العراق.. انتخابات على صفيح ساخن

عنف وإرهاب ومشكلات طائفية.. اقتصاد يتداعى و{داعش} تعزف على أوتارها

العراق.. انتخابات على صفيح ساخن
TT

العراق.. انتخابات على صفيح ساخن

العراق.. انتخابات على صفيح ساخن

على الرغم من تكرار الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بل وحتى المالية فإن الطبقة السياسية العراقية الحاكمة لا تبدو في حرج مما يجري في البلاد.
لعل السبيل الأسهل للتخلص من الحرج المتزايد هو إما بالانسحاب بل والاعتزال مثلما فعل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مؤخرا تاركا كتلته البرلمانية والوزارية في أشد أوضاعها حراجة، أو تقاذف كرات الاتهام بين كبار المسؤولين في الحكومة والبرلمان. وإذا كان يحسب لزعيم تيار جماهيري ورجل دين مثل الصدر إعلانه الانسحاب على الرغم من أن أحدا لن يوجه له أي لوم في حال بقي حاضرا في المشهد السياسي لأنه ليس مسؤولا تنفيذيا في الحكومة أو تشريعيا في البرلمان فإنه من النادر أن تجد مسؤولا عراقيا نافذا أعلن مسؤوليته عما يجري أو الاستقالة بسبب فشل أو تهمة فساد.
ما يحصل هو العكس تماما. فالمسؤول عالي المستوى يتحول في نظر مريديه إلى «قائد ضرورة» - وهو اللقب الذي كان يحتكره صدام حسين لأكثر من ثلاثة عقود - حيث لا بديل له. كما أن ما يجري في البلاد من مشكلات وأزمات سببه «أجندات خارجية» تدفع أموالا وتشتري ذمما بمستوى مسؤولين كبار من أجل أن يبقى العراق على حافة الهاوية دائما.
يضاف إلى ذلك أنه حتى في حال تم الكشف عن ملفات فساد بحق هذا المسؤول أو ذاك فإنه إما يجري التستر عليه بهذه الطريقة أو تلك أو تمييع قضيته حتى في القضاء الذي بات وبحسب ما أعلنه رئيس لجنة النزاهة في البرلمان العراقي بهاء الأعرجي بأنه «يتعرض للضغوط من جهات سياسية وهو ما يجعله غير قادر على حسم أكثر الملفات خطورة التي تم نقلها من لجنة النزاهة البرلمانية إلى هيئة النزاهة الحكومية إلى القضاء».
وعلى الرغم من كشف الكثير من القضايا الخطيرة مؤخرا خصوصا على مستوى العجز في الموازنة فضلا عن استمرار الحرب في الأنبار على تنظيم «داعش» واحتمال نقل هذه المعركة إلى محافظات أخرى بعضها لا يقل سخونة عن الأنبار مثل ديالى «شرق بغداد» ونينوى «شمالا» فإن أنظار الجميع تتجه الآن نحو الانتخابات التي لم يعد يفصلنا عنها سوى شهرين ونصف. ومع أن الحملات الانتخابية لم تبدأ بعد فإنها بدأت بطرق وأساليب مختلفة. لكن أهم ما في الأمر أن جميع قادة الكتل والزعامات السياسية يتوجهون إلى الانتخابات وكأن شيئا لم يكن.. لا أزمة سياسية ولا أمنية ولا مالية. وفيما يرفع العراقيون شعار التغيير في الانتخابات المقبلة فإن كبار المسؤولين صادروا حتى هذا الشعار الذي تبنته قوى الحراك المدني الشعبي وقوى التيار الديمقراطي. حيث صار التغيير هو سبيل الكتل الكبيرة وزعاماتها للبقاء في السلطة.
وببساطة فإن مشكلات العراق وأزماته لخصها مؤخرا باحث أميركي زار مدينة النجف (160 كلم جنوب بغداد) التي هي مركز كبار رجال الدين الشيعة والحوزة العلمية. حيث يقول إريك ديفس الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة روتجرز الأميركية، المدير السابق لمركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة، إن التفكير السياسي لدى غالبية السياسيين العراقيين «يفتقر» لمشاريع استراتيجية بعيدة المدى. ويقول ديفس إن «اتحاد الأدباء والكتاب في النجف الأشرف استضافني لإلقاء محاضرة عنوانها عراق ما بعد 2003، وهل تتوفر رؤية عامة للدولة؟ وكيف السبيل لبلوغها»، مبينا أن «الوضع في العراق بحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث». ويتابع قائلا إن «هناك صعوبات كثيرة تعترض ظهور رؤية عامة للدولة في العراق ولعل من أبرزها إهمال الوسائل التي تدعم الوعي التاريخي للشعب من جهة وحدته الوطنية»، منوها إلى أنه «كذلك من الصعوبات الافتقار لمشاريع استراتيجية بعيدة المدى في ذهنية التفكير السياسي لدى غالبية السياسيين العراقيين».
ويكشف الباحث الأميركي حقيقة مهمة تعترض نشوء الدولة في العراق وهي «قلة وندرة الاهتمام الكافي بالتوجيه إلى الشباب العراقي ببرامج بعيدة المدى تعيد لديهم الشعور الوطني والتركيز على الهوية الوطنية الجامعة لكل الهويات الفرعية والدينية والقومية والمذهبية». وفيما يسير كل شيء في العراق في مرحلة ما قبل الدولة بسبب نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي أنشئت العملية السياسية الحالية بموجبه بعد عام 2003 فإن هذه العملية وطبقا للسياسيين والمحللين لم تنتج حتى الآن نظام دولة برؤية مؤسساتية قادرة على تخطي الأزمات المحتملة.

* نواقيس الخطر
على نحو مفاجئ دق رئيس لجنة النزاهة في البرلمان العراقي بهاء الأعرجي ناقوس خطر ربما لم يلتفت إليه الكثيرون في العراق حين دعا في مؤتمر صحافي الأسبوع الماضي الحكومة الحالية التي يرأسها نوري المالكي إلى تقديم استقالتها وتشكيل ما سماه «مجلس البحث العلمي لإنقاذ العراق». ومما قاله الأعرجي إن «الدولة اليوم تمر بمرحلة خطيرة جدا والسبب في ذلك يتمثل بسوء إدارة أجهزتها كافة وتصدي غير المهنيين»، مبينا «للأسف هذه الأجهزة تحاول إخفاء الصورة عن الشعب العراقي وأربع محافظات خارجة عن سيطرة الدولة، بالإضافة إلى زج الجيش في معركة الصورة لم تنقل بصورة صحيحة، وكذلك الاقتصاد العراقي مدمر».
وأضاف أن «الاقتصاد العراقي مدمر والاحتياط الموجود في العراق هو 75 مليار دينار»، مبينا أن ذلك «يعني أن عشرة أيام مقبلة من القتال في الأنبار ستنتهي هذه الأموال ولن تكون هناك رواتب للموظفين». واعتبر الأعرجي أن «الحكومة الحالية أصبحت حكومة أزمات وعدم ثقة لكثير من أبناء الشعب».
وفي سياق متصل كشف تقرير أعده المرصد النيابي العراقي أرقاما قد تكون صادمة للمواطن والناخب العراقي وهو يستعد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
التقرير أفاد أن «مجموع عمل مجلس النواب خلال الدورة البرلمانية الحالية (أربع سنوات) بلغ 937 ساعة أي ما يعادل (39) يوما متكاملا أو ما يعادل (134) يوم عمل بمعدل سبع ساعات عمل يوميا، وأن معدل حضور النواب للجلسات في عام 2012 كان 190 نائبا (من مجموع 325) وفي عام 2013 بلغ المعدل 202 فقط، وكان عدد القوانين التي صوت عليها المجلس 203 لغاية نهاية 2013».
النائب المستقل في البرلمان العراقي عزة الشابندر يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إننا «نواجه اليوم في العراق مشكلات وتحديات وحتى مآزق سياسية وغيرها، ما يمكن أن يدعو أو يبرر القيام بمظاهرات في سبيل إيجاد حلول لها. هناك فساد عام وهناك عدم أمانة على المال العام. وهناك ما هو أبعد من ذلك حيث إننا ما زلنا نواجه خطر الاحتراب الطائفي». ويضيف الشابندر أن «ذلك يتطلب من الجميع سياسيين كانوا أم وسائل إعلام أم منظمات مجتمع مدني العمل بشكل جاد وحقيقي من أجل وقف التدهور في مفاصل كثيرة وبالتالي فإنه لا يليق أن نختزل مشكلات العراق بالتقاعد وامتيازات أصحاب الدرجات الخاصة حيث إن هذا هو شكل آخر من أشكال الفساد لأنه تنصل عن القيام بالواجبات الحقيقية. إننا بحاجة إلى التفكير الجاد في كيفية توفير السكن الملائم والمدارس والخبز لكل الناس لا أن ننظر للأمور بعين واحدة». في سياق متصل يرى عضو البرلمان العراقي عن القائمة الوطنية العراقية حامد المطلك في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «المشكلة التي نواجهها هي أن الحكومة لا تعترف بالفشل وهي فضلا عن ذلك تتخبط وبالتالي فإننا أمام أزمة حقيقية على كل الصعد وفي كل المجالات»، مشيرا إلى أن «الحكومة الحالية تتلاعب للأسف بمصائر الناس بهدف إما تأجيل الانتخابات أو إجراء انتخابات عقيمة لا نفع فيها ولا فائدة للمواطن الطامح للتغيير». ويمضي المطلك إلى أبعد من ذلك قائلا إن «الناس ملوا وأصابهم اليأس مما يجري وبالتالي فإن الحكومة تقود العراق إلى المجهول ولن يحصل شيء مهم وكنا قد طالبنا من وقت طويل باستقالتها حتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه». لكن النائب عن ائتلاف دولة القانون إحسان العوادي يرى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» العكس مما يرويه زملاؤه النواب لواقع الحال السياسي والأمني. حيث يقول إن «هناك بالتأكيد فشلا وإخفاقات في جوانب كثيرة ولكن الحكومة ليست وحدها هي من تتحمل ذلك بل إن البرلمان الذي عطل الكثير من القوانين والإجراءات التي تهم المواطن هو من يتحمل السبب لأنه عمل فقط من أجل إسقاط هذه الحكومة». ويضيف العوادي قائلا إن «قانون البنى التحتية مثلا هو واحد من القوانين التي تخدم المواطن ولكن لأنه يمكن أن يحسب لصالح جهة معينة فقد وقف الجميع ضده في البرلمان من أصحاب الأصوات العالية الذين لا هم لهم سوى توجيه اللوم والانتقادات للحكومة مع أنهم شركاء فيها، فلديهم وزراء في الحكومة وبعض وزاراتهم أو كلها لها مساس مباشر بحياة المواطنين، فضلا عن أنهم يحتلون مواقع هامة في الدولة برلمانا وحكومة».

* قتال في قلب بغداد
المفاجآت تأتي دائما من قادة شيعة في ظل التقسيم العرقي والطائفي الذي جعل العراق بلد مكونات بلا هوية وطنية. فبالإضافة إلى ما أعلنه بهاء الأعرجي أحد أبرز قادة التيار الصدري قبل انسحاب زعيمه مقتدى الصدر من الحياة السياسية، فإن أبرز قياديي المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم وأحد أبرز منافسي المالكي لرئاسة الحكومة المقبلة بعد انتخابات أبريل (نيسان) المقبل باقر جبر الزبيدي دق ناقوس خطر من نوع آخر في ظل استمرار الأزمة الطاحنة التي تواجه فيها الحكومة تنظيمات «داعش» في بعض مدن الأنبار وفي المقدمة منها مدينة الفلوجة. فهذه التنظيمات الإرهابية امتدت نحو صلاح الدين شمالا حيث ناحية سليمان بيك التي سبق لها أن دخلتها الأسبوع الماضي ولا تزال تلك التنظيمات على تخومها على الرغم من إخراجهم منها، كما امتدت جنوبا نحو محافظة بابل حيث أعلن مجلس قضاء المسيب سقوط القضاء عسكريا بيد هذه التنظيمات بعد أن طال قصفهم الأحياء السكنية. الزبيدي وفي بيان له قال «حذرت في السابق قبل أكثر من عامين أن القتال سيكون على أسوار بغداد لكن القتال هذه المرة سيصبح في قلبها فها هي المسيب تسقط بيد المسلحين كما أكد قائممقام المسيب، وستتحول هذه المدينة إلى نموذج سوري، وإذا استمر الأداء الأمني على هذا المستوى فإن الإرهاب سيقضم محيط العاصمة». وفي هذا السياق فإن لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي وعلى لسان أحد أعضائها «شوان محمد طه» عن كتلة التحالف الكردستاني يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «العراق يعيش أزمة حقيقية والسب المباشر في ذلك أنه ليس هناك إدارة ناجحة لأي ملف من الملفات وفي المقدمة منها الملف الأمني». ويضيف طه قائلا إن «الدول لا تدار بهذه الطريقة التي تدار بها دولتنا حيث عنوان كل الملفات هو الفشل، حيث إن الكتلة التي تتحكم أكثر من سواها بمسار عمل الدولة هي كتلة دولة القانون لديها مشكلات مع الجميع فلديها مشكلة مع الأكراد ومشكلة مع العراقية ومشكلة حتى مع أطراف فاعلة في التحالف الوطني الشيعي»، معتبرا أن «مستقبل العراق يتجه فعلا نحو المجهول»، كاشفا عن «وجود تطابق في وجهات النظر بين الكرد وأطراف أساسية في الساحة السياسية من الشيعة والسنة لتغيير الحكم، علما أن الحكومة تعيش على الأزمات، ويبدو لي أن السيد المالكي ما لم يضمن نجاحه في ولاية ثالثة مائة في المائة فإنه يمكن أن يؤدي بالبلاد إلى كارثة».

* ديمقراطية عرجاء
لم يعد يفصل العراقيين عن التغيير عبر الانتخابات سوى شهرين. وعلى وقع طبول الأزمات ينقسم العراقيون إلى صنفين.. صنف يرى أن التغيير المأمول لا يمكن أن يجري إلا من خلال صناديق الاقتراع. وقسم آخر يرى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. المؤشرات الأولية لمستوى المشاركة في الانتخابات المقبلة استنادا إلى استطلاعات رأي قامت بها بعض مؤسسات المجتمع المدني ستكون متدنية إلى حد كبير حيث لا تتجاوز الـ35 في المائة. مؤشرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لا تفرط في التفاؤل أيضا، حيث إن نسبة تحديث سجل الناخبين متوسطة كما أن مستوى توزيع البطاقة الإلكترونية للناخب ليس بالمستوى المقبول بما يجعل المشاركة تفوق المتوقع. وبينما ينتهي العمر الافتراضي للحكومة والبرلمان في منتصف الشهر السادس من هذا العام فإن هناك أكثر من أزمة طاحنة تتطلب حلولا قبل بلوغ يوم الانتخابات وهي أزمة الأنبار والموازنة والخلاف مع الأكراد. ففي حال لم يجر حل حقيقي لأزمة الأنبار فإن الانتخابات سوف تكون على كف عفريت وتأجيلها قد يفتح الباب أمام احتراب داخلي. وفي حال لم يتمكن البرلمان من إقرار الموازنة فإن الحكومة سوف تواجه مشكلة كبيرة كما يرى نائب محافظ البنك العراقي السابق الدكتور مظهر محمد صالح في حديثه لـ«الشرق الأوسط». وما لم تحل المشكلة مع الأكراد فإنه يصعب إقرار الموازنة. وحسب رؤية الدكتور صالح فإن «المشكلة أن الحكومة تأخذ على الأكراد بيع نفط بقيمة 21 مليار دولار لم تدخل خزينة الدولة وبالتالي فإنها في حال استقطعت حصة إقليم كردستان تحت هذه الذريعة سواء كانت مقبولة أم غير مقبولة فإننا حيال إشكالية وطنية كبرى وهي: ما هو مصير الأكراد.. هل هم جزء من العراق أم لا».
ويضيف نائب محافظ البنك المركزي السابق أن «الحكومة تريد من الإقليم تصدير 400 ألف برميل يضاف إلى الموازنة حيث إن العجز في الموازنة هو عجز مخطط وبالتالي فإن تصدير هذه الكمية يمكن أن يخفف هذا العجز حيث إن مجموع ما تدره هذه من أموال قد يصل إلى نحو 18 مليار دولار وهو ما يخفف كثيرا من العجز المخطط لكن في حال لم يتحقق ذلك يتحول العجز المخطط إلى عجز حقيقي».
هذه الأمور كلها يجملها عضو مجلس الحكم السابق والنائب السابق في البرلمان وائل عبد اللطيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» قائلا إن «الحكومة الحالية وأقصد بها مجلس الوزراء والبرلمان هي نتاج انتخابات غير ديمقراطية (انتخابات عام 2010) حيث إنه بحسابات المقعد الذي أراده المشرع الدستوري فقد جعل نائبا لكل مائة ألف نسمة وبالتالي قسم العراق إلى 325 دائرة انتخابية، حيث إن قائمتين في بغداد (دولة القانون بزعامة المالكي والعراقية بزعامة علاوي) حصلتا على أكثر من 60 عضوا لم ينتخب الشعب منهم سوى 3 شخصيات هم نوري المالكي وإياد علاوي وطارق الهاشمي (محكوم بالإعدام غيابيا حاليا) حيث إن كل النواب الآخرين تم ترحيلهم بأصوات زعمائهم وبالتالي فإن الوزارة عرجاء لأن الديمقراطية التي أنتجتها عرجاء حيث لا وزير دفاع ولا داخلية ولا أمن وطني ولا استخبارات وبالتالي فإننا حيال عملية سياسية بائسة بكل المقاييس».
ويضيف عبد اللطيف إننا «بدأنا نواجه الآن وعلى الرغم من نداءات المرجعيات الدينية وقوى المجتمع المدني بضرورة التغيير نواجه حكومة العائلة ودولة العائلة وبالتالي فإنه ما لم يجر انتخاب طبقة سياسية بديلة تنتج عنها حكومة جديدة قادرة على التعامل مع الملفات الخطيرة والمؤجلة فإننا سوف نذهب إلى الهاوية».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».