«الكتابة حلم والحقيقة أيضًا.. لكن عليك أن تطارد الاثنين بعين طفل».. فطن سعيد الكفراوي إلى هذه الرؤية مبكرًا، لكنه خلال رحلته القصصية الخصبة أضاف إليها معولاً آخر وهو «الطفولة حلم».. عليك أن تجعلها ثمرة حية في فمك باعتبارك مبدعًا.
بهذه الروح المشدودة لبراح الطفولة كمخزن لا ينضب للأحلام والحقائق والأفكار، وبعد إحدى عشرة مجموعة قصصية أضافت لتاريخ القص العربي كاتبًا متميزًا في كوكبة جيل الستينات في مصر، استقبل سعيد الكفراوي طبعة فخمة، عبارة عن لوحة سردية شيقة، تضافر في تشكيلها ست مجموعات قصصية، ورؤية بصرية مشربة بطزاجة الحلم والفن، لنجله الفنان الشاب عمرو الكفراوي، أراد بها أن يرد الجميل للأب، أن يقول له: شكرًا منحتني محبة الشجرة لأرى نفسي في مرآة الجذور.
الكتاب أصدرته الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، بعنوان «زبيدة والوحش» وقام المؤلف بتوقيعه في حفل أقامته الدار، تحدث فيه الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل وحضرة كوكبة من النقاد والكتاب.
لا يتعجل الكفراوي تجسد عالمه القصصي، من عالم التخيل والذاكرة والحلم إلى عالم الورق المحدد الأطر والأطراف، فهو كعادة معظم القرويين ينمو ببطء، لذلك يصف نفسه بالناسك في محراب القصة القصيرة، لافتًا إلى أنه «عبر هذا الشكل من السرد كتبت 13 مجموعة قصصية تحمل أسئلة، ومعنى، وتنشغل بجدليات أمضيت عمري كله أبحث عنها، وبالتالي أكتبها على مهل».
تطل هذه الرؤية المشرّبة بمسحة من الزهد والنسك في قصص المجموعات الست بتنويعاتها المختلفة وانتقالاتها الفنية الجسورة، وتنعكس على عجينة القص، حيث يتلاقح الغرائبي المشدود لبراح المجهول والمكبوت، بالواقعي المؤطر بدبيب البشر وأحلامهم البسيطة في التشبث بالأمل وإرادة الحياة، وهو ما يوفر مساحة لجدلية كاشفة، يتحول فيها الواقع إلى كابوس، والعكس أيضًا، وهي جدلية متجددة، تكاد تشكل حجر الرؤية ومحور الإيقاع في فضاء النصوص.
في كل هذا، لا يكف الكفراوي عن الحفر، في دوائر الوعي واللاوعي، الإمكان واللاإمكان، بتنوعها وتجذرها الإنساني اللافت، كاشفًا في الوقت نفسه، عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين والرغبة والحب التي يتهددها الموت بأشكال عدة.
ويدين الكفراوي لعالم القرية بكل تجلياته وأزمنته في مشروعه القصصي، فهذا العالم المسكون بالخوف والقلق والفقر، وبداهة السؤال واليقين والمعرفة، يصبح مفعمًا بالطزاجة والعفوية والدهشة، وغيرها من وقائع الحياة، تمنحها القصص حيوية الحلم والشوق، في مشهدية قصصية بازخة الجمال، تبرز في أجوائها صورة القرية وطقوسها، ليس كأسطورة، بل حقيقة حية، تومض في ممارسات الأطفال وألعابهم وأغانيهم وتشوفاتهم وأحلامهم البسيطة المستحيلة، وعلاقاتهم المشتبكة بالأماكن والأسرار الصغيرة والأشياء الخاصة التي تتغير بفعل المخيلة من العادي إلى المقدس.
ثمّ ولع يصل إلى حد الافتتان، في الكثير من القصص، بزمن هارب، بمنطقة غامضة مهمشة ومسكوت عنها، في الوجدان العام، وفي الطبيعة المصرية، وهو زمن دائمًا معجون بالسحر والخرافة، مثقل بنفسه وخوفه الخاص، لا يذوب في الواقع أو يتماهى معه، بل يطارده دائمًا كحقيقة غائبة، كوجود معطل ومشوه ومنسي، تحت ركام الظلم والقمع والتخلف.
عن هذا الهم يقول الكفراوي: «أحاول في كتاباتي البحث عن نبرة تشبهني، وبقدر استطاعتي أضيق المساحة بين صوتي الكاتب والشخصية. فالقصة القصيرة، كما قال إدوارد الخراط، نبوءة نواجه من خلالها أهوال الحياة والموت. إنها فعلاً نبوءة أو حلم، حتى لو كانت مادتها الواقع الذي نحياه. لقد أثار أنطون تشيكوف انتباه العالم بقصصه عن الإنسان وأحواله، وكان مخلصًا إلى حد جعلنا لا نخجل من حياتنا أبدًا».
ولو تساءلنا: ما الذي يربط بين تشيكوف والخراط والكفراوي تحت مظلة القصة القصيرة؟ إنها الطفولة، ذلك الجسر الشفيف، الذي يعبر عليه الماضي متخفيًا في عباءة الحاضر، وكأنهما خطوتان في خطوة واحدة. وربما لذلك أيضًا يحرص الكفراوي دائمًا في قصصه على أن يكون الراوي طفلاً، أو شيخًا يستعيد زمن الطفولة.. وبحسب تعبيره، هو: أنا من الكتاب الذين إذا ضربتهم طفولتهم نشطت ذاكرتهم وأحبوا سرد الحكايات. والطفل لا يكون طفلاً لذاته. الطفولة هي ذلك الإرث الفادح من الماضي، هي ذلك العمر القادم من الفردوس. أنا مأخوذ بما مضى من أيامي. تلك الأيام التي لا تكف عن ملاحقة الذاكرة ومطاردتها.
تنعكس هذه الملاحقة على شخوص الكفراوي، فتبدو مسكونة دائمًا بشيء غامض يقبع في داخلها كالسر، تحت وطأته تندفع إلى الحياة بشبق عارم وخاطف، وبحيوية خلاقة تواجه الموت كشكل من أشكال التفتح على عالم آخر، تنفض فيه الأشياء عن كاهلها قشريتها وجوهرها الناقص.. وكما يقول الكفراوي نفسه: «هكذا تكون الخاتمة جزءًا من صيرورة لا تنتهي. إن الانسيال في التعبير عن الموت كما تعرف هو محاولة من الكاتب لتفسير معنى الحياة باعتبارها كنزًا، على الإنسان أن يعتز به، وعلينا أن نقدم مواساتنا لهذه الحياة العزيزة علينا كلما تناولنا معنى الموت فيما نكتبه من قصص».
سعيد الكفراوي.. الأحلام والذكريات في معزوفة سردية على حافة الخرافة
الجزء الأول من أعماله القصصية صدر في طبعة فاخرة بالقاهرة
سعيد الكفراوي.. الأحلام والذكريات في معزوفة سردية على حافة الخرافة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة