ومصنف مسبقا، كيف لم ندرك خطى الزمن ومعاوله الخفية في رمزية «حيطان عالية»، المجموعة القصصية الأولى للخراط والتي وضعت أقدامه بقوة في طريق الكتابة المغايرة، منذ صدور طبعتها الأولى في عام 1959.. أليس هذا المشهد برمته الذي عشته معه أنا وصديقي، هو امتداد طبيعي لتلك الحيطان، أليس هو التنين، هذا الحيوان الخرافي الذي طارد حلم «رامة» وحبيبها «ميخائيل» بطل الخراط الأثير في روايته الشهيرة «رامة والتنين» وغيرها؟.. نحن لا نلتمس من الزمن شيئا خارجا عن طبيعتنا، كل ما نرجوه حين نعايشه أن يحتوينا بحب، أن تكون لنا بقعة من الضوء، لا لنهزم بها العتمة فحسب، وإنما لنؤكد أن لدينا ما يخصنا، ما يدل علينا، برضا وطمأنينة.
أدرك الخراط مبكرا هذا الحراك الخفي للزمن، الكامن في الطبيعة والبشر والعناصر والأشياء، فتعاطى الكتابة وكأنها سباق مع الموت، وهو ما يعني ضمنيا سباقا مع الزمن نفسه، كما تعامل من هذا المنظور مع الأسطورة، بكل روافدها وعناصرها الفرعونية واليونانية والقبطية والإسلامية وغيرها، حتى تحولت هذه العناصر الأسطورية في أعماله إلى مقوم فني له جاذبيته الخاصة، وطاقة حافزة على توسيع وتنويع مسارب السرد والحكي، فالأسطورة ليست مجرد شيء خارق للعادة والمألوف، وإنما هي ما فوق الزمن والموت معا، بل تكاد تشكل زمن الكتابة نفسه.
هذا الولع بالأسطورة والرغبة الدائمة في مزجها بما هو واقعي وحسي وشعري، وهذا الإدراك المستبصر لإشكالية الزمن وتقاطعاته الحادة المفاجئة، حفز الخراط على أن يكون بمثابة حفّار للغة، يعرف كيف ينوع اشتقاقاتها وضرباتها ووخزاتها في النص، منقبا في هوامشها ومتونها وطبقاتها، وألسنتها الشفهية والفصحى، لتصبح لصيقة بالجسد والروح، تفيض عن ما يفوران به من ظواهر وانفعالات ومشاعر وعواطف شتى، على مستويي الداخل والخارج معا.
وسّع هذا الحفر في اللغة من فضاء الخراط الروائي والقصصي، وجعله صاحب عين حكاءة، ذات قدرة مبهرة على التأمل والوصف والنفاذ فيما وراء الأشياء والوقائع، فالوصف الباذخ الشيق في أعماله، لا يقوم فقط بدور وسيط لتوثيق عناصر ومفردات الحياة وتحويلها إلى مقوِّم سردي، وإنما هو شكل من أشكال اللعب مع الزمن والتاريخ، فأنت تستطيع في كثير من هذه الأعمال، ومنها (ترابها زعفران - رامة والتنين - يقين العطش - السكة الحديد) أن تشم بروح الحاضر رائحة الماضي في أنماط كثيرة من وصفة لمحتويات المكان وعناصر البيئة وما تنطوي عليه من أعراف وعادات وطقوس اجتماعية ودينية، تومض وتفوح في النص، مكتسبة من خلاله حيوات جديدة.
لا يأتي هذا الحفر من فراغ، وإنما يرفده تراكم خبرة عميقة، وتقلبات في مشوار الحياة، ومعرفة حية بالأماكن، فقد عاش الخراط في 4 أماكن ذات طبيعة خاصة، حيث ولد بالإسكندرية لأب من مدينة أخميم بمحافظة سوهاج في جنوب مصر، وأم من محافظة البحيرة، غرب الدلتا، وعاش ومات في مدينة القاهرة، وسافر كثيرا وتجول في معظم مدن العالم، لكن تظل الأماكن الأربعة التي شكلت قوسي الميلاد والموت، محطات أساسية، تنقلت بينها أعماله في رحلة خصبة ومتجددة تناوب فيها الحلم والذاكرة الأدوار المركزية والهامشية، في البحث عن اللغة والمعنى والقيمة لعلاقات إنسانية خلاقة، بعيدا عن العطب والترهل، ومجانية الشائع والتكرار، كما انطبعت مناخات هذه المدن على ملامح شخوصه وصراعاتهم مع أنفسهم والحياة والوجود.
فمثلما التصقت اللغة بطوايا الروح والجسد في أعمال الخراط الروائية والقصصية، التصقت أيضا بالمكان، فلم يكن مجرد خلفية تزينية، أو خشبة مسرح يؤدي عليها الأبطال أدوارهم ويتبارون في مهارات التقمص من تحت القناع، لقد أصبح المكان بطلا، وصانع بطولة في الوقت نفسه، إنه جغرافيا ممزوجة بدم ولحم وطينة الشخوص، تحكمها دائما علاقة تأثير وتأثر حية، لها امتدادها الخصب في المكان والزمان.
وهكذا، يتراءى المكان دائما كمخزن للطفولة واللغة والحلم والتاريخ، وهو ما يوضحه الخراط بإيجاز مشع، في معرض حديثة عن الإسكندرية أيقونته المقدسة في روايته «إسكندريتي»، ناحتا لها مصطلحا جديدا على غرار الفن التشكيلي سماه «كولاج روائي» يقول الخراط: «لعلني لا أعرف كاتبا آخر في العربية تولّه بعشق هذا الموقع.. الحلم.. الواقع كما فعلت، ومهما كان من حفاوة كاتب مثل نجيب محفوظ بأزقة وحواري الجمالية، أو كاتب مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وغيره من كتاب الريف، بقراهم، فقد كانت المدينة الأرض عندهم في نهاية الأمر، ديكورا خلفيا، أو في أحسن الأحوال موضوعا أو ساحة للفعل الروائي».
امتلك الخراط منظورا فلسفيا شكل حجر الأساس في رؤيته للعالم، وتبلورت من خلاله رؤيته لواقعة المصري بكل تقاطعاته وأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية، وهو أن الحياة ثباتها يكمن في قدرتها على التغير، في لم شتات الضعف والقوة معا، ليس بدافع الهيمنة، وإنما بدافع الرغبة في التطلع إلى الأفضل، فالأشياء ليست مخلدة، وإنما تزول ليبقى الأثر شاهدا عليها.. لعل هذا ما عبر عنه في روايته «يقين العطش» حيث يستهلها بهذه الكلمات: «كان حسه بالفقدان الذي لا يعوض عميقا، قال: الحياة ذهبت، عادت إليه فجأة رائحة الفولكس القديمة، من أولى سنوات السبعينات، رائحة فيها آثار من اللبن الطازج، والبنزين، وعطر لافام الذي يعرفه من (رامة) رائحة الخصوبة، رائحة لن تعود أبدا».
كتابات الخراط تشبهه بروحها المصرية القبطية العربية، وتشبهنا بفضاء حكاياتها المنسوجة من سقف أحلامنا وكوابيسنا، ورغبتنا في أوطان عادلة وحرة، كما أنها تحرضنا على أن نكون نحن كما نحب ونشتهي، لا كما يريد لنا الآخرون. إنها كتابات تنفر من الثنائيات المغلقة والنمطية، تبحث عن حلول بديلة لها في فضاء السرد، وفي ظل حراك دائم التغير بين حريتين تتصارعان من أجل حرية واحدة، هي حرية الحب، الجسد، الروح، العقل الوطن، الفن.. حرية يتنفس فيها النص هواءه وغباره بمحبة خالصة، حيث تذوب كل الفواصل والعقد السميكة للزمن في العناصر والأشياء، في الكتابة وشطحات الرؤى والفكر والخيال.
هذا الهم لم ينفصل عن كتابات الخراط النقدية المتنوعة ما بين الفن التشكيلي والرواية والقصة القصيرة والترجمة والسينما والمسرح، والتي دشن من خلالها أهم مصطلحات الحداثة الأدبية والحساسية الجديدة، وهو مصطلح «الكتابة عبر النوعية»، محتضنا مظاهر الكتابة الجديدة الطليعية في فضاء الإبداع، في مصر والوطن العربي.
لقد تشبث صاحب «حريق الأخيلة» بإرادة الحياة والتصق بها بحميمية، وكان في كل كتاباته عينه مفتوحة على المستقبل.. كان عقلانيا بمحبة الروح، وروحانيا بمحبة العقل، نزقا حتى النخاع في البحث عن المعرفة، عن رؤى ومفاهيم جديدة، تتحصن بها الكتابة والذات، سواء في نشدانهما للتغيير والتجديد في دفتر الحياة، أو في نشدانهما للعشق والحب في دفتر القلب.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.