تعد حضارة الدولة الحثّية Hittites إحدى أكبر الحضارات التي شهدتها الألفية الثانية قبل الميلاد، وهي لا تقل أهمية عن بعض حضارات بلاد ما بين النهرين، التي امتدت بعدها بقرون، وعاصرت الدولة الآشورية والبابلية، بل ودخلت في صراعات معهما.
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن أهمية دولة الحثّيين تكمن في كونها كانت تملك مفتاح الاتصال بين شرق العالم القديم وغربه من خلال موقعها الجيو - استراتيجي المهم في هضبة الأناضول وشمال سوريا. كما تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن هذه الدولة رغم أنها لم تمتلك ثقافة موسعة أو حتى نهضة علمية مقارنة بالدول الكبرى في ذلك الوقت وعلى رأسها مصر، فإنها تمتعت بقوة عسكرية جبارة، وهي التي أدخلت الحديد واستبدلت به المعادن الأخرى في بعض المجالات وعلى رأسها صناعة الأدوات الحربية.
وفق المصادر المذكورة فإن بدايات هذه الدولة كانت في الألفية الثانية من الميلاد وأنها وصلت إلى أوج سلطتها خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد وكانت عاصمتها مدينة حاتوسا (أو حاتوسيل) وترجمتها «أرض حاتي». أما بالنسبة للأصول العرقية للحثّيين فما زال أمرها غير محسوم، وإن كان أغلب الظن أنها تأتت من هجرة قبائل من منطقة القوقاز في الشمال. ولكن المؤكد أن هذه القبائل استوطنت وسط هضبة الأناضول في فترة زمنية قبل القرن العشرين قبل الميلاد، ثم بدأت تجمّعاتها تفرض سطوتها على القبائل التي كانت تعيش في تلك المنطقة.
ولقد بنيت هذه الدولة القوية على أساس اقتصادي مرتبط بالزراعة والرّعي، وهما الحرفتان اللتان استمرتا معها حتى النهاية. كذلك لعبت التجارة دورًا مهمًا للغاية في ازدهار هذه الدولة القوية خاصّة لدى استغلالها موقعها الجغرافي المتميز، ونظرًا لأهمية هذه الأنشطة أصرّ ملوك هذه الدولة على وضع نظم تجارية وزراعية صارمة على رأسها ضبط الأسعار والتحكّم من خلال نظام مركزي يسيطر عليه الملك ورجاله أنفسهم، كما وضعت الدولة في فترة زمنية نظامًا يضمن استمرار الزراعة من خلال تطوير شبكات الرّي ووضع نظام حاسم للأجور للأنشطة المختلفة. أما بالنسبة لتوزيع الأراضي فقد اعتمدت الدولة على نظام إقطاعي بدائي مرتبط بشكل مباشر بقدرة الإقطاعي على توفير الجنود للملك، وفي حال فشله يصار إلى سحب إقطاعه منه ومنحه لآخرين.
من المؤكد أن هذه الحضارة تميّزت بنظام قانوني فعال للغاية في ذلك الوقت، وهو وإن لم يكن بالضرورة مثل المدوّنة القانونية للملك البابلي حمورابي الشهيرة بـ«شرعة حمورابي»، فإنه كان من أقوى الأنظمة في ذلك الوقت. ولقد صاغه الملك تيليبينو Telipinu، الذي استطاع من خلاله أن ينظم شؤون الدولة بشكل كبير والعلاقات بين أفرادها، وكان نظامًا يعتبر بمقاييس عصره متطورًا للغاية، بجانب أنه لم يكن عنيفًا مثل أنظمة أخرى في ذلك الوقت أو حتى قبله.
ومن ناحية أخرى، تميزت الدولة الحثّية بمنظومة دينية لم تختلف كثيرًا عن غيرها من الدول القديمة المعاصرة لها من حيث تعدّد الآلهة تحت قيادة كبير الآلهة وهو «إله العواصف». ولكن الملاحظ أيضًا أنها لم تكن منظومة متحجّرة، إذ استوعب الحثّيون الكثير من الآلهة مع مرور الوقت من الدول التي احتلوها أو تاجروا معها، وهو ما جعلهم من أكثر دول العالم القديم تأثرًا بالثقافات المختلفة التي حولها، فصناعة الثقافة يبدو أنها لم تكن من مميزات هذه الدولة بالشكل التقليدي لبعض الدول الأخرى المجاورة لها.
أيضًا، تشير المصادر التاريخية إلى أن الدولة الحثّية مرت بالكثير من الصعوبات قبيل القرن السادس عشر قبل الميلاد وبعده، إذ تعرضت لعدد من الغزوات من مناطق مختلفة أدت بعضها لسقوط العاصمة في أيدي المحتلين، غير أنها في كل مرة كانت تعود بقوة أكبر لتعيد السيطرة على عاصمتها وتبني دولتها من جديد، وكان أهمها على أيدي الملك شوبيلوليوما الأول - أو العظيم - Suppiluliuma I، الذي استطاع أن يعيد مجد الدولة الحثّية مرة أخرى بعدما سقطت العاصمة حاتوسا على أيدي محتلين غزوا أرض الدولة من ثلاثة اتجاهات متوازية، فلقد شنت دولة الميتاني Mitanni من الجنوب الشرقي هجومًا على أراضيها في نفس الوقت الذي شنت فيه دولة الأرزاوا هجومها من الشمال الغربي وهجمت القبائل الشمالية على شمال الدولة، وهو ما أدى إلى سقوط العاصمة على أيدي المحتلين وانحسار أراضي الدولة. ولكن الملك استطاع بشبه معجزة إدارية وعسكرية تنظيم جيوشه مرة أخرى واستطاع أن ينتزع العاصمة من أيدي المحتلين بفضل جيشه القوى الذي قام بتدريبه بكل جد وإدارة قوية. وبمجرد أن استتب الأمر له مرة أخرى عادت أطرافها إلى هذا الملك القوي الذي بدأ يتوسع تدريجيًا إلى أن شملت دولته أجزاء من لبنان حاليًا. ولقد عقد ذلك الملك الكبير سلسلة من التحالفات والاتفاقيات الدولية من أجل تثبيت قوة دولته وحماية حدوده، ولكن الضربة التالية لهذه الدولة جاءت جراء داء الطاعون الذي حصد أرواحًا كثيرة من بينها باني الدولة وملكها، فاضطربت الأحوال كثيرًا في ذلك الوقت، وبعد صراع على السلطة استطاع الملك مواتيللي، حفيد شوبيلوليوما الأول، أن يثبت أقدامه ويعيد لهذه الدولة قدراتها العسكرية والإدارية مرة أخرى.
ولعل أهم ما تميّزت الفترة التالية كان الصراع الذي نشب مع الدولة المصرية خاصة بعد تولي رمسيس الثاني حكم مصر في ذلك الوقت. فلقد بدأ الصراع بين القطبين الدوليين في ذلك الوقت، ودخلت مصر في حرب ضد الحثّيين فخاضت في معركة قادش الشهيرة في 1274 ق.م، قرب مدينة حمص السورية اليوم، التي انتهت بمعركة شرسة كاد رمسيس يهزم فيها قبل أن يحول الهزيمة إلى شبه نصر مقبول. ومعه وقعت مصر مع الحثّيين أشهر اتفاقية معروفة في التاريخ وهي «اتفاقية قادش» بعدها بسنوات أنهت الحرب بين القطبين. ولكن عوامل الضعف كانت قد بدأت تضرب الدولة الحثّية فلم تستطع الاستمرار كثيرًا وبدأت تسقط تدريجيًا إلى أن اضمحلت تمامًا وتناثرت إلى دويلات صغيرة أخرجتها من التاريخ الحقيقي لمنظومة القوى في منطقتها.
حقيقة الأمر أن تاريخ الدولة الحثّية يعكس الكثير من الحقائق الأساسية، على رأسها محدودية دورها الثقافي مقارنة ببأسها العسكري، ويضاف إلى ذلك سقوطها المتكرر الذي كانت تعقبه عودة إلى الساحة مرة أخرى، وهو ما يعكس نموذجًا متكرّرًا لما يبدو أنه ناموس سياسي لا يتغيّر مع التاريخ، وهو وجود ارتباط مباشر بين استمرارية الدولة من ناحية وبين حسن إدارتها سياستها الخارجية وقوة جيوشها. ذلك أن تكالب دول الجوار على أي دولة، مصحوبًا مع عجزها عن تأمين حدودها دبلوماسيا من خلال تفادي التحالفات ضدها وضعف هيكلها العسكري، دائمًا ما يكون نذيرًا لبداية النهاية.
تاريخ الحثّيين
تاريخ الحثّيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة