أثار الحكم القاسي الذي أصدرته محكمة إيرانية بحق الشاعرة فاطمة اختصاري والشاعر مهدي موسوي صدمة وغضبا كبيرين في الأوساط الثقافية الإيرانية، فكتب أكثر من 300 مثقف رسالة إلى خامنئي يناشدون فيها إلغاء الحكم، لكنهم لم يتسلموا منه أي جواب. وعلى المستوى العالمي، كتب 16 شاعرا أميركيا، ومنهم الشاعر الشهير جون اشبري، رسالة أيضًا إلى خامنئي، داعين إياه لإلغاء هذا الحكم.
هل إقامة ندوة حول إصلاح الوزن والقافية في الشعر الفارسي تعد خرقا لـ«القيم الإسلامية» وتهديدا لقيم دولة إيران الإسلامية؟
تلك هي رؤية المحكمة الإسلامية في طهران التي أصدرت مؤخرا حكما بسجن شاعرين لأحد عشر عاما، والضرب بالعصا 99 مرة على مرأى من الناس.
أحد المحكومين فاطمة اختصاري التي حكم عليها بالسجن أحد عشر عاما ونصف بتهمة «تقويض أمن البلاد» بكتابة وقراءة عدد من «القصائد المليئة بالغموض التي يمكن فهمها بعدة طرق والتي تشكل خطرا كبيرا».
والشاعرة اختصاري شاعرة سيريالية ولها قصائد يمكن، أو بالفعل تعمدت، أن تقرأ بعدة طرق. فعلى سبيل المثال، صدر أحد دواوينها تحت اسم: «البكاء على أكتاف البيضة»، بينما حمل ديوان آخر عنوان: «خطاب نسائي قبل خبز البطاطس».
وتعد المساواة بين الجنسين موضوعا قويا عند اختصاري التي تصر على أنه منذ خلق الله الرجال والنساء ليس هناك سبب لأن تمنع النساء من الاستمتاع بالحرية المتاحة للرجال.
غير أن المدعي العام الإسلامي في طهران أصر على أن المقصود من «قصائد اختصاري المبهمة» هو «تمرير رسائل سياسية خطيرة». وحسب المدعى العام؛ «فهي تكتب شيئا بينما تقصد شيئا آخر».
بيد أن المضحك في كل هذا أن اختصاري ليست شاعرة سياسية من الأساس. وفي الواقع، كتبت الشاعرة أن أولئك الذين يحاولون توظيف الشعر لصالح أفكار سياسية يرتكبون خيانة في حق الاثنين.
وبصفتها محررة للمجلة الأدبية الشهرية «غد واحد فقط»، فتحت اختصاري المجال لكتاب وشعراء من كل أطياف الفكر بمن فيهم بعض الخمينيين. غير أنها بصفتها شاعرة، لا تستطيع تجنب التفاعل مع البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة داخل إيران، فليس بمقدورها أن تدير وجهها للاتجاه الآخر بعد أن رأت قبحا أو قمعا أو رعبا، وكلها أفكار قد تشق طريقها بالقوة إلى بعض قصائدها.
تعد اختصاري كذلك باحثة نظرية في الأنماط الشعرية؛ إذ إن مجموعة مقالاتها التي صدرت تحت عنوان: «خدع لغوية في القصائد الحديثة» مثيرة للاهتمام وذات اتجاه تثقيفي.
أما زميلها الشاعر مهدي موسوي فقد حكم عليه بالسجن لست سنوات، ويعد موسوي مؤسسا ومشرفا على ملتقى شعري في طهران كثيرا ما تحدثت فيه اختصاري وألقت فيه قصائدها. والملتقى الشعري مخصص لتطوير نمط شعري جديد أطلق موسوي عليه اسم: «غزل ما بعد عصر الحداثة».
يدور ذلك الجدل الشعري الجديد حول فكرة أنه بعد تجربة الأنماط الشعرية ومنها الشكل الأوروبي في الشعر والنثر على مدار قرن من الزمان، فالشعر الفارسي في حاجة للعودة إلى الأنماط التقليدية مع إضافة تغيرات جوهرية كي يعكس الواقع الحديث.
ويرفض موسوي جدل الأجيال القديمة من الشعراء القدامى مثل أحمد شامولو الذي ادعى أن الغزل التقليدي مدين بالفضل لموسيقى أوزانه وقوافيه التي لا تستطيع استبدال أي معنى بشكل قوي.
وحسب موسوي، بمجرد أن يتعلم الشاعر الفارسي اللعب بالقواعد التقليدية، فبمقدوره استحداث عدد لا نهائي من القوافي والأوزان التي يستطيع من خلالها التعبير عن أي عاطفة.
بيد أن المحكمة الإسلامية اتهمت موسوي بابتداع «صور غير أخلاقية» في شعره، وعليه، فقد «ازدرى القيم السامية للمجتمع المؤمن».
وأصدرت المحكمة الإسلامية أيضًا حكما لا يقل قسوة بفرض حظر على نشر أي مطبوعات أو ترديد أي قصائد لاختصاري أو موسوي. وبمرسوم قضائي صدر عن وزارة التوجيه الإسلامي عام 2003، «يجرد المحكوم عليهم في تلك القضايا من حق المواطنة»، ويحظر نشر أسمائهم أو صورهم.
وكان اختصاري وموسوي قد قضيا عدة أشهر في السجن منذ عامين، إلا أنه أطلق صراحهما في النهاية بعدما فشل المدعي العام في إثبات اقترافهما جريمة سياسية، ولهذا السبب ركز المدعى هذه المرة على الادعاء بأن الشاعرين قد «خرقا معتقدات إيمانية مقدسة». جاءت مهمة إصدار الحكم أسهل هذه المرة بفضل محاضرة ألقاها المرشد الأعلى آية الله على خامنئي مؤخرا وضع فيها الشروط الواجب توافرها في «الشعراء المسلمين الجيدين».
وحسب مقولة للشاعر المنفي يد الله رؤيائى، فبمقدور الإنسان كتابه إعلان أو بلاغ للشرطة تنفيذا للأوامر، لكن الشعر ليس كذلك.
وأضاف رؤيائى: «حتى الشاعر لا يمكنه أن يأمر نفسه كي يكتب الشعر.. فالشاعر مثل الشجرة تتساقط أوراقها وأزهارها كي تترك مجالا لأوراق وأزهار جديدة».
إيران إحدى الدول القليلة في العالم التي ينظر فيها للشعر على أنه أسمى أشكال الإبداع الأدبي، ففي المدن الإيرانية ترى أغلب شوارع المدينة ومتنزهاتها وقد سميت بأسماء الشعراء أكثر مما سميت بأسماء الفاتحين أو بناة الإمبراطوريات. وإن وجدت في البيت كتابا واحدا فسوف يكون ديوانا يحوي مجموعة قصائد.
بيد أنه بعد استيلاء الملالي على الحكم عام 1979، مرت إيران بإحدى أخطر مراحلها عبر تاريخها الطويل بالنسبة للشعراء والمثقفين بصفة عامة.
المفارقة هي أن كلا من مؤسس النظام، الراحل آية الله روح الله الخميني، وخليفته مرشدا أعلى آية الله علي خامنئي، اعتبرا نفسيهما شاعرين كبيرين. لكن الخميني امتنع عن نشر دواوينه نظرا لاعتقاده أن ظهوره شاعرا قد يقلل من هيبته قائدا للثورة التي تستطيع إعدام 4 آلاف شخص خلال عطلة نهاية الأسبوع. وبعد موته طُبعت المئات من قصائده الغزلية ذات البنية التقليدية (الأربعة عشر بيتا) بواسطة المؤسسة التي تحمل اسمه. ولا ينشر خامنئي قصائده، لكنه ينظم جلسات خاصة يحضرها بضعة عشرات من «المقربين» مرة أو مرتين في العام.
أودع اختصاري وموسوي السجن ولم يقتلا، في حين أن غيرهما لم يحالفهم هذا الحظ، وشُنق هاشم شعباني عشية زيارة الرئيس روحاني للأهواز عام 2014.
لم يكن شعباني أول شاعر إيراني يقتله الملالي؛ إذ إن الشاعر اليساري سعيد سلطانبور تعرض للاختطاف يوم زفافه بأمر من الخميني نفسه وقتل رميا بالرصاص في أحد سجون طهران. والشاعر رحمن هاتفي، الذي كان يكتب تحت اسم حيدر مرجان، قطعت شرايينه وترك ينزف حتى الموت في سجن إيفين. وفى عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني رُسمت خطة لقتل عدد من الشعراء الإيرانيين يملأون حافلة أثناء توجههم لحضور مهرجان، إلا أن الخطة فشلت في الدقيقة الأخيرة. ورغم ذلك، فإن رفسنجاني نجح في القضاء على أكثر من عشرة كتاب وشعراء. وكانت أكبر عملية اغتيال جماعية في عهد الرئيس خاتمي عندما قام عملاء للحكومة باغتيال أكثر من 80 مثقفا منهم الشاعران محمد مختاري، ومحمد جعفر بوياندا.
إيران.. حيث الشعر الحديث جريمة في حق الوطن
المحكمة الإسلامية تصدر حكمًا بسجن شاعرة وشاعر بسبب قصائدهما «المليئة بالغموض»
إيران.. حيث الشعر الحديث جريمة في حق الوطن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة