«سد النهضة» الإثيوبي قضية أمن قومي لمصر

خبراء لـ(«الشرق الأوسط»): كل احتمالات التصعيد واردة.. والضربة العسكرية مستبعدة

سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي
سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي
TT

«سد النهضة» الإثيوبي قضية أمن قومي لمصر

سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي
سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي

في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، اعترف وزير الري والموارد المائية المصري السابق، الدكتور محمد نصر الدين علام، بوجود أخطاء في تعامل الإدارة المصرية مع ملف السد الإثيوبي. وأكد حدوث نوع من التهاون، من منطلق الحرص على عدم تصعيد الموقف مع أديس أبابا وخلق عداوات، في فترة الثورة المصرية. بينما صرح الدكتور محمد العرابي، وزير الخارجية المصرية السابق، لـ«الشرق الأوسط»، بأن السياسة الخارجية لم تخطئ، وأن الخطأ كان من جانب الدولة حين أوكلت ملف سد النهضة الإثيوبي لجهة فنية متمثلة في وزارة الري.
مشروع سد النهضة الإثيوبي أصبح مثار جدل كبير، بعد إعلان إثيوبيا عن إقامته دونما انتظار موافقة الجانب المصري أو التوافق معه. وفي الوقت الذي يحتفل فيه الإثيوبيون بالسد بوصفه مشروعا قوميا وانطلاقة للتنمية والتطور، يعده المصريون كارثة حقيقية تهددهم بالموت عطشا، وربما جوعا أيضا، بسبب تأثيراته السلبية على حصة مصر من المياه وعلى مشروعاتها الزراعية. وقد أدى فشل الحوار التفاوضي بين مسؤولي الدولتين، في جولاته المتتابعة، إلى تسخين الأجواء بين أديس أبابا والقاهرة، وتصاعد التوتر إلى درجة الحديث عن احتمالات اللجوء إلى عمل عسكري، أو توجيه ضربة خاطفة لتدمير السد. وقد ساهمت زيارة المشير عبد الفتاح السيسي إلى روسيا أخيرا، في زيادة القلق حول الموقف المصري، وتوابع التصميم الإثيوبي على المضي قدما في بناء السد على النيل الأزرق، أحد روافد نهر النيل.
وقد طرحت هذه التطورات أسئلة كثيرة حول مستقبل ملف السد الإثيوبي والتعاطي المصري الرسمي معه، واحتمالات التصعيد من الجانبين.
يرى الخبير الاستراتيجي اللواء جمال حواش، أستاذ إدارة الأزمات والتفاوض في أكاديمية ناصر العسكرية، أن ملف السد الإثيوبي سياسي يرتبط بالأمن القومي لمصر، ويجب عدم التهوين من شأنه، على حد قوله. وأضاف في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن سد إثيوبيا واحد من 34 سدا كان مخططا لها هناك، ما يعني أن المسألة لم تكن مفاجئة لمصر، ولكن الحكومات الفائتة غضت الطرف عما يجري، وآخره ما حدث في عهد الرئيس مرسي من تراخ. وللأسف بدأت المخاطر تهل بحدوث زلازل في المنطقة، هي أولى توابع السد، لأن البحيرات الصناعية تؤدي إلى حدوث الزلازل. لذلك لا يمكنهم رفع حجم المخزون إلى 164 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل مخزون السد العالي في مصر، نظرا لاختلاف الجيولوجيا، وعدم قدرة الأرض على تحمل ضغط هذه الكمية من المياه. كما أن السد لا يملك قدرة على الثبات، وبالتالي أعيد فتح المسألة الآن، لأنهم لم يجدوا من يقف لهم، بعد أن تحول الملف إلى وزارة الموارد المائية، رغم أنه كان ملفا أمنيا قوميا لدى اللواء الراحل عمر سليمان، الذي لم يكن يسمح لهم بالتفكير في المشروع. لذلك لم يطرح إلا بعد وفاته مباشرة. وساهم في تعقيد الأمر ما تمر به مصر منذ أحداث الثورة، بالإضافة إلى الإزعاج الذي تعرض له التنظيم الدولي في العالم، والموقف الأميركي، وتوالي المعونات المقدمة إلى إثيوبيا، من هنا وهناك، بحكم المثل القائل «إن المصالح تتصالح»؛ لذلك فإن إثيوبيا الآن تتحدث عن سد كامل السعة، بعد أن كانت تتحدث عن سد لا تتجاوز سعته 30 مليار متر مكعب، وإلى جانب ذلك، فإننا نتحمل نتيجة إهمالنا أفريقيا خلال السنوات الماضية.
وعن الحلول، أكد حواش أن أسلم حل هو «الرجوع إلى التفاوض جنبا إلى جنب، مع دعم قدراتنا، وإبراز قوتنا، في إطار الرد من دون أن نلجأ إليها. لذلك فإن زيارة المشير السيسي إلى روسيا حملت رسالة مهمة لكل الأطراف، ليعرفوا أننا لن نقف عند السلاح الأميركي. لكن هذا لا يعني إعلان الحرب، فهذا ليس من الحكمة، لأن أفريقيا هي عمق مصر وامتدادها، وليس من المعقول التلويح بحرب في هذه المنطقة، في هذا الوقت الذي تقف فيه المؤسسات الدولية ضد مصر، وعلى رأسها الأمم المتحدة وحلف الأطلنطي الذي يدافع عن تركيا في حال تعرضها لأي مكروه في إثيوبيا، بحكم دعمها للسد الإثيوبي». وقال: «إن دق طبول الحرب ضد إثيوبيا معناه أن مصر تقدم دعوات لجميع دول العالم للتدخل، بحكم كون إثيوبيا دولة صغيرة ليست بحجم مصر».
وأكد اللواء جمال حواش أن المناخ الدولي والإقليمي غير ملائم أيضا حتى لتوجيه ضربة خاطفة. وقال إنه لا بد من فتح نوافذ التصالح، وإن اضطرت مصر لخلق الوسطاء فهذا ليس عيبا، سواء كان الوسيط عاديا أو مفاوضا يحل محل أحد الأطراف للكلام باسمهم، لضمان ما جرى الاتفاق عليه، مع الأخذ في الاعتبار أن باقي الكتل تعمل لمصالحها، ونعول كثيرا على الدول العربية ودورها في دعم موقف مصر.
وختم قائلا إن هناك أساليب أخرى يمكن العمل بها من دون إعلان تفاصيلها، بالترافق مع المساعي الحثيثة التي لا تضر ومن دون أي انفعال.
* جدل مبكر
* الدكتور حيدر إبراهيم، المفكر والباحث السوداني، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الموضوع يتحرك في إطار دعاية جاهلة، وتصدر سياسيين لمشهد يتطلب خبراء متخصصين، لأن هناك جوانب فنية وتخصصية تتعلق بموضوع السد، هي التي يجب أن تكون لها الكلمة العليا، لكن ما يحدث هو أن الموضوع أخذ بعدا سياسيا مبالغا فيه، بدليل تضارب تصريحات المسؤولين في الحكومتين السودانية والمصرية؛ فهم يتكلمون بوصفهم سياسيين وليس متخصصين في المياه والسدود. مما ساهم في تعكير صفو الأجواء، وتحويل المسألة من قضية فنية ذات بعد علمي، إلى أزمة سياسية. وأضاف إبراهيم أن سد إثيوبيا الذي أثار كل هذا الجدل، مجرد تصور وخرائط على ورق، تحاول إثيوبيا عرضها على بعض الدول لمساعدتها، لأنها لن تستطيع تنفيذ المشروع وحدها. وبالتالي فأنا أرى أن الموضوع يحمل مبالغة وتهويلا كبيرين. وقال أيضا إن هناك نسبة بخر وفاقدا كبيرا في مياه النيل الأبيض والأزرق، بسبب وجود حشائش تمتص مياههما. ولو قام علماؤنا ببحث كيفية توفير هذا الفاقد، والتخلص من تلك الحشائش لأمكن توفير فائض كبير تستفيد منه دول المصب. بل إن هناك مشكلة يعاني منها الجنوبيون في السودان، بسبب فائض المياه الزائدة، التي تكون مستنقعات، وتتسبب في حدوث الملاريا. ويتمنى السكان لو تخلصوا من هذا الفائض لصالح مصر لتحقيق فائدة مزدوجة، لكن للأسف، لم تطرح هذه الموضوعات. فيما يبقى التركيز فقط على تسييس أزمة سد إثيوبيا من دون معرفة حقيقية بتفاصيل المشروع، حتى وهو مجرد خرائط على الورق، لا لشيء سوى لدواعي الإثارة، وهذه هي آفة شعوبنا للأسف.
* مخاطر جيولوجية
* وحول الجوانب الفنية في سد النهضة الإثيوبي، أكد الدكتور مغاوري شحاتة، خبير جيولوجيا المياه في جامعة المنوفية، لـ«الشرق الأوسط»، أن السد الإثيوبي أصبح أمرا واقعا، بعد أن ثبتت إثيوبيا قواعد البنية الأساسية الخاصة به. وقد أعلن المسؤولون الإثيوبيون أنه ابتداء من سبتمبر (أيلول) المقبل سيجري حجز المياه خلف السد، مما يؤثر على حصة مصر.
وأضاف أن سبب الجدل المثار حول السد الإثيوبي المزمع بناؤه على نهر النيل، يتعلق بالمخاطر الكثيرة المترتبة على توابعه؛ لأن منطقة السد لها طبيعة خاصة من الصخور القاعدية، وهي نوع من الصخور المكونة لقشرة الأرض. كما أن ثلثي تكوين حوض نهر النيل الأزرق، في جزئه العلوي، من البازلت، أي أن المياه ستحمل ركاما من صخور بازلتية. كما أن جسم السد يتكون من خرسانة وفتحات للتوربينات، بالإضافة إلى جسم سد آخر ملحق به، وهو سد ثانوي ترابي ركامي، بامتداد 4800 متر، وسعته التخزينية 63 مليار متر مكعب، لتصل الطاقة الإجمالية للتخزين في السدين معا إلى أكثر من 90 مليار متر مكعب، بعد إضافة المياه الجوفية. هذا يعني أن نحو90 مليار طن من المياه ستقع على هذا الجزء الجرانيتي المتشقق، الذي يعاني من الفواصل والكسور، وربما تحدث بعض الهزات الأرضية في المنطقة تصل قوتها إلى ست درجات على مقياس ريختر، تهدد جسم السدين معا، وتعرضهما للانزلاق والانهيار، ما يعرض السودان إلى خطر الفيضان والإغراق، لدرجة اختفاء مدينة الخرطوم بالكامل. كما ستطال الأراضي المصرية، بعض هذه الكوارث. هذا إلى جانب مشكلات أخرى هندسية وفنية، كشفتها دراسات وتقارير اللجنة الثلاثية الدولية، حيث أشار الجانب الألماني إلى أن السد يقع فوق منطقة هندسية تكتونية ديناميكية متحركة وغير آمنة، ما يعرض السد للتدمير بسبب كتلة المياه وكتلة السدين معا، إلى جانب مخاطر تتعلق بحدوث تفاعلات بين المياه والصخور.
وكشف خبير جيولوجيا المياه لـ«الشرق الأوسط» عن أن الجانب الإثيوبي أسند مهمة إقامة السد، بالأمر المباشر، إلى شركة إيطالية. ووضعت مواصفاته على عجل، وهذا على غير المألوف في مثل هذه المشروعات القومية، وذلك لسباقهم مع الزمن والسرعة في إتمامه، رغم أن المفروض هو إنجازه على مراحل وفق دراسات علمية متخصصة.
وأكد د. مغاوري شحاتة أن هناك خطأ في تصميم السد، حيث تتدفق المياه عبر جسم السد، مما يعرضه للخطر، فضلا عن المخاطر البيئية. وقال إنه كان يجب على الجانب الإثيوبي أن ينصت لمصر، ويتوجه لبدائل أخرى لتوليد الطاقة الكهربائية المطلوبة، عبر مجموعة من السدود الصغيرة التي يقل ضررها وتأثيرها على الأمن المائي المصري. لكن إثيوبيا متمسكة بالعناد رغم أن السد يتكلف عشرة مليار دولار، ولا يزيد عمره الافتراضي على 15 سنة. لكن هناك أطرافا دولية في الموضوع، وعلى رأسها تركيا التي لا أفهم سر إصرارها على نقل خبراتها السلبية في سوريا والعراق إلى إثيوبيا في مواجهة مصر. لكن المسألة ترتبط بنواح سياسية، ولا تجري في إطار التعاون الودي المفترض، فيما بين دول حوض النهر الواحد.
* إثيوبيا لا تقوى على التراجع
* ومن جهة أخرى، قال حلمي شعراوي، مدير مركز البحوث العربية والأفريقية في القاهرة، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن المسؤولين المصريين يتحملون المسؤولية تاريخيا عما حدث من إرباك المشهد المتعلق بسد النهضة الإثيوبي. بالإضافة إلى أننا معروفون في العالم بإهدارنا للمياه، فيما بين 10 و15 مليار متر مكعب سنويا، بسبب سوء التعامل مع نهر النيل. لكن مع ذلك، فهذا لا يعني أن يأتي الطرف الإثيوبي ويضربني من خلال القفزة الكبيرة التي قامت بها الحكومة الإثيوبية في السعة التخزينية للسد؛ فقد كانت تتحدث، في بداية الأمر، عن 17 مليار متر مكعب كحد أقصى يجري تخزينها خلال 7 إلى 15 سنة، حتى فوجئنا بتلك الطفرة في سعة التخزين، وربما كان ذلك دافع الحكومة المصرية في التعامل مع الأمر، وكأنه غير مضر لمصر آنذاك.
وأضاف شعراوي، مع ذلك، فإن الحكومة المصرية لا تستطيع الضغط على إثيوبيا لإيقاف المشروع؛ لأن الصورة التي لا يعلمها الكثيرون أن إثيوبيا أصغر جزء في الموضوع، وهي لا تملك التراجع، لأن الأمر يتعلق بالرأسمالية العالمية، وفكرة عولمة مشروعات المياه لاستغلال الطاقة، ومنها مشروعات نهر النيل؛ فمشروع سد النهضة الإثيوبي ليس مجرد مشروع ثنائي أو بسيط، وإنما مشروع عالمي؛ فحوائط السد هي استثمار إيطالي، وإنتاج الطاقة استثمارات هندية - صينية. وهناك شركة صينية ستقوم بنقل الكهرباء، بينما تقوم إسرائيل بالتسويق للمنتج، يعنى كسمسار. ومن حق مصر كسوق كبيرة التفكير في المشاركة في الاستثمارات.
* الحل العسكري خطأ
* وحول إمكانية اللجوء إلى الحل العسكري أو توجيه ضربة عسكرية لسد إثيوبيا، قال اللواء عادل سليمان، الخبير الاستراتيجي ورئيس منتدى الحوار الاستراتيجي، لـ«الشرق الأوسط»، إنني أختلف تماما مع من يروجون لفكرة توجيه ضربة عسكرية لإثيوبية، بل أرى هذه التصريحات نوعا من العبث، لأنه لا يصح أبدا أن نقول هذا الكلام ونحن كنا دولة تساند أفريقيا في الماضي. كما أن عصر الضربات العسكرية انتهى، ولا يمكن مقارنة موضوع سد إثيوبيا بموضوع الحفار الذي جرى خطفه في عملية استخباراتية بحتة؛ فنحن لسنا في حالة حرب، ودول حوض النيل تنقسم إلى دول منبع وممر ومصب، والمفروض أن تكون هناك مصلحة مشتركة في التعاون والاتفاق حول كيفية استغلال مياه المورد الضخم، علما بأن هذا المورد لا نستفيد تقريبا إلا بنحو ستة في المائة منه فقط، والباقي يجري فقده، ومن حق دولة إثيوبيا أن تقيم مشروعات للتنمية والتطوير وتوليد الطاقة، بعد أن عاشت لسنوات محرومة من هذه المشروعات. ومن ثم ليس من حقنا اللجوء إلى الحل العسكري، ولا يمكن أن نستطيع القيام به، لا ماديا ولا جغرافيًّا. بل بالعكس، إنني أرى أن مثل هذه التصريحات العدائية في مصر تسبب لنا المشكلات، لكن من ناحية أخرى يمكن لمصر أن تلجأ إلى المؤسسات الدولية، وتتقدم بشكوى ليس لطلب هدم السد، وإنما لتشكيل لجنة محايدة ومتخصصة، تبحث وترصد أضرار السد وتوابعه، وكيفية الحل، ولكن للأسف سوء الإدارة في الحكومة المصرية، وفشل السياسة الخارجية المصرية في تناول ملف السد وراء هذه الأزمة الآن، وكان المفروض أن يتجه المسؤولون المصريون إلى التفاهم مع دول النيل دون تعالٍ، وأن تجري مناقشته في إطار أن موضوع السد موضوع فني سياسي مزدوج، يتعلق بمصدر مهم وحيوي للمياه يؤثر علينا، ومن ثم مطلوب التعامل فنيا وسياسيا مع الموضوع وبكفاءة عالية ومدروسة جيدا، وفي إطار تعاون بين دول حوض النيل، ولا ننسى أننا دولة مصب وإثيوبيا دولة منبع.
* تقصير مصري
* وردا على الاتهامات الموجهة، أخيرا إلى وزارات الموارد المائية المتعاقبة في مصر، بالتقصير في ملف سد إثيوبيا، قال الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري، خلال الفترة من 11 مارس (آذار) 2009 حتى 30 يناير (كانون الثاني) 2011، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن إثيوبيا استغلت فترات الثورة المصرية وأحداثها المتلاحقة في الإسراع بإقامة السد، وإن كان هناك خطأ في الإدارة المصرية بلا شك في تعاملها مع هذا الملف، وحدث نوع من التهاون، ولكن كان ذلك من منطلق الحرص على عدم تصعيد الموقف مع إثيوبيا وخلق عداوات في فترة صعبة وغير مستقرة آنذاك.
وأوضح الوزير علام لـ«الشرق الأوسط» أن مخطط سد النهضة بدأ منذ عام 1964، ردا على بناء السد العالي بمصر. وكانت أميركا قد أرسلت بعثة كبيرة عام 1958 حول إقامة عدد من المشروعات، منها أربعة سدود كبرى، أحدها يدعى سد الحدود ويعرف الآن بسد النهضة. وكانت سعة هذا السد حتى عام 2010 عشرة مليار متر مكعب، ثم قفزت إلى 14 مليارا. وقد حاولت إثيوبيا على مدار التاريخ إقامة هذا السد، لكنها لم تفعل احتراما لزعامة عبد الناصر. ثم تقدمت بشكوى ضد مصر عام 1959، أعقبها قيامها بفصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية بعد 1624 سنة من الارتباط، ثم تجددت المناوشات في عهد السادات فتوقفت أديس أبابا عندما هددها بهدم السد، وتفضيل المصريين للاستشهاد في إثيوبيا على الموت عطشا. وتكرر الموقف نفسه في عهد مبارك، أيام المشير أبو غزالة، ثم أيام عمر سليمان الذي هدد بتحطيم أي منشأة خاصة ببناء السد على نهر النيل.
وحول دور الجانب المصري في هذا الموضوع، أوضح وزير الري والموارد المائية السابق، أن إثيوبيا دخلت مخطط السدود عام 2005، وطالبت مصر باستيفاء الدراسات الخاصة بالآثار الضارة للسد عليها، ثم رفض الجانب المصري تلك الدراسات، ورفض إقامة أي سد، حتى يجري الأخذ في الاعتبار تلك الآثار.
وأضاف أنه بعد الثورة المصرية ظهرت تسريبات إثيوبية حول إقامة سد مكان سد الحدود. وخلال شهرين جرى التوقيع مع الشركة الإيطالية بشكل سريع ومخالف لإجراءات القانون الدولي، من وجوب إخطار مصر قبل الإقدام على هذه الخطوة. وبعدها سافر رئيس الوزراء آنذاك، عصام شرف، واتفق على تشكيل لجنة ثلاثية لتقييم الدراسات الإثيوبية. وهنا كان خطأ الإدارة المصرية، وتهاونها في الحيلولة دون تصعيد الموقف. وكانت النتيجة أن هذه اللجنة كانت استشارية، ورأيها غير ملزم. والغريب أنه قبل يومين من انتهاء تلك اللجنة من تقريرها، جرى تحويل مجرى النيل الأزرق، مما أدى إلى تصاعد الأزمة، خاصة أن اللجنة انتهت إلى أن الدراسات الإثيوبية غير متكاملة. وبعد أحداث 30 يونيو (حزيران)، وبدلا من التفاوض حول حجم السد وأضراره الشديدة على مصر، رفضت إثيوبيا وجود خبراء دوليين، واكتفت بالمحليين. ورغم أن الخطأ المصري غير مقصود، فإنه أدى إلى فرض إثيوبيا أسلوبها على المفاوض المصري والسوداني.
وعن إمكانية اللجوء إلى التحكيم الدولي، قال د. نصر الدين علام إنه لا بد أن يوافق الطرفان على اللجوء إلى التحكيم الدولي. وموقف إثيوبيا واضح، فهي لن توافق، ولكن هناك وسيلة أخرى مثلما فعل الفلسطينيون مع إسرائيل، بخصوص الجدار العازل، حيث جرى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، من خلال طرق باب الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهنا يمكن الحصول على فتوى قانونية خلال سنة أو أكثر قليلا، تستخدمها مصر كورقة ضغط سياسي على إثيوبيا. وأنا أؤكد أنه لن يستكمل سد إثيوبيا بهذه المقاييس، ولن تسمح مصر بذلك، وستستخدم كل الوسائل المتاحة.
* إقناع العالم أولا
* خبير المياه الدولي الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، أبدى أيضا تحفظه على فكرة اللجوء إلى الحل العسكري، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن مصر لا تستطيع القيام بأي عمل عسكري ضد سد إثيوبيا، قبل أن تقنع العالم أولا بعدالة القضية المصرية؛ فإثيوبيا ترسي بتصرفها هذا مبدأ فوضى إقامة السدود في العالم، وفرض مبدأ السيادة المطلقة على مرفق مشترك. وهو أمر لا يجوز، لكنها نجحت في إقناع العالم بأن مصر هي التي تكره الخير لإثيوبيا، وأن المصريين يسرقون مياه نهر النيل رغم أن تقدير الأمم المتحدة يشير إلى أن إثيوبيا تحصل على 122 مليار متر مكعب من الأنهار فقط، يذهب منها 71 مليارا لنهر النيل. كما أن موقف أديس أبابا مخادع، إذ إن لدى الإثيوبيين 13 سدا، وسد النهضة هو رقم 14، كما أنه سيتبع بمجموعة من السدود التي تخزن ما يقرب من 200 مليار متر مكعب، وهو أمر خطير؛ لذلك لا بد لمصر من أن توضح للعالم حقيقة الأمر، لكننا للأسف أصحاب قضية عادلة لكن محاميها ضعيف، مما أفشل القضية نفسها، حيث تركت الساحة الخارجية للإثيوبيين فقط، وكأننا كنا مغيبين، رغم الخسارة الكبيرة التي تعود على مصر بسبب سد النهضة، حيث إن حجز 74 مليار متر مكعب وراء هذا السد، على مدار ثلاث سنوات، من النيل الأزرق الذي لا يتجاوز إجمالي مياهه 48 مليار متر مكعب، سيعني نقص 25 مليار متر مكعب من حصة مصر خلال تلك الفترة، بما يتبعه تبوير خمسة ملايين فدان، وبعد ذلك يصبح هناك 12 مليار متر مكعب مخصومين من حصة مصر سنويا، بما يعني تبوير 2.5 مليون فدان على الأقل، أي أن نحو 30 في المائة من الأراضي الزراعية المصرية ستبور، وبالتالي تزداد الفجوة الغذائية وفجوة المياه، ومن ثم فإذا كان سد إثيوبيا يكلفها نحو تسعة مليارات دولار، فإنه سيسبب خسائر لمصر تصل إلى نحو 20 مليار دولار، لكن العالم لا يعرف هذه التفاصيل، وحجتنا غائبة عنه.
ويطالب نور الدين المسؤولين المصريين بتقديم شكوى للاتحاد الأفريقي أولا، ثم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لحشد الرأي العام العالمي، وعلينا رفع قضية أمام محكمة العدل الدولية؛ لأن اللجوء إلى التحكيم غير مجدٍ لتطلبه موافقة إثيوبيا أيضا، وهو ما لا يحدث.
وأكد دكتور نبيل نور الدين أن الوقت «ليس في صالحنا، لأن الجانب الإثيوبي رفض وقف بناء السد لحين التوافق عليه». لذلك ليس أمامنا إلا التحرك سريعا خلال ثلاثة إلى ستة أشهر مقبلة، قبل أن يبدأوا في حجز المياه أواخر هذا العام.
وردا على اتهام السياسة الخارجية المصرية بالضعف والتهاون في تعاملها مع ملف سد النهضة الإثيوبي، قال الدكتور محمد العرابي، وزير الخارجية المصري السابق، إن الخارجية المصرية لم تقصر، وإنما التقصير جاء من الدولة كلها؛ لأن التعامل مع هذه القضية كان يستلزم تشكيل لجنة عليا على غرار اللجنة الخاصة بقضية طابا المصرية، لكن للأسف جرى تسليم الملف لجهة فنية تمثلت في وزارة الري - مع احترامنا لها - لكنها لم تصل إلى نتيجة مرضية، وهو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، لكن ذلك لا يعني دق طبول الحرب، بل يتطلب الأمر ممارسة مصر للدبلوماسية الصارمة مع إثيوبيا، خاصة أن الأخيرة اتخذت موقفا هجوميا ضد مصر، بعد ثورة يناير، وتساقط أجهزتها السيادية في تلك الفترة. وأضاف الوزير العرابي أن إثيوبيا الآن تطبق بمهارة الدعوة إلى التفاوض على جولات بهدف كسب الوقت، وهو أمر معروف في الدبلوماسية، مشيرا إلى أن قضية سد إثيوبيا لن تموت خاصة مع إبراز المخاطر الجيولوجية، على كل الدول وليس مصر وإثيوبيا فقط، وعرض هذا الملف على المجتمع الدولي، وعندها سنصل إلى نتيجة هذا إلى جانب العمل بالتوازي مع بدائل أخرى، كتحلية المياه واستخدام المفاعلات النووية وغيرها من المشروعات البديلة.



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم