الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون
TT

الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون

مع صعود الحركات الأصولية، بتنوعاتها واتجاهاتها المختلفة، صعدت مسألتها في الفكر العربي المعاصر ومشاريعه التجديدية، كأولوية تتقدم حتى على التأسيس للنهضة أو التمكين لها، كون الأصولية تمثل إعاقة عميقة للنهضة والحداثة أولا، ليس فقط على مستوى الحقوق الإنسانية (حقوق المرأة وحقوق الأقليات) بل على مستوى المؤسسات في إصرار بعض اتجاهاتها العنيفة على الانقلاب وابتلاع الدولة، وهو ما لم يشفها منه انتكاساتها ولا متتابعة غلوائها وقتالها بعضها بعضا، ولا ثورات ما عرف بالربيع العربي الذي انتهى خريفا!
نشط الكثير من مفكرينا في قراءة الأصوليات، بدءا من ناصيف نصار الذي سطر فيها كتابه «من التفكير إلى الهجرة: نحو سبيل لنهضة عربية ثانية» وكتب فهمي جدعان عددا من الدراسات والكتب في هذا الاتجاه، وقد انفرد باهتمام خاص بالسلفية وتحديد ملامحها وهويتها، كما درسها علي أومليل في «الإصلاحية والدولة الوطنية» ووضع الراحل عابد الجابري كتابا لدراستها، وأكثر من الاهتمام بها بالخصوص رضوان السيد في «الصراع على الإسلام» وقبله في «سياسات الإسلام» عادل ضاهر في «أولية العقل» وأصدر عبد الجواد يس مؤخرا الجزء الأول من كتابه «الدين والتدين» واهتم بها نقديا عبد الحميد الأنصاري والراحل أحمد البغدادي في الخليج، وغيرهم كثيرون.
لنا ملاحظتان على تعاطي الفكر العربي المعاصر في تقييمه لدراسات الحركات الإسلامية في العالم، تعيق تأثير الحداثة الفكرية وقيمها وتبقيها فوقية غير ملتحمة ميدانيا مع طرح التطرف، وإن كان المثقفون لا يتحملون مسؤولية ذلك وحدهم ولكن السياسات الثقافية والإعلامية في المقام الأول، وإلى الملاحظتين:
1 - اهتمامه بالنقد البراني دون الجواني لخطاب هذه الحركات في الغالب، وأنه لم يلتحم بغير خطاب الإخوان والقطبية في الأغلب الأعم، دون التحام نقدي حقيقي بالحركات العنفية والجهادية بالخصوص، بدءا من الجماعات الجهادية القطرية وصولا لـ«القاعدة» و«داعش».
2 - غلبة النقد غير المباشر عبر الاهتمام بالآيديولوجيا ونقدها، أو الاهتمام بالتراث الكلامي والفلسفي دون الفقهي - ربما باستثناء رضوان السيد وفهمي جدعان - مما جعل المنازلة الفكرية نظرية وغير ملتحمة بنقد هذه الحركات الحديثة نسبيا.
خصص المفكر الكبير الراحل محمد أركون (1 فبراير/ شباط 1928 - 13 سبتمبر/ أيلول 2010) جزءا من كتابه «أين الفكر الإسلامي المعاصر» الصادر أوائل التسعينات لمناقشة دراسات الحركات الإسلامية، وقد ظلت الملاحظتان، وإن ألح على ضرورة تفكيك البنى الخطابية لهذه التيارات والالتحام بها نقديا وقراءة ظاهرة الأصولية أفقيا في ضوء التاريخ الأصولي العالمي، ورأسيا في تكرار ظواهرها وتمثلاتها في التاريخ الإسلامي.
ونتفق مع أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية، دون هذا الالتحام النقدي والفكري، حيث يصنع ما يسميه «الامتثالية الثقافية» بمعنى عدم مناقشة مقولاتها وأفكارها والاكتفاء بأخبارها، استخدام طريقة الصحافي الوصفية والسردية والإخبارية دون طريقة الفقيه والناقد البنيوي.
ويضرب أركون مثالا على ذلك بكتاب جيل كيبل «انتقام الله» وأنه ترجم لتسع عشرة لغة أوروبية، منذ صدوره في سبتمبر 1991 ونال اهتماما إعلاميا كبيرا رغم أنه لا يحمل أي جديد إعلامي كما يشير أركون.
يمكننا اختزال مشكلة دراسة الحركات الإسلامية الحالية في اهتمامها بالأخبار لا بالأفكار، وبالتنظيمات أكثر من التنظيرات، وبالممارسات أكثر من الأسس النظرية لها، ورغم غزارة ما كتب عن قادة هذه التنظيمات بدءا من جماعات الجهاد القطري لـ«القاعدة» وزعيمها الراحل وصولا لـ«داعش» وخليفتها المزعوم لا نجد مثل هذا الاهتمام بأدبياتها ومطوياتها ورسائلها المطبوعة والمنشورة ونقدها النظري والشرعي، الذي كثيرا ما يأتي من خارجها منفصلا عنها وغير محاجج لها.
يرى أركون أن ما واجهته الحداثة العربية التي بزغت في أخريات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، تشبه تلك التي حدثت في أوروبا المسيحية أثناء عصر التنوير، وقد تعاطى الإسلام مع الحداثة كما تعاطت الحداثة عبر طريقين: إما أسلمة المعايير والقيم الحداثية أو الصراع الحاد معها، ولكن هذا الصراع الحاد كان أقوى في الإسلام لعدد من العوامل يحددها أركون فيما يلي:
1 - العامل السكاني والديموغرافي: فقد تضاعف عدد المسلمين خلال خمسة وثلاثين عاما بنسبة بين 60 في المائة إلى 70 في المائة، وخلال ثلاثين عاما بعد الاستقلال منتصف القرن المنصرم كانت الزيادة السكانية بنسبة ثلاثة أضعاف أو حتى أربعة أضعاف! فعدد سكان المغرب مثلاً أو الجزائر لم يكن يتجاوز الستة أو سبعة ملايين عام 1950 فأصبح الآن أكثر من ثلاثين مليونا، وأما مصر فقد أصبحت سبعين مليونا أوائل التسعينيات. ولم تكن الدول ولا الاقتصادات ولا المجتمعات مهيأة لاستقبال هذه الأجيال الغزيرة من الشبيبة المتحمسة.
2 - الحداثة الأوروبية قرون وحداثة المسلمين عقود: يرى أركون أنه مما زاد من أزمة النهضة العربية الحديثة أنه بينما نضجت الحداثة الغربية عبر ثلاثة أو أربعة قرون، قد توترت الحداثة الإسلامية والعربية في عقود قليلة، أربعة أو خمسة، منذ توترت فيها علاقتها مع الغرب الذي رأته حديثا كما رأته مستعمرا وكذلك مع الذات بعد أن انقطعت تاريخيا عن الإسلام الكلاسيكي بين القرنين الأول والسادس الهجري، ويرى أركون أن هذه النقطة تمثل «إحدى أكبر نقاط الضعف الخاصة بكل الأدبيات الصحافية والسياسية بل وحتى السوسيولوجية المرتكزة على الحركات الإسلامية الحالية».
3 - افتقاد الجهاز الفكري للحداثة: يشير أركون أن الفكر الإسلامي المعاصر يفتقد الجهاز الفكري والمصادر والإمكانات الثقافية والعلمية للحداثة، بينما شجعت عليها الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الفاتحة وفلسفة حقوق الإنسان في الغرب.
ويرى أركون أن هذا أنتج عربيا صرخات انفعال وعنفا هائجا ورفضا مسعورا لخطاب الإسلاموية المعاصرة، ولكن دون خطاب نقدي وجذري قادر على إزاحتها، لبعثرة ممثليه الحقيقيين وفقدانه الأطر والقواعد الاجتماعية القادرة على التعبئة التي يمتلكها الإسلاميون.
4 - ترييف المدن وتحويل الفلاحين لبروليتاريا: يرى أركون أن تحويل الفلاحين والبدو إلى بروليتاريا رثة في المدن التي تعشعش فيها الفوضى وازدحام السكان، ثم الطلاق الكائن بين الدولة والمجتمع المدني والهيمنة الشمولية للحزب الواحد تشكل علامات على حصول وتفاعلات غير مسيطر عليها.
من النقاط المهمة كذلك التي يلح عليها الراحل محمد أركون هو وجود متخيل ديني مشترك بين مختلف الحركات الأصولية، اليهودية والمسيحية والإسلامية على السواء، مجتمعات الكتاب كما يسميها، وأنه ليس الإسلام حالة خاصة في ذلك، إلا بالمعنى السوسيولوجي والثقافي والاقتصادي ليس غير.
يستخدم أركون في مقاربته المنهجية التي لم تستمر لدراسة الحركات الإسلامية عددا من المفاهيم التي تفيد البحث الراهن في هذا المجال، ويمكننا أن نشير لثلاثة منها:
1 - مفهوم «المتخيل»: وهو المفهوم القادم من حقل الأنثروبولوجي أحد المفاهيم المهمة التي يستخدمها أركون وينتقد عدم استخدام الاستشراق الأنثروبولوجي المعاصر له، فالإنسان لا تسيره فقط الحوافز المادية والاجتماعية والاقتصادية ولكن تسيره أيضا الصور الخيالية واليوتوبيات التي يؤمن بها وباستعادتها.
2 - مفهوم الدين والتدين أو التأسيس والآيديولوجيات الفرعية: حسب مصطلحات فوكو، عبر تفريقه بين مستوى القرآن ومستوى التركيبات الكلامية والفقهية والتفسيرية التأويلية له، فينزع عنها احتكار المقدس، وهو ما كثر استخدامه بتعبيرات مختلفة من عدد من الباحثين والمفكرين العرب الآخرين، ويدعو في ذلك للاستفادة من مخرجات تاريخ الأديان المقارن وتاريخ الأصوليات المقارنة.
3 - مفهوم مجتمعات أم الكتاب: حيث يرى أركون أن هناك متخيلا مشتركا لكل المجتمعات المشكلة من تراث الكتب السماوية أو الكتاب الموحى، فالتوراة والأناجيل والقرآن كتب كونية أدخلت رؤيا ما عن التـأله وعن مكانة الإنسان وعلاقته بإله حي متعال، وعممتها وحملتها ثقافات كبرى، بلورتها تدينا وقوانين فقهية مثلت فيما بعد «قاعدة ارتكازية من أجل التوسع الآيديولوجي للحق، وبالتالي من أجل تشكل وانتشار المتخيلات الاجتماعية ضمن خط الأصولية والتزمت».
حيث تحول الأصولية ويستهدف خطابها تحويل الخطاب الديني المفتوح، والمتعدد الدلالات والاتجاهات، إلى أصل لكل قانون صحيح يوجه البشر في دنياهم وأخراهم، وينزع ممثلوها نحو التمامية أي المحافظة على نزاهة الوحي وشموليته وبلوغهم درجة التطابق معه أو مع ما يتصورونه هو. ومن الرؤى التفسيرية التي يطرحها أركون أن العلمانية الديكتاتورية تنتج مع الوقت أصوليات منغلقة، ومثل لذلك بأربعة نماذج، هي نموذج الدولة والآيديولوجية الناصرية (1954 - 1970) ونموذج الدولة وآيديولوجيا جبهة التحرير الوطني (1962 - 1991) ونموذج الدولة والآيديولوجيا البعثية في العراق وسوريا (1968 - 1991) ونموذج الثورة الخمينية على نظام الشاه سنة 1979.
ويشير أركون: «إن فرحة الظفر باستعادة السيادة والاستقلال السياسي والآمال التي علقها البشر على (الدولة - الوطن - الحزب الواحد) قد فعلت فعلها في الجماهير بواسطة الموضوعاتية الإسلامية والشعارات الإسلامية، بعد الفشل الكبير الذي حدث في نكسة 1967». ويضيف عن الحالة الخومينية أن الإيرانيين قد وجدوا في سيرة النبي والأئمة وما حملته الشعاراتية الخومينية سبيلا لحقوق الإنسان وتحقيق آمالهم بعيدا عن الدولة التي أهملتهم وفشلت في تحقيق وعودها لهم.
ويربط أركون بين التصورات التاريخية المثالية المشتركة بين القوميين الذين حكموا في فترات ما بعد الاستقلال والحركات الأصولية التي صعدت وتسعى للحكم على أنقاضهم! فكلاهما يمتلك رؤيا متزمتة تفترض في مجال الثقافات والحضارات وجود استمرارية تاريخية تمجدها وتنفي أي نقص عنها، دون تمحيص علمي للوقائع التي تكذب هذه الصورة المتخيلة للماضي المراد إسقاطه على الواقع، وهو ما يمثل الرأسمال الرمزي لهذه الحركات التي تستثمر فيه وتوظفه، حسب تعبير أركون الذي اقتبسه عن بيير بورديو.
ونحت أركون مصطلح الحركات التمامية للتعبير عن طموح الأصوليات الدينية للتوصل إلى إسلام العصر التأسيسي (610 - 632-661 ميلادية) بتماميته وكليته، وقد أجاد مترجمه الأستاذ هاشم صالح نحت هذا المصطلح تعبيرا عن ذلك، وهو تعبير مناسب جدا لبعض الحركات الأصولية غير السياسية التي تحاول التمام عبر سلوكيات وشكليات في تفاصيل حياتها من مأكل وملبس تتماهى فيها مع المثال التاريخي بالخصوص.
طور «داعش» وجهود الفكر العربي:
بعيدا عما ألح عليه أركون من ضرورة الالتحام النقدي والفكري مع الظاهرة الأصولية العربية، واختلافنا معه أن كثيرا منها جاء مع تناقض الاستعمار والحداثة في الوعي العربي، حيث نراها منتجا انفعاليا لسقوط ما يسمى «الخلافة» سنة 1924 وتراجع الحضور العربي والإسلامي واستنفارها الهوياتي ثم الحركي في مواجهة أخطار سياسية ودينية - تبشير وما شابه - مصبوغا بحلم وحدوي قديم وجديد وراهن رأوا في الخلافة وسيطا محتملا لتحققه.. إلا أننا نرى أن ما طرحه أركون وما طرحه غيره من المفكرين سواء القادمين من خلفية كلامية أو فقهية في غاية الأهمية في القراءة المعاصرة لحركات العنف الديني والسلفية الجهادية لخطورة ما تطرحه وما تستند إليه من مقولات تراثية، فهي سلفية المصدر جهادية المنهج، وليست كلامية أشعرية كما كانت حركات الإسلام السياسي، مما يستعيد وبقوة أهمية التراث وقراءته في الالتحام معها، بعيدا عن الترويج التسطيحي والسجالي معها فقط.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.