على الرغم من تكرار الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بل وحتى المالية فإن الطبقة السياسية العراقية الحاكمة لا تبدو في حرج مما يجري في البلاد.
لعل السبيل الأسهل للتخلص من الحرج المتزايد هو إما بالانسحاب بل والاعتزال مثلما فعل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مؤخرا تاركا كتلته البرلمانية والوزارية في أشد أوضاعها حراجة، أو تقاذف كرات الاتهام بين كبار المسؤولين في الحكومة والبرلمان. وإذا كان يحسب لزعيم تيار جماهيري ورجل دين مثل الصدر إعلانه الانسحاب على الرغم من أن أحدا لن يوجه له أي لوم في حال بقي حاضرا في المشهد السياسي لأنه ليس مسؤولا تنفيذيا في الحكومة أو تشريعيا في البرلمان فإنه من النادر أن تجد مسؤولا عراقيا نافذا أعلن مسؤوليته عما يجري أو الاستقالة بسبب فشل أو تهمة فساد.
ما يحصل هو العكس تماما. فالمسؤول عالي المستوى يتحول في نظر مريديه إلى «قائد ضرورة» - وهو اللقب الذي كان يحتكره صدام حسين لأكثر من ثلاثة عقود - حيث لا بديل له. كما أن ما يجري في البلاد من مشكلات وأزمات سببه «أجندات خارجية» تدفع أموالا وتشتري ذمما بمستوى مسؤولين كبار من أجل أن يبقى العراق على حافة الهاوية دائما.
يضاف إلى ذلك أنه حتى في حال تم الكشف عن ملفات فساد بحق هذا المسؤول أو ذاك فإنه إما يجري التستر عليه بهذه الطريقة أو تلك أو تمييع قضيته حتى في القضاء الذي بات وبحسب ما أعلنه رئيس لجنة النزاهة في البرلمان العراقي بهاء الأعرجي بأنه «يتعرض للضغوط من جهات سياسية وهو ما يجعله غير قادر على حسم أكثر الملفات خطورة التي تم نقلها من لجنة النزاهة البرلمانية إلى هيئة النزاهة الحكومية إلى القضاء».
وعلى الرغم من كشف الكثير من القضايا الخطيرة مؤخرا خصوصا على مستوى العجز في الموازنة فضلا عن استمرار الحرب في الأنبار على تنظيم «داعش» واحتمال نقل هذه المعركة إلى محافظات أخرى بعضها لا يقل سخونة عن الأنبار مثل ديالى «شرق بغداد» ونينوى «شمالا» فإن أنظار الجميع تتجه الآن نحو الانتخابات التي لم يعد يفصلنا عنها سوى شهرين ونصف. ومع أن الحملات الانتخابية لم تبدأ بعد فإنها بدأت بطرق وأساليب مختلفة. لكن أهم ما في الأمر أن جميع قادة الكتل والزعامات السياسية يتوجهون إلى الانتخابات وكأن شيئا لم يكن.. لا أزمة سياسية ولا أمنية ولا مالية. وفيما يرفع العراقيون شعار التغيير في الانتخابات المقبلة فإن كبار المسؤولين صادروا حتى هذا الشعار الذي تبنته قوى الحراك المدني الشعبي وقوى التيار الديمقراطي. حيث صار التغيير هو سبيل الكتل الكبيرة وزعاماتها للبقاء في السلطة.
وببساطة فإن مشكلات العراق وأزماته لخصها مؤخرا باحث أميركي زار مدينة النجف (160 كلم جنوب بغداد) التي هي مركز كبار رجال الدين الشيعة والحوزة العلمية. حيث يقول إريك ديفس الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة روتجرز الأميركية، المدير السابق لمركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة، إن التفكير السياسي لدى غالبية السياسيين العراقيين «يفتقر» لمشاريع استراتيجية بعيدة المدى. ويقول ديفس إن «اتحاد الأدباء والكتاب في النجف الأشرف استضافني لإلقاء محاضرة عنوانها عراق ما بعد 2003، وهل تتوفر رؤية عامة للدولة؟ وكيف السبيل لبلوغها»، مبينا أن «الوضع في العراق بحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث». ويتابع قائلا إن «هناك صعوبات كثيرة تعترض ظهور رؤية عامة للدولة في العراق ولعل من أبرزها إهمال الوسائل التي تدعم الوعي التاريخي للشعب من جهة وحدته الوطنية»، منوها إلى أنه «كذلك من الصعوبات الافتقار لمشاريع استراتيجية بعيدة المدى في ذهنية التفكير السياسي لدى غالبية السياسيين العراقيين».
ويكشف الباحث الأميركي حقيقة مهمة تعترض نشوء الدولة في العراق وهي «قلة وندرة الاهتمام الكافي بالتوجيه إلى الشباب العراقي ببرامج بعيدة المدى تعيد لديهم الشعور الوطني والتركيز على الهوية الوطنية الجامعة لكل الهويات الفرعية والدينية والقومية والمذهبية». وفيما يسير كل شيء في العراق في مرحلة ما قبل الدولة بسبب نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي أنشئت العملية السياسية الحالية بموجبه بعد عام 2003 فإن هذه العملية وطبقا للسياسيين والمحللين لم تنتج حتى الآن نظام دولة برؤية مؤسساتية قادرة على تخطي الأزمات المحتملة.
* نواقيس الخطر
على نحو مفاجئ دق رئيس لجنة النزاهة في البرلمان العراقي بهاء الأعرجي ناقوس خطر ربما لم يلتفت إليه الكثيرون في العراق حين دعا في مؤتمر صحافي الأسبوع الماضي الحكومة الحالية التي يرأسها نوري المالكي إلى تقديم استقالتها وتشكيل ما سماه «مجلس البحث العلمي لإنقاذ العراق». ومما قاله الأعرجي إن «الدولة اليوم تمر بمرحلة خطيرة جدا والسبب في ذلك يتمثل بسوء إدارة أجهزتها كافة وتصدي غير المهنيين»، مبينا «للأسف هذه الأجهزة تحاول إخفاء الصورة عن الشعب العراقي وأربع محافظات خارجة عن سيطرة الدولة، بالإضافة إلى زج الجيش في معركة الصورة لم تنقل بصورة صحيحة، وكذلك الاقتصاد العراقي مدمر».
وأضاف أن «الاقتصاد العراقي مدمر والاحتياط الموجود في العراق هو 75 مليار دينار»، مبينا أن ذلك «يعني أن عشرة أيام مقبلة من القتال في الأنبار ستنتهي هذه الأموال ولن تكون هناك رواتب للموظفين». واعتبر الأعرجي أن «الحكومة الحالية أصبحت حكومة أزمات وعدم ثقة لكثير من أبناء الشعب».
وفي سياق متصل كشف تقرير أعده المرصد النيابي العراقي أرقاما قد تكون صادمة للمواطن والناخب العراقي وهو يستعد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
التقرير أفاد أن «مجموع عمل مجلس النواب خلال الدورة البرلمانية الحالية (أربع سنوات) بلغ 937 ساعة أي ما يعادل (39) يوما متكاملا أو ما يعادل (134) يوم عمل بمعدل سبع ساعات عمل يوميا، وأن معدل حضور النواب للجلسات في عام 2012 كان 190 نائبا (من مجموع 325) وفي عام 2013 بلغ المعدل 202 فقط، وكان عدد القوانين التي صوت عليها المجلس 203 لغاية نهاية 2013».
النائب المستقل في البرلمان العراقي عزة الشابندر يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إننا «نواجه اليوم في العراق مشكلات وتحديات وحتى مآزق سياسية وغيرها، ما يمكن أن يدعو أو يبرر القيام بمظاهرات في سبيل إيجاد حلول لها. هناك فساد عام وهناك عدم أمانة على المال العام. وهناك ما هو أبعد من ذلك حيث إننا ما زلنا نواجه خطر الاحتراب الطائفي». ويضيف الشابندر أن «ذلك يتطلب من الجميع سياسيين كانوا أم وسائل إعلام أم منظمات مجتمع مدني العمل بشكل جاد وحقيقي من أجل وقف التدهور في مفاصل كثيرة وبالتالي فإنه لا يليق أن نختزل مشكلات العراق بالتقاعد وامتيازات أصحاب الدرجات الخاصة حيث إن هذا هو شكل آخر من أشكال الفساد لأنه تنصل عن القيام بالواجبات الحقيقية. إننا بحاجة إلى التفكير الجاد في كيفية توفير السكن الملائم والمدارس والخبز لكل الناس لا أن ننظر للأمور بعين واحدة». في سياق متصل يرى عضو البرلمان العراقي عن القائمة الوطنية العراقية حامد المطلك في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «المشكلة التي نواجهها هي أن الحكومة لا تعترف بالفشل وهي فضلا عن ذلك تتخبط وبالتالي فإننا أمام أزمة حقيقية على كل الصعد وفي كل المجالات»، مشيرا إلى أن «الحكومة الحالية تتلاعب للأسف بمصائر الناس بهدف إما تأجيل الانتخابات أو إجراء انتخابات عقيمة لا نفع فيها ولا فائدة للمواطن الطامح للتغيير». ويمضي المطلك إلى أبعد من ذلك قائلا إن «الناس ملوا وأصابهم اليأس مما يجري وبالتالي فإن الحكومة تقود العراق إلى المجهول ولن يحصل شيء مهم وكنا قد طالبنا من وقت طويل باستقالتها حتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه». لكن النائب عن ائتلاف دولة القانون إحسان العوادي يرى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» العكس مما يرويه زملاؤه النواب لواقع الحال السياسي والأمني. حيث يقول إن «هناك بالتأكيد فشلا وإخفاقات في جوانب كثيرة ولكن الحكومة ليست وحدها هي من تتحمل ذلك بل إن البرلمان الذي عطل الكثير من القوانين والإجراءات التي تهم المواطن هو من يتحمل السبب لأنه عمل فقط من أجل إسقاط هذه الحكومة». ويضيف العوادي قائلا إن «قانون البنى التحتية مثلا هو واحد من القوانين التي تخدم المواطن ولكن لأنه يمكن أن يحسب لصالح جهة معينة فقد وقف الجميع ضده في البرلمان من أصحاب الأصوات العالية الذين لا هم لهم سوى توجيه اللوم والانتقادات للحكومة مع أنهم شركاء فيها، فلديهم وزراء في الحكومة وبعض وزاراتهم أو كلها لها مساس مباشر بحياة المواطنين، فضلا عن أنهم يحتلون مواقع هامة في الدولة برلمانا وحكومة».
* قتال في قلب بغداد
المفاجآت تأتي دائما من قادة شيعة في ظل التقسيم العرقي والطائفي الذي جعل العراق بلد مكونات بلا هوية وطنية. فبالإضافة إلى ما أعلنه بهاء الأعرجي أحد أبرز قادة التيار الصدري قبل انسحاب زعيمه مقتدى الصدر من الحياة السياسية، فإن أبرز قياديي المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم وأحد أبرز منافسي المالكي لرئاسة الحكومة المقبلة بعد انتخابات أبريل (نيسان) المقبل باقر جبر الزبيدي دق ناقوس خطر من نوع آخر في ظل استمرار الأزمة الطاحنة التي تواجه فيها الحكومة تنظيمات «داعش» في بعض مدن الأنبار وفي المقدمة منها مدينة الفلوجة. فهذه التنظيمات الإرهابية امتدت نحو صلاح الدين شمالا حيث ناحية سليمان بيك التي سبق لها أن دخلتها الأسبوع الماضي ولا تزال تلك التنظيمات على تخومها على الرغم من إخراجهم منها، كما امتدت جنوبا نحو محافظة بابل حيث أعلن مجلس قضاء المسيب سقوط القضاء عسكريا بيد هذه التنظيمات بعد أن طال قصفهم الأحياء السكنية. الزبيدي وفي بيان له قال «حذرت في السابق قبل أكثر من عامين أن القتال سيكون على أسوار بغداد لكن القتال هذه المرة سيصبح في قلبها فها هي المسيب تسقط بيد المسلحين كما أكد قائممقام المسيب، وستتحول هذه المدينة إلى نموذج سوري، وإذا استمر الأداء الأمني على هذا المستوى فإن الإرهاب سيقضم محيط العاصمة». وفي هذا السياق فإن لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي وعلى لسان أحد أعضائها «شوان محمد طه» عن كتلة التحالف الكردستاني يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «العراق يعيش أزمة حقيقية والسب المباشر في ذلك أنه ليس هناك إدارة ناجحة لأي ملف من الملفات وفي المقدمة منها الملف الأمني». ويضيف طه قائلا إن «الدول لا تدار بهذه الطريقة التي تدار بها دولتنا حيث عنوان كل الملفات هو الفشل، حيث إن الكتلة التي تتحكم أكثر من سواها بمسار عمل الدولة هي كتلة دولة القانون لديها مشكلات مع الجميع فلديها مشكلة مع الأكراد ومشكلة مع العراقية ومشكلة حتى مع أطراف فاعلة في التحالف الوطني الشيعي»، معتبرا أن «مستقبل العراق يتجه فعلا نحو المجهول»، كاشفا عن «وجود تطابق في وجهات النظر بين الكرد وأطراف أساسية في الساحة السياسية من الشيعة والسنة لتغيير الحكم، علما أن الحكومة تعيش على الأزمات، ويبدو لي أن السيد المالكي ما لم يضمن نجاحه في ولاية ثالثة مائة في المائة فإنه يمكن أن يؤدي بالبلاد إلى كارثة».
* ديمقراطية عرجاء
لم يعد يفصل العراقيين عن التغيير عبر الانتخابات سوى شهرين. وعلى وقع طبول الأزمات ينقسم العراقيون إلى صنفين.. صنف يرى أن التغيير المأمول لا يمكن أن يجري إلا من خلال صناديق الاقتراع. وقسم آخر يرى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. المؤشرات الأولية لمستوى المشاركة في الانتخابات المقبلة استنادا إلى استطلاعات رأي قامت بها بعض مؤسسات المجتمع المدني ستكون متدنية إلى حد كبير حيث لا تتجاوز الـ35 في المائة. مؤشرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لا تفرط في التفاؤل أيضا، حيث إن نسبة تحديث سجل الناخبين متوسطة كما أن مستوى توزيع البطاقة الإلكترونية للناخب ليس بالمستوى المقبول بما يجعل المشاركة تفوق المتوقع. وبينما ينتهي العمر الافتراضي للحكومة والبرلمان في منتصف الشهر السادس من هذا العام فإن هناك أكثر من أزمة طاحنة تتطلب حلولا قبل بلوغ يوم الانتخابات وهي أزمة الأنبار والموازنة والخلاف مع الأكراد. ففي حال لم يجر حل حقيقي لأزمة الأنبار فإن الانتخابات سوف تكون على كف عفريت وتأجيلها قد يفتح الباب أمام احتراب داخلي. وفي حال لم يتمكن البرلمان من إقرار الموازنة فإن الحكومة سوف تواجه مشكلة كبيرة كما يرى نائب محافظ البنك العراقي السابق الدكتور مظهر محمد صالح في حديثه لـ«الشرق الأوسط». وما لم تحل المشكلة مع الأكراد فإنه يصعب إقرار الموازنة. وحسب رؤية الدكتور صالح فإن «المشكلة أن الحكومة تأخذ على الأكراد بيع نفط بقيمة 21 مليار دولار لم تدخل خزينة الدولة وبالتالي فإنها في حال استقطعت حصة إقليم كردستان تحت هذه الذريعة سواء كانت مقبولة أم غير مقبولة فإننا حيال إشكالية وطنية كبرى وهي: ما هو مصير الأكراد.. هل هم جزء من العراق أم لا».
ويضيف نائب محافظ البنك المركزي السابق أن «الحكومة تريد من الإقليم تصدير 400 ألف برميل يضاف إلى الموازنة حيث إن العجز في الموازنة هو عجز مخطط وبالتالي فإن تصدير هذه الكمية يمكن أن يخفف هذا العجز حيث إن مجموع ما تدره هذه من أموال قد يصل إلى نحو 18 مليار دولار وهو ما يخفف كثيرا من العجز المخطط لكن في حال لم يتحقق ذلك يتحول العجز المخطط إلى عجز حقيقي».
هذه الأمور كلها يجملها عضو مجلس الحكم السابق والنائب السابق في البرلمان وائل عبد اللطيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» قائلا إن «الحكومة الحالية وأقصد بها مجلس الوزراء والبرلمان هي نتاج انتخابات غير ديمقراطية (انتخابات عام 2010) حيث إنه بحسابات المقعد الذي أراده المشرع الدستوري فقد جعل نائبا لكل مائة ألف نسمة وبالتالي قسم العراق إلى 325 دائرة انتخابية، حيث إن قائمتين في بغداد (دولة القانون بزعامة المالكي والعراقية بزعامة علاوي) حصلتا على أكثر من 60 عضوا لم ينتخب الشعب منهم سوى 3 شخصيات هم نوري المالكي وإياد علاوي وطارق الهاشمي (محكوم بالإعدام غيابيا حاليا) حيث إن كل النواب الآخرين تم ترحيلهم بأصوات زعمائهم وبالتالي فإن الوزارة عرجاء لأن الديمقراطية التي أنتجتها عرجاء حيث لا وزير دفاع ولا داخلية ولا أمن وطني ولا استخبارات وبالتالي فإننا حيال عملية سياسية بائسة بكل المقاييس».
ويضيف عبد اللطيف إننا «بدأنا نواجه الآن وعلى الرغم من نداءات المرجعيات الدينية وقوى المجتمع المدني بضرورة التغيير نواجه حكومة العائلة ودولة العائلة وبالتالي فإنه ما لم يجر انتخاب طبقة سياسية بديلة تنتج عنها حكومة جديدة قادرة على التعامل مع الملفات الخطيرة والمؤجلة فإننا سوف نذهب إلى الهاوية».