سلطت الهجمات الإرهابية في العاصمة الفرنسية باريس، التي نفذها متطرفون إرهابيون وهزّت فرنسا وأوروبا الأضواء خلال الأسبوع الماضي، بصورة غير مسبوقة على شخصية وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف. فقبل هذه الهجمات كان كازنوف، السياسي والبرلماني الاشتراكي الوقور، شخصية لا يتردد اسمها كثيرًا خارج فرنسا. ولكن الواضح أن الرجل بهدوئه ورصانته فرض نفسه على الأحداث. ويظهر أن الشارع الفرنسي أيضًا يبدي رضا نسبيًا لا بأس عن المقاربة المتشددة التي اتخذها الرئيس فرنسوا هولاند وحكومته التي يرأسها مانويل فالس وتضم كازنوف، بوجه الإرهابيين، بدليل ارتفاع شعبية الرئيس هولاند بنسبة طيبة خلال الساعات الـ24 الماضية.
بينما كان الفرنسيون يتثاءبون في حر شهر أغسطس (آب) على الشواطئ تحت أشعة الشمس، كان برنار كازنوف، وزير الداخلية الذي عيّن في منصبه خلال العام الماضي يعقد قرانه مجددًا مع المرأة التي طُلق منها قبل سنوات والتي هي والدة أبنائه.
بالطبع، في الأمر ما يحير لأنه ليس شائعًا بين أوساط الفرنسيين. وأول الذين دعاهم برنار كازنوف لحفل الزواج في إحدى بلديات فرنسا رئيس الجمهورية فرنسوا هولاند. هولاند الذي كان معروفا قبل وصوله إلى قصر الإليزيه بروح الدعابة، قال لمن يريد أن يسمع أنه «لن يكون الرجل التالي» الذي سيقف أمام السلطات ليعلن زواجه في إشارة خفية، على ما يبدو، لوضعه العائلي إذ إنه يساكن جولي غاييه وهي ممثلة سينما بعدما افترق عن صديقته فاليري تريرفيلر التي حلت محل والدة أولاده الأربعة سيغولين رويال، وزيرة البيئة في الحكومة الحالية.
زواج كازنوف الثاني مرّ من غير ضجيج. فالرجل يحب السرية وهو كتوم. هولاند يسميه «الصامت الأكبر» بينما زملاؤه في الحكومة يعيبون عليه أنه كـ«البئر العميقة» ويلقبه آخرون بـ«الحرباء» لأنه يعرف أن يتكيف مع المواقف الأكثر صعوبة. لكن برنار كازنوف، في حياته الخاصة، غير كازنوف النائب ثم الوزير. هوايته المفضلة أن يقلد الرئيس هولاند ورئيس الحكومة وزملاءه في الوزارة. وبعض هؤلاء يقول عنه إنه يجيد السخرية على الطريقة الإنجليزية أي السخرية من «الدرجة الثانية».. وهو يحب القطط والطبيعة ويهوى الموسيقى ويحرص على الإتقان في كل ما يقوم به.
تقول الألسنة الخبيثة إن وصول برنار كازنوف إلى وزارة الداخلية الملاصقة لقصر الإليزيه سببه الأول أن مانويل فالس، الذي سبقه في هذا المنصب، أراد مع تعيينه رئيسا للحكومة، أن يأتي بوزير لا شعبية له ولا يستطيع أن يكون منافسًا له في المستقبل. فالمنصب فيه ما يغري وشاغله يستطيع استخدامه منصة لمناصب أعلى. ولعل أفضل دليل على ذلك أن نيكولا ساركوزي، رئيس الجمهورية السابق، نجح في استثماره وحوله بوابة لدخول قصر الرئاسة. ومثله فعل فالس الذي قفز من الداخلية إلى رئاسة الحكومة. فشاغل منصب وزير الداخلية هو المسؤول الأول عن أمن الفرنسيين والسهر على راحتهم كما أنه وزير الأديان. والأهم أن كل تقارير أجهزة المخابرات على تعدد اختصاصاتها تصل إلى مكتبه صبيحة كل يوم بحيث يعد الرجل الأكثر اطلاعا في كل الجمهورية.
* البداية
كانت بدايات كازنوف في ثيابه الجديدة خجولة وضعيفة. فالرجل الذي دخل عالم السياسة من الباب الحزبي بانتمائه إلى الحزب الاشتراكي عقب حصوله على شهادة ماجستير من معهد العلوم السياسية في مدينة بوردو بجنوب غربي فرنسا. وكان يفتقر لتجربة وزارية وسياسية كافية تؤهله لأن يحتل أحد أهم المناصب الوزارية في الجمهورية الفرنسية. إذ سبق لكازنوف أن شغل منصبين وزاريين اثنين: الأول، وزيرا مفوضا للشؤون الأوروبية وهو منصب وزاري تقني يدين به إلى وزير الخارجية لوران فابيوس الذي أخذه تحت جناحيه ورعى مساره السياسي وجاء به إلى الوزارة بعد وصول هولاند إلى رئاسة الجمهورية في ربيع عام 2012. ثم من هذا المنصب نقل ليحتل منصب وزير الدولة لشؤون الخزانة بعد الفضيحة التي ارتبطت باسم الوزير السابق جيروم كاهوزاك بسبب إخفائه حسابات مصرفية كان يمتلكها في سويسرا بينما وظيفته الرسمية أن يحارب تهريب الأموال إلى الخارج وخصوصا إلى الفراديس الضريبية وعلى رأسها سويسرا.
ولد برنار كازنوف في مدينة سانليس المتوسطة الحجم، الواقعة شمال العاصمة باريس، في عائلة يسارية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. فوالده كان مسؤولا عن الحزب الاشتراكي في منطقة الواز (شمال باريس) وبرنار نفسه باشر العمل السياسي شابًا في صفوف اليسار وانضم إلى الحزب الاشتراكي بعدما أنهى دروسه. ويروي أنه «قفز» العتبة بعد استماعه لخطاب ألقاه رئيس الجمهورية الأسبق فرنسوا ميتران الذي أدخل الاشتراكيين إلى عرين السلطة بعدما كانت حكرا على اليمين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وبسبب تخصصه في الحقوق، باشر كازنوف حياته المهنية في «البنك الشعبي» مسؤولا عن الملفات القانونية، لكنه سريعًا، ومنذ بداية التسعينات، تنقل في وظائف كثيرة مستشارا هنا أو خبيرا هناك في المكاتب الوزارية. وعلى الصعيد الحزبي، كان منضويا في «تيار» لوران فابيوس الذي كان وقتها في عز شعبيته داخل الحزب الاشتراكي مما وفر له الفرصة ليتم اختياره في الانتخابات المحلية في منطقة مدينة شيربورغ بشمال غربي فرنسا. وهكذا ولج عتبة جديدة عندما أصبح في العام 1997 نائبا عنها ثم رئيسا لبلديتها، مما وفر له عرينا انتخابيا خاصا به. وبسبب «ولائه» لوزير الخارجية الحالي، صوت كازنوف في عام 2005 ضد المعاهدة الدستورية الأوروبية التي على أساسها قطع الاتحاد الأوروبي شوطا إضافيا للوصول إلى ما هو عليه اليوم. بيد أن ذلك لم يمنعه من أن يعاد انتخابه نائبا في عام 2007 وذلك بنسبة مريحة بمواجهة مرشح اليمين إذ حصل على 59 في المائة من الأصوات. وزاد على انتصاره في المعركة التشريعية انتصارا في الانتخابات البلدية إذ توّج رئيسا للمجموعة الحضرية لمنطقة شيربورغ. وخلال وجوده في البرلمان، نشط كازنوف في اللجان ومنها لجنة الشؤون الدفاعية، كما بدأ اسمه بالذيوع على المستوى الشعبي بعد ما تسلم الدفاع عن مصالح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي أصاب فنيين فرنسيين في مدينة كراتشي، وهو الهجوم الذي تتضح كامل تفاصيله. وذهب كازنوف إلى حد تأليف كتاب عن هذه القضية.
في عام 2011، حمي وطيس المعركة داخل الحزب الاشتراكي لتعيين مرشحه الذي سيواجه الرئيس المنتهية ولايته في ربيع عام 2012. وبسبب كثرة المرشحين وربما محافظة على مصالحه الخاصة، رفض كازنوف أن يؤيد مرشحا دون آخر. ولذا، فإن فرنسوا هولاند عينه أحد الناطقين باسمه خلال الحملة الانتخابية الرسمية. لكن المواطنين الفرنسيين لا يتذكرون شيئا عن هذه الفترة إذ إن كازنوف، رغم مهارته السياسية، لم ينجح في البروز فبقي سياسيا متوسط الأهمية. ولذا، بعد فوز هولاند بالرئاسة، لم يعهد له سوى «نصف» منصب وزاري «الوزير المفوض للشؤون الأوروبية» ثم انتقل بعدها إلى نصف منصب وزراي آخر، لكنه أكثر أهمية وهو الوزير المفوض لشؤون الميزانية لتفتح له الأبواب على مصراعيها مع وصول فالس إلى رئاسة الحكومة وخلو منصب وزير الداخلية الذي كان يشغله الأخير منذ العام 2012.
* «الرجل المجهول»
لم يكن أحد في فرنسا يتوقع لهذا السياسي الذي يتكلم دائما بصوت منخفض ويتقن ما يسمى في عالم الصحافة «اللغة الخشبية» أي يتحدث لكي لا يقول شيئا بلجوئه إلى الصيغ الجاهزة أن يصل إلى ما وصل إليه اليوم. ففي منتصف العام الماضي، قامت القناة التلفزيونية «كانال+» بإنتاج تحقيق عنه. وكان عنوان التحقيق «الرجل المجهول في وزارة الداخلية». لكن الأمور تغيرت والسياسي المغمور تحول الشهر الماضي إلى أحد ثلاثة يرتكن إليهم الرئيس هولاند وهم، إلى جانبه، وزير الدفاع جان إيف لودريان ووزير الخارجية لوران فابيوس.
قبل أيام قليلة، وخلال جلسة استجواب في الجمعية الوطنية، كال فالس المديح لوزير داخلتيه معلنا: «لم يكن لدي أبدا أدنى شك بقدرة كازنوف على إدارة شؤون الوزارة وبمهنيته العالية». ذلك أن كازنوف تحول بعد مقتلتي المجلة الساخرة «شارلي أيبدو» والمتجر اليهودي في شهر يناير (كانون الثاني) من العام الحالي إلى «الرجل الذي يسهر على أمن الفرنسيين» ويسعى لتوفير كل المقومات للأجهزة الأمنية لكي تقوم بواجباتها إزاء المواطنين. لكن كازنوف هو الوحيد بين كل وزراء الداخلية الذين تعاقبوا على هذا المنصب في السنوات الأربعين الأخيرة الذي يشهد عهده هجومين إرهابيين في عام واحد. وجاءت العمليات الإرهابية الأخيرة ليل 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي لتكون الأخطر والأكثر دموية في زمن السلم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كازنوف لبس مع الأيام ثياب الرجل الذي يحارب الإرهاب. يعمل بمنهجية ومهنية ويستطيع السيطرة على أعصابه في الملمات. وعندما استهدف ثلاثة إرهابيين الملعب الكبير حيث كانت تجري مباراة كرة قدم بين فريقي ألمانيا وفرنسا، بحضور هولاند، عمد هذا الأخير إلى استدعائه بعد أن أخبر بوقوع مجزرة مسرح الباتاكلان وبحصول أعمال انتحارية خارج الملعب.
كازنوف أصبح «رجل المرحلة» الذي يرسله هولاند إلى اجتماعات وزراء الداخلية الأوروبيين ليدافع بقوة عن مطالب فرنسا لجهة تشديد الرقابة على الحدود الخارجية للاتحاد والعمل على منع تهريب السلاح وإعادة الرقابة المشددة على الحدود الفرنسية الداخلية والتهديد بالمطالبة بإعادة النظر باتفاقية شينغن.
* الوزير المحبوب
لم يحمّل أحد المسؤولية في الهجمات للوزير كازنوف الذي اغتنم كل مناسبة ليطمئن الفرنسيين، وليظهر لهم أن الدولة ساهرة على راحتهم وأمنهم. وربما هذا الأمر ما يفسر أنه أصبح أحد أكثر وزراء الحكومة شعبية وهي المرتبة التي يتقاسمها مع وزير الدفاع. ففي منتصف العام الحالي، بين استطلاع للرأي أن شعبيته تتفوق على شعبيتي الرئيس هولاند ورئيس الحكومة فالس. لكن هذه الشعبية «لم تفقده رأسه» إذ إنه يعرف كيف يحفظ المقامات ويترك لمن يتقدمه في المسؤوليات الموقع الأول كفالس مثلا الذي لم يعرف بعد أن ينسى أنه كان وزيرا للداخلية.
عرف كازنوف لحظات من الخيبة خلال الأشهر الـ19 التي انقضت على وجوده في وزارة الداخلية. ولعل أكثرها مرارة هي مقتل مناضل من الخضر يدعى ريمي فريس ليلة 25/ 26 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي خلال مظاهرة احتجاجية على مشروع بناء سد سيفنس، على أحد روافد نهر التارن جنوب غربي فرنسا وذلك بقنبلة رماها أحد رجال الدرك. هذه القنبلة الهجومية قضت على ريمي فريس وهو شاب عمره 21 سنة وابن إحدى الشخصيات المحلية المعروفة بمعاركها لصالح البيئة. ومشكلة كازنوف أنه وجد نفسه بين مطرقة البيئويين والرأي العام الذي ندد بتصرف رجال الأمن وبين سندان الحاجة للوقوف إلى جانبهم باعتباره وزيرا لهم. وكانت نتيجة هذه المأساة أن الدولة أمرت بوقف أعمال السد، كما أنها أمرت بمنع استخدام هذا النوع من القنابل في تفريق المتظاهرين.
* ثلاث جبهات
هذه المأساة غابت عن أذهان الفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم ضحايا لحرب إرهابية يرفضون حتى الآن النظر إليها نظرة تحليلية للغوص على أسبابها العميقة. وفي هذه الحرب، يتمثل دور كازنوف بأن يكون «اليد الحديدية» التي تضرب بلا هوادة. ولذا، فإن الوزير ينشط على ثلاث جبهات على الأقل: الجبهة التشريعية إذ عليه أن يدافع ويبرر مشاريع القوانين المتشددة التي تقترحها الحكومة، والجبهة الميدانية المتعلقة بملاحقة الخلايا الإرهابية النائمة أو الجهاديين العائدين من ميادين القتال من وراء الحدود، وأخيرا الجبهة الأوروبية والدولية إذ دوره السعي لتشديد التعاون وتبادل المعلومات مع الأوروبيين ومع بلدان أخرى شرق أوسطية وعلى رأسها تركيا. واليوم مع التمديد لحالة الطوارئ ثلاثة أشهر إضافية، تجد الأجهزة الأمنية أنها طليقة اليدين لتقوم بما تريده من عملات دهم وتفتيش وطرد ونزع الجنسية وحل الجمعيات والمؤسسات التي ترى فيها خطرا على الأمن والسلامة العامة.
حتى الآن، نجح كازنوف في تجسيد دور «الشرطي الأول». لكنه يبقى في موقع بالغ الحساسية والخطورة خصوصا إذا تبين أن الإجراءات والتدابير الأمنية المشددة التي اتخذت لم تكن كافية لمنع وقوع أعمال إرهابية جديدة. عندها، سيتضاءل رأس المال الذي جناه كازنوف وستضيع معها الشهرة التي جناها خلال الأشهر التي قضاها في وزارة الداخلية.
8:17 دقيقة
كازنوف.. من المجهول إلى الأضواء
https://aawsat.com/home/article/505051/%D9%83%D8%A7%D8%B2%D9%86%D9%88%D9%81-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%87%D9%88%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B6%D9%88%D8%A7%D8%A1
كازنوف.. من المجهول إلى الأضواء
وزير الداخلية الفرنسي في مواجهة الإرهاب الأعمى
- باريس: ميشال أبونجم
- باريس: ميشال أبونجم
كازنوف.. من المجهول إلى الأضواء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة