نحو الحق في امتلاك إرث جيني طبيعي

تحسين النسل وحقوق الإنسان ومخاطر تغيير الطبيعة البشرية

نحو الحق في امتلاك إرث جيني طبيعي
TT

نحو الحق في امتلاك إرث جيني طبيعي

نحو الحق في امتلاك إرث جيني طبيعي

سؤال «أين مفتاح الحياة؟» قديم للغاية. لكن الجواب عنه لم يأخذ طريقه نحو العلمية، إلا مع الراهب النمساوي المغمور، غريغور جوهان مندل، في أواسط القرن التاسع عشر. فهو عمل لمدة عشر سنوات على تتبع نقل الصفات الوراثية عند نبتات البازلاء بعد تهجينها. وقد توصل إلى نتائج مذهلة، جعلت البشرية تستوعب فكرة أن هناك سمات وراثية سائدة وأخرى متنحية، لا تظهر إلا عند الأجيال اللاحقة. وبهذا يكون مندل قد استحق عن جدارة لقب أبي علم الوراثة.
لكن البحث في الأمر سيستمر بطريقة متسارعة، ليكتشف، في النهاية، أن الخلية تتوفر داخل نواتها على ما يسمى بالحمض النووي. وهو عبارة عن كروموسومات، كخيوط هائلة الطول، شبيهة بالفتيل أو «السباغيتي» الذي يحتوي على شفرة الحياة. إذ إن كمية المعلومات في مجموعة كروموسوم واحدة، هي نحو 6 مليارات وحدة من الشيفرة الوراثية.
إلا أن الطفرة الكبرى في تاريخ الوراثة، كانت سنة 1953، حين نشر كل من جيمس واطسن، وكان عمره 25 سنة فقط، وهو متخصص في علم الوراثة، وفرنسيس كريك، المتخصص في الفيزياء، عملهما الحاسم في مجلة «Nature». وهو عبارة عن صياغة لنموذج الحمض النووي، الذي ما هو إلا شريط لولبي كدرجات السلم، مكون من قواعد كيميائية يرمز لها (A - T - G - C). هذه القواعد تترابط فيما بينها وفق تنظيمات محددة. لقد كان واطسن وكريك دخيلين على حقل الكيمياء الحيوية، ورغم ذلك، يعد اكتشافهما هاما بقدر اكتشاف مندل نفسه. وهذا ما جعلهما يستحقان جائزة نوبل في الطب والفيسيولوجيا سنة 1962.
إن اكتشاف بنية الحمض النووي، أو ما يسمى اختصارا «DNA»، أدخل البشرية في قفزة هائلة في مجال علوم الحياة، بشكل فاق كل التوقعات. لكن بقدر ما خلق هذا نوعا من الإعجاب والانبهار، بقدر ما أثار الخوف والتوجس. فالاجتهادات في ميادين الوراثة والإنجاب والإنعاش، وزرع الأعضاء والصناعة الدوائية، والسعي وراء إطالة أمد الحياة، والتخفيف من آلام الناس، ومعالجة الأمراض والأوبئة، كلها أمور تزيد من ثقة الناس في العلم. فهو يحقق حلما قديما كان يراود الإنسان، وهو العيش من دون معاناة، والحفاظ على الصحة، وضمان أطول مدة من الشباب، قصد الاستمتاع بالحياة بأقل الخسائر. وما حقيقة تاريخ الطب إلا بحث عن هذا المسعى. لكن هذه التغيرات الجذرية في علوم الحياة، جعلت البشرية تواجه وضعا جديدا غير معتاد. فهي تطرح إشكاليات جديدة من قبيل: حدود التجريب على الإنسان، قضية الاتجار بالأعضاء البشرية، وإيقاف آلام الشخص المقبل على الموت، أو ما يسمى الموت الرحيم، ومسألة الأرحام المستقبلة للبويضة المخصبة، وهل يجوز إجهاض الجنين المصاب بمرض وراثي؟ وهل انتقاء أجنة خالية من كل العيوب الوراثية أمر مشروع؟ وما هي مخاطر الاستنساخ على الإنسان؟ وأخيرا كيف ستؤثر هذه الثورة الجينية على منظومة حقوق الإنسان؟ وهو الموضوع الذي سنناقشه هنا، انطلاقا من قضية بعينها، هي قضية تحسين النسل التي تثير، في الآونة الأخيرة، ضجة جعلت بعض الفلاسفة يتدخلون برأيهم فيها، إلى درجة أن ألف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس كتابا سنة 2002، خصصه لمعالجة هذه القضية، وهو بعنوان: «مستقبل الطبيعة الإنسانية: هل نسير نحو نزعة ليبرالية لتحسين النسل؟»، وتجدر الإشارة إلى أن المفكر الأميركي المثير للجدل، فرانسيس فوكوياما، سيؤلف في السنة عينها، كتابا يسير في سياق الأخلاقيات البيولوجية نفسها، بعنوان «نهاية الإنسان، عواقب الثورة الجينية». ورغم اختلاف المفكرين في المنطلقات والأسلوب، فإنهما يثيران الانتباه إلى الأخطار المحتملة التي يمكن أن يجلبها التقدم العلمي الهائل في ميدان العلوم الطبية وعلوم الحياة. لأن الأمر بات هذه المرة مرتبطا بنزعة ليبرالية قد تفضي إلى تغييرات جذرية في طبيعة البشر المعروفة لدينا إلى حد الساعة. فلنقف عند جزئية واحدة من هذه الثورة الجينية، وهي تحسين النسل، ولنر بعضا من انعكاسات ذلك على حقوق الإنسان.
* تحسين النسل وحقوق الإنسان
يدخل تحسين النسل ضمن ما يسمى البيوتكنولوجيا، أو تكنولوجيا الحياة. وهي مختلف أشكال التدخل التقني في حياة الإنسان وجسده، كالتجارب عليه، وعلاجه، وترميمه، وزرع الأعضاء والأنسجة والخلايا فيه. وكذلك العمل على إبقاء الجسم على قيد الحياة بوسائل داعمة، والتعجيل بموته تخليصا له من الآلام والمعاناة. وأيضا التدخل في الأجنة، وإجراء كل أنواع عمليات الإخصاب والحمل الاصطناعي، ناهيك بإضافة أو حذف بعض المورثات، أو ما يسمى العلاج الوراثي.
إن الحديث عن تحسين النسل، أمر مرتبط بحلم قديم، بدأت ملامحه تتحقق بفضل التكنولوجية البيولوجية. وهنا نتذكر أفلاطون الذي كان يدعو إلى أن «صفوة الرجال يجب أن يتزوجوا صفوة النساء». إلا أن فكرة تجويد سلالة الجنس البشري، بدأت كفكرة، في القرن الـ19، جراء تأثير النظرية الداروينية القائلة بالاصطفاء الطبيعي. إذ نجد أن أحد أفراد عائلة تشارلز داروين المؤسسين لعلم تحسين الجنس البشري، وهو العالم الإنجليزي فرنسيس غالتون (1822-1911)، يؤمن بإمكانية الاستفادة من إنجازات وبحوث الوراثة من أجل تنقية الجنس البشري، بالطريقة نفسها التي تحسن بها أصناف النبات والحيوان، أي بالعمل على التخلص من الخصائص الوراثية غير المرغوب فيها، والاحتفاظ بالصفات الجيدة. لقد أطلق على هذا العلم الجديد اسم: Eugénisme، وهي كلمة يونانية من قسمين: Eu بمعنى الطيب والنبيل، وGènes بمعنى العرق والسلالة.
إلا أن هذا العلم سيكون في العقود الأولى من القرن العشرين، بمثابة الأرضية الآيديولوجية المغذية للنزعات العنصرية في الكثير من الدول الغربية، إلى درجة إعلان أن هناك سلالات بشرية متميزة جينيا، ومن ثم حضاريا، في مقابل سلالات منحطة، هي السبب الرئيسي في كل المشاكل البشرية وانحرافاته، إلى درجة طرح مجموعة من المقترحات السياسية والاجتماعية والطبية بهدف تحسين النسل البشري من قبيل: تعقيم المثليين، والمرضى، وأصحاب العاهات، والمعاقين ذهنا، ومنع الزواج المختلط بين الأجناس، وتقنين الهجرة وغيرها.
إلا أن مسألة تحسين النسل ستعرف، في الآونة الأخيرة، منعطفا غير مسبوق. إذ لا أحد أصبح يشك بأنه بات لدى علماء الهندسة الوراثية إمكانات هائلة لمعرفة دقائق المخزون الوراثي للإنسان. بل القدرة على التحكم فيه، وإحداث التغييرات وفق برمجة وتصميم مسبقين. ولم لا، الجرأة على قدسية الإنسان، وإحياء المشروع القديم، والمتمثل في إنتاج الإنسان الأقوى والمتفوق على حساب المنحطين والضعفاء، ما قد يعيد العنصرية إلى الواجهة من جديد. لكن الجديد الآن، هو ما يصطلح عليه بالنزعة الليبرالية في تحسين النسل. إذ لم تعد مسألة تجويد السلالات رهينة بسياسات الدول وبرامجها، كما في بداية القرن العشرين، بل هي الآن، عبارة عن خدمات ستقدمها شركات عالمية كبرى تستثمر في ميادين الطب والتكنولوجيا الحيوية، استجابة لرغبات الآباء الحرة في إنجاب أبناء من دون أعطاب وراثية، وبخصائص وسمات مقترحة من طرفهم، تضمن لهم حظوظا أوفر للنجاح في المستقبل.
تلقى هذه النزعة الليبرالية في تحسين النسل تشجيعا من طرف البعض، وذلك باسم حرية الأفراد في اختيار ما ينفع أولادهم، وأيضا باسم حرية السوق العالمي في البحوث الجينية. ولعل أهم المدافعين عن ذلك، هو الفيلسوف الألماني، بيتر سلوتراديك، في كتاب له بعنوان «قواعد لحظيرة بشرية.. نحو إنسان جديد»، يدعو فيه إلى تجاوز الأخلاقيات القديمة، والاستعداد الفكري لبزوغ نمط جديد من الإنسان. فسلوتراديك يدعو إلى ضرورة عدم الاستسلام للطبيعة البيولوجية، أو ترك الإنجاب يتم وفق الصدفة والقدر، نحو إنجاب مبرمج ومخطط له. ما جعل هابرماس يدخل في النقاش الأخلاقي حول هذا الموضوع، في كتابه المذكور سالفا، منتقدا النزعة الليبرالية في تحسين النسل وبحجة لا تنبني على الحفاظ على الكرامة، بل على ضرورة مراعاة الحالة النفسية للطفل المنجب، عن طريق الانتقاء الجيني، حيث سيدرك أنه منتج اصطناعي ومفبرك وليس خالصا للطبيعة. وهذا ما سيجعله يحس بانتهاك حريته الطبيعية. الأمر الذي دفع هابرماس إلى الدعوة، أن من الحقوق التي يجب أن تضاف إلى منظومة حقوق الإنسان هي الحق في امتلاك إرث جيني طبيعي لم يمس من قبل ولم يتعرض لأي تعديل اصطناعي.
وكخلاصة نقول إنه إذا كانت الليبرالية تنبني على أسس هي: حرية الفرد، والتساوي الطبيعي، ولا شخص تابع للآخر، فإن الدفاع عن تحسين النسل باسم الليبرالية، فيه تناقض صارخ يتمثل في التدخل في مصير الآخر، وهتك حريته الطبيعية. لهذا أصبحت تكثر الدعوات الحكيمة إلى ضرورة التفرقة بين البحوث الجينية من أجل أهداف علاجية والبحوث الجينية من أجل أغراض تتماشى والتجارة الليبرالية.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!