ما أُنشِئت يومًا ما كمدرسة متواضعة بواسطة أحد الرجال المؤثرين لدى الحاشية الملكية والقائد العسكري لدى الإمبراطور المغولي أورنكزيب في عام 1696، صارت اليوم كلية ذاكر حسين، التي تعد واحدة من أقدم المؤسسات التعليمية في الهند الحديثة، وما زالت تحظى بمكانة عالية بين الطلاب.
وتمثل كلية ذاكر حسين رمزًا من رموز العاصمة الهندية نيودلهي، لأنها تحمل في ذاتها تاريخًا يمتد لأكثر من 300 سنة كمؤسسة تعليمية. وتتميز بأنها كانت موجودة حتى قبل تأسيس جامعة دلهي.
تتبع كلية ذاكر حسين جامعة دلهي. وتُدرِّس البكالوريوس والدراسات العليا في الآداب، والتجارة، والعلوم. ولديها تأثير ملحوظ على التعليم الحديث، بالإضافة إلى تعليم اللغة الأردية والتعليم الإسلامي في الهند. وهي الكلية الوحيدة في جامعة دلهي التي تمنح درجة البكالوريوس (مع مرتبة الشرف) باللغتين العربية والفارسية.
واستوعبت الكلية عبر تاريخها الطويل الطلاب والأساتذة من مختلف الطوائف. وساعدت في تطوير ثقافة التفاهم واحترام الاختلاف في الطائفة والعقيدة والدين بشكل تدريجي.
* النشأة والتاريخ
منذ تأسيسها بواسطة الجنرال العسكري المغولي غازي الدين خان فيروز جنغ الأول، كانت الكلية تُدعى «مدرسة غازي الدين خان». وكان المجمع - الذي يحوي قبره ومسجدًا والمدرسة – مفتوحًا للزيارة، والآن يمكن زيارته خارج بوابة «أجميري»، أحد المداخل المؤدية إلى عاصمة المغول «شهاناباد»، المعروفة حاليًا باسم دلهي القديمة أو المدينة المُسوَّرة. وعندما بدأت الإمبراطورية المغولية في التفكك، أُغلِقت المدرسة الدينية في أوائل سبعينات القرن الثامن عشر. وبدعم طبقة النبلاء، تم إنشاء كلية شرقية لدراسة الأدب والعلوم والفن في الموقع نفسه في عام 1792، حيث كانت اللغات التعليمية بها هي الفارسية أو العربية أو السنسكريتية.
وفي وقت لاحق، أعلنت بريطانيا تحويل المؤسسة إلى مركز للتعليم العالي في البلاد، وأعادت تسميتها إلى «كلية دلهي». وخضعت الكلية لبعض التعديلات لتصبح كلية «أنجلو أرابيك» بواسطة شركة الهند الشرقية البريطانية في عام 1828 لتُدرِّس - بالإضافة إلى أهدافها الرئيسية - اللغة الإنجليزية والأدب، لتصبح كلية «أنجلو أرابيك» (إنجليزية عربية) بهدف معلن وهو «النهوض بالأشخاص غير المتعلمين ونصف المتمدنين في الهند». ويوجد على كتلة الرخام بمجمع الكليات القديم كتابات تفيد بأن السيد فضل علي خان بهادور سحاب جونغ قدَّم 170 ألف روبية هندية لإعادة إنشاء هذه المؤسسة وخضوعها لرعاية شركة الهند الشرقية البريطانية في عام 1829.
وكان وراء هذه الخطوة تشارلز تريفيليان، شقيق زوجة توماس بابنغدون ماكولي، وهو ماكولي سيء السمعة نفسه الذي قال إن «رفًا من رفوف مكتبة أوروبية جيدة يساوي كل الأدب الأصلي للهند وشبه الجزيرة العربية».
وخلال ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، كانت الكلية في قمة مجدها، وكانت تعتبر مركز «النهضة» الآسيوية، حيث لم يقتصر طلابها على الهنود فقط، بل بعض الإنجليز أيضًا. وبعد فترة وجيزة، اكتسبت اللغة الأردية أو الهندوستانية أهمية، وأصبحت الوسط التعليمي الرئيسي ليس فقد لدراسة العلوم الشرقية والأدب، وإنما أيضًا لدراسة علم الفلك والرياضيات التي تقوم على المبادئ الأوروبية.
ونظرًا لاحتوائها على مجموعة متميزة من المعلمين والتربويين وعلماء الرياضيات والمؤرخين وأساتذة الأدب، أصبحت الكلية مركزًا للازدهار العلمي والأدبي، الذي يمكن وصفه بـ«نهضة دلهي»، والمتمثل في تأسيس مجتمع «فيرناكيولار» في عام 1832. وأسست هذه المجموعة المتميزة الكثير من المدارس، وكتبت مؤلفات وكتب مدرسية، وترجمت الأعمال الأدبية إلى اللغة الأردية، وأعدت المجلات للطبع.
وتولت بعض شخصياتها البارزة في ذلك الوقت - مثل السيد بياري لال، وإمام بكش صوهباي، ولالا دارام نارين وشقيقه بريم نارين، ومولانا زكاء الله، والسيد تايلور، والسيد بطرس – مهمة ترجمة الأطروحات العلمية والأعمال اليونانية الكلاسيكية والفارسية إلى الأردية. ورغم تأسيسها وتمويلها بمساعدة المسلمين إلى حد كبير، كانت الكلية تضم 299 هندوسيًا، و146 مسلمًا، و15 مسيحيًا في عام 1845، مما يبين أنها استجابت لاحتياجات المدينة ككل في ذلك الحين.
ولا تتشابه كلية ذاكر حسين – معقل ثقافة دلهي القديمة – مع أي كلية أخرى في دلهي، لأنها شهدت التاريخ وهو يتشكل. وفي وقتنا الحاضر، تعد الكلية مؤسستين منفصلتين في حد ذاتها: باعتبارها كلية ذاكر حسين التي انضمت لجامعة دلهي في عام 1975، وأيضًا باعتبارها مدرسة ثانوية عليا «أنجلو أرابيك» حكومية توفر التعليم حاليًا لأبناء المدينة المسورة في دلهي.
ومع ذلك، أغلق البريطانيون الكلية لما يقرب من 50 عامًا. ففي عام 1857، خلال ثورة الهند الأولى ضد البريطانيين، كانت الكلية مركز المقاومة ضد البريطانيين، الذين حوّلوا المبنى إلى قسم شرطة لبعض الوقت.
وبدافع الشك في ولاء المعلمين والطلاب، أغلق البريطانيون الكلية لمدة سبع سنوات. وتعرضت مكتبة الكلية للنهب. كما تعرضت اللوحات المغولية التي لا تقدر بثمن، والمخطوطات وفنون الخط العربي والفارسي والأردو، إما للحرق أو للبيع.
وبين عامي 1862 و1871، بدأت الفصول المتوسطة والبكالوريوس والماجستير في الكلية، لكن قررت الحكومة الإمبراطورية حينها إغلاق المؤسسة بالكامل، مع نقل موظفيها ومكتبتها إلى مدينة لاهور، التي تقع في باكستان حاليًا، رغم الاحتجاجات الصاخبة من المواطنين في دلهي.
وفي عام 1924، بعد ما يقرب من 50 عامًا، أُعِيد تشغيل الكلية، مع ضمها لجامعة دلهي في عام 1925. كما أُعِيد تسميتها في عام 1975 إلى كلية ذاكر حسين، على اسم الدكتور ذاكر حسين، المعلم المميز ورئيس الهند. وانتقلت الكلية لاحقًا في عام 1986 إلى مقرها الحالي خارج بوابة «تركمان»، وهو الهيكل القديم نفسه في مجمع مدرسة غازي الدين، الذي ما زال يضم بيوت شباب تابعة للكلية.
وصنفت هيئة المسح الأثري للهند المبنى بأنه معلم أثري في عام 2002. وفي عام 2008، تم إعداد أرشيف منفصل عن تاريخ الكلية ووُضِع في مكتبتها، بجانب كتب ووثائق أخرى عمرها قرون ترصد تاريخ الكلية ذا الـ300 عام.
* نموذج عظيم للعمارة المغولية
يقدم المبنى نموذجًا رائعًا للعمارة المغولية التي لم تصب بأي ضرر، وتقع أعين الناظر على قدسية العمارة الحقيقية لهذا المعلم التذكاري بمجرد دخوله المبنى، الذي يعود به إلى قرون مضت، لأن المبنى يبدو وكأنه حصن من العصور الوسطى.
ومع ذلك، تم نقل كلية ذاكر حسين، وتعمل هذه المؤسسة القديمة التي يبلغ عمرها 320 عامًا كمدرسة «أنجلو أرابيك» ثانوية عليا، واستخدمت أيضًا لتصوير الأفلام، مثل فيلم «غاندي» للمخرج ريتشارد أتينبورو، وفيلم الإثارة السياسي «الأصولي المتردد» للمخرجة ميرا ناير.
ويضم المبنى باحة واسعة من الشقق مقوسة الشكل، مع وجود بوابة ناحية الشرق، ومسجد ذي ثلاث قباب ناحية الغرب. كما أن المسجد مطوق بجدران حجرية مثقبة من ناحيتي الشمال والجنوب. ويوجد قباب مع أبراج ثمانية الأضلاع في خلفية صالات الاستقبال الرائعة ونقوش تعطي صورة جمالية للمحيط بأكمله. وفي الداخل، يوجد ممرات كانت تُستخدم كعنابر نوم لطلاب المدرسة في الماضي. وفي وسط المجمع، يوجد حديقة بها عشب أخضر جميل.
وقال بانكاج فوهرا، أحد طلاب المؤسسة الذي يحن لأيام الدراسة فيها، ومحرر مشارك في صحيفة «هندوستان تايمز»: «تطور هذا الهيكل المعماري الحجري المهيب في مدينة كوتا إلى مركز للعلمانية وأيضًا الدراسة الدينية». وتطرق الكاتب بيرسيفال سبير في كتابه «دلهي، ومعالمها، وتاريخها» إلى أن «خريطة الكلية هي نموذج للكليات الأخرى في الهند، بمسجدها وفنائها الجميل». وعلى الرغم من أن سبير كتب هذه الكلمات في عام 1943، عندما صدرت الطبعة الأولى من الكتاب، فإنها لا تزال تمثل واقعًا في الهند.
* الخريجون
يترأس رئيس وزراء الهند إدارة مجمع ذاكر حسين، التي ترعى شؤون الكلية. وخرّجت الكلية عددًا من الشخصيات المتميزة - مثل السيد أحمد خان، مؤسس جامعة «عليكرة» الإسلامية، ولياقت علي خان، أول رئيس وزراء باكستاني. ومن بين عظماء جامعة دلهي: بيشما ساني، البروفسور في قسم اللغة الإنجليزية، والأديب والكاتب المسرحي المشهور.
* الدراسة
تقدم كلية ذاكر حسين بجامعة دلهي مجموعة واسعة للغاية من المقررات الدراسية للطلاب. وتقدم مقررات في الآداب والتجارة والعلوم لطلاب البكالوريوس والدراسات العليا. كما أن لديها تأثيرًا كبيرًا على التعليم الحديث، بالإضافة إلى التعليم الأردو والإسلامي في الهند، وتظل حاليًا الكلية الوحيدة في جامعة دلهي التي تدرِّس درجة البكالوريوس (مع مرتبة الشرف) باللغتين العربية والفارسية. وتحظى الكلية بسمعة طيبة في جامعة دلهي، وهي ضمن أعلى 10 كليات في الجامعة.
ويوجد بالكلية مكتبة شاملة ومجهزة تجهيزًا جيدًا، تضم نحو 111500 كتاب. وتستخدم المكتبة نظام الرفوف المفتوحة، غير أن بعض الكتب الهامة يتم الاحتفاظ بها في قسم الكتب النادرة. ولا تلبي المكتبة المتطلبات الأكاديمية فحسب، بل إنها تضم أيضًا الكتب الترفيهية وكتب التوعية العامة. وتسجل 35 مجلة وطنية ودولية اشتراكًا في المكتبة. وتعد الميزة المهمة في المكتبة حاليًا هي قسم الوسائط المتعددة، المجهز جيدًا بأجهزة كمبيوتر ومجموعة واسعة من الأجهزة الإلكترونية المستخدمة للتعليم الإلكتروني. كما تحتوي الكلية على أكبر مخزون كتب في جامعة دلهي، الذي يقدم الخدمات للطلاب من خلال تزويدهم بالكتب المدرسية للفصل الدراسي بأكمله.
مدرسة من عصر المغول تصبح كلية رائدة في نيودلهي
عمرها 320 عامًا.. وأسهمت في تطوير ثقافة التفاهم واحترام الاختلاف
مدرسة من عصر المغول تصبح كلية رائدة في نيودلهي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة