شهادات شخصية على مراحل التجربة الكردستانية

«أحداث عاصرتها» لمحسن دزيي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

شهادات شخصية على مراحل التجربة الكردستانية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

في الجزء الثالث والأخير من كتابه «أحداث عاصرتها»، يحرص القيادي السابق في الحزب الديمقراطي الكردستاني محسن دزيي، الذي رافق الزعيم الكردي الراحل ملا مصطفى بارزاني خلال ثوراته التحررية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة، على دقة تسجيل الأحداث أثناء الثورة الكردية والأوقات الصعبة التي مرت بها بعد اتفاقية الجزائر بين نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين والشاه محمد رضا بهلوي شاه إيران برعاية جزائرية عام 1975 التي أدت إلى القضاء عليها آنذاك. وكان الكاتب، بحكم موقعه المقرب من الزعيم بارزاني، شاهدا على هذه الأحداث التي شهدتها الحركة الكردية خلال الربع الأخير من القرن الماضي.
وقسم محسن دزيي، الذي كان سفيرا للعراق في تشيكوسلوفاكيا إبان اتفاقية 1970 بين الحكومة العراقية والكرد، الجزء الثالث من كتابه إلى ثلاثة أقسام رئيسية حسب الأحداث التي عاصرها، فبدأ القسم الأول من انتكاسة ثورة لحين وفاة الزعيم الكردي وقائد الثورة آنذاك مصطفى بارزاني، أي الأحداث التي وقعت من مارس (آذار) عام 1975 ولغاية مارس 1979. ويسرد فيها الكاتب الأحداث منذ بداية دخول الثوار الكرد بقياد الملا مصطفى بارزاني إلى إيران بعد انهيار الثورة، متناولاً أوضاع اللاجئين الكرد في مخيمات اللجوء في إيران.
وفي جزء آخر من القسم الأول يتحدث الكاتب عن البدء بالثورة الجديدة ضد النظام العراقي في كردستان عام 1976 التي سميت ثورة كولان، ودور الأخوين مسعود بارزاني وإدريس بارزاني في تهيئة الكوادر ومقاتلي البيشمركة للعودة إلى كردستان والتوجيهات اليومية التي كانوا يتسلمونها من ملا مصطفى بارزاني، الذي كان يمتلك خبرة واسعة وله معرفة دقيقة بجغرافية كردستان.
ويتطرق إلى مأساة مدينة حلبجة، التي قصفها نظام صدام حسين في 16 مارس من عام 1988 بالأسلحة الكيماوية المحظورة دوليا، وأسفر القصف عن مقتل أكثر من خمسة آلاف مواطن كردي من أهالي هذه المدينة خلال دقائق. ثم يشير إلى جريمة أخرى نفذها نظام صدام ضد الكرد، وهي عمليات الأنفال أو الإبادة الجماعية حيث أخلى النظام العراقي القرى الكردية من ساكنيها الذين جمعهم في بادئ الأمر في المجمعات القسرية ثم ساقهم إلى صحارى الجنوب العراقي القاحلة فدفنهم أحياء وبلغ عدد المؤنفلين زهاء مائتي ألف شخص ضمنهم عدد كبير من النساء والأطفال والصبيان.
وفي جزء آخر من القسم الثاني يتحدث الكاتب عن انتهاء الحرب الإيرانية العراقية، وملحمة خواكورك، الحدث التاريخي الشهير، حيث تمكنت قوات البيشمركة بقيادة مسعود بارزاني من ردع الجيش العراقي ومقاومته لمدة ستة أسابيع وإلحاق أضرار كبيرة به في منطقة خواكورك. ويشير الكاتب إلى عمليات الإبادة الجماعية التي نفذها نظام صدام حسين في منطقة بهدينان (المناطق التابعة لمحافظة دهوك)، التي راح ضحيتها الآلاف من الكرد، وكيفية هرب الكثير من سكان هذه المنطقة إلى تركيا وإيران.
ويتناول المؤلف، في مكان آخر، الأحداث التي أعقبت الغزو العراقي لدولة الكويت وتحشيد التحالف الدولي لقواته ضد نظام صدام والاتصالات الدولية مع القادة الكرد، وبدء العمليات العسكرية للتحالف الدولي والعربي ضد جيش صدام وانهياره بسرعة هائلة حيث استسلم مئات الآلاف من الجنود العراقيين لقوات التحالف وتحرير الكويت، فيما بدأت الانتفاضة في إقليم كردستان. واستطاعت قوات البيشمركة وبمساعدة الجماهير في الخامس من مارس 1991 من تحرير قضاء رانية من قوات صدام حسين والزحف باتجاه المدن الأخرى، ومن ثم تحرير مدينة كركوك، واندلاع الانتفاضة في مدن العراق الأخرى.
ومع بداية القسم الثالث والأخير من الكتاب، يتحدث الكاتب عن قضاء نظام صدام على انتفاضة الجنوب والتوجه إلى كردستان للقضاء على انتفاضتها، حيث استعادت قوات صدام السيطرة عليها وفتكت بالسكان العزل، ومن ثم زحفت هذه القوات باتجاه مدن كردستان الأخرى، وهروب المواطنين باتجاه الحدود مع إيران وتركيا وبدء الهجرة الجماعية، ثم وتصدي قوات البيشمركة لهذه القوات وهزيمتها الأمر الذي دفع بالنظام إلى أن يدعو إلى الحوار. ويذكر الكاتب أولى عملية انتخابية في إقليم كردستان عام 1992 بعد التخلص من أجهزة وقوات نظام صدام وتشكيل برلمان وحكومة الإقليم، ومن ثم الاقتتال الداخلي الذي شهده الإقليم ما بين الأعوام 1994 و1998 بين الحزبين الرئيسين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني والصلح النهائي بينهما من خلال اتفاقية واشنطن، والتحركات السياسية بين المعارضة العراقية في السنوات التي سبقت سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين وتعيين الولايات المتحدة للسفير زلماي خليل زادة سفيرا للتنسيق مع المعارضة العراقية، وحضوره في الاجتماعات الأخيرة للمعارضة التي كانت تعقد في مصيف صلاح الدين، وبدء عملية تحرير العراق عام 2003 وسقوط نظام صدام. أما الصفحات الأخيرة من الكتاب، فخصصها الكاتب لنشر مجموعة من الصور التي تروي الأحداث التي عاصرها خلال تلك المدة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!