بعد أقل من شهر، وعلى أعتاب الدورة الجديدة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (الذي ينطلق في الحادي عشر وينتهي في العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني) تأتي الذكرى الحادية عشرة لوفاة المخرج كمال الشيخ الذي كان وُلد في الخامس من فبراير (شباط) 1925 (وفي بعض المصادر سنة 1919) وتوفي في الرابع من نوفمبر، مخلفًا وراءه 37 فيلمًا حقق أولها (وهو «المنزل رقم 13») سنة 1952 وآخرها («قاهر الزمان») سنة 1987.
ستمر هذه الذكرى، كما مرّت الذكرى العاشرة وما قبلها من دون أي محاولة إحياء لأعمال هذا المخرج (إلا إذا التقط هذا الخيط بعض المنعيين من مقدّمي البرامج التلفزيونية أو الصحافيين). لكن هذا ليس غريبًا أو ناشزًا. مخرجون في قامة الشيخ (وأشهر منه عالميًا) مثل يوسف شاهين بات من المعتاد طي الزمن لمناسبات ولادته ومناسبات رحيله من دون توقف أحد عند ذكراه. صحيح أن الشيخ وشاهين وصلاح أبو سيف وعاطف سالم من بين المخرجين الذين تناولتهم مقالات ودراسات كثيرة من قبل (معظمها خلال حياتهم على الأرض) إلا أن من سحر السينما أنه ما أن تتعرّض لجانب من أفلام أحد مخرجيها حتى تُفتح أمامك نافذة تطل على جانب آخر.
كمال الشيخ أحب لمعة السينما منذ البداية. كان دخل كلية الحقوق سنة 1937 على أمل أن يصبح محاميًا كما أراده والده، لكن شغفه بالأفلام قاده إلى ترك الكلية والالتحاق بركب الفن السينمائي.
في البداية رغب أن يكون ممثلاً، لكنه رضي أن يصبح مونتيرًا يعمل تحت تعليمات المخرج نيازي مصطفى من مطلع الأربعينات حتى مطلع الخمسينات. في عام 1952 وتحت إلحاح رغبته الحثيثة في أن يصبح مخرجًا، حقق أول أفلامه وهو «المنزل رقم 13» من بطولة عماد حمدي وفاتن حمامة ومحمود المليجي. الأخيران كانا التقيا قبل عام واحد في فيلم صلاح أبو سيف الرائع «لك يوم يا ظالم» بنجاح ملحوظ تكرر وقوعه في «المنزل رقم 13» ليس فقط لأن المليجي جسد شخصية الشرير فقط بل لأن المخرج كمال الشيخ وفر لفيلمه الأول ذاك معالجة قائمة على التشويق وليس فقط سرد حكاية قد تكون بحد ذاتها مشوّقة.
مر عام واحد قبل أن يعود الشيخ في فيلم جديد هو «مؤامرة» الذي لم يسجل فيه أي تقدّم نوعي على عكس فيلمه الثالث «حياة أو موت» (1954). هذا الفيلم، وإلى اليوم، من بين أفضل ما قدّمته السينما المصرية من أفلام التشويق: صيدلي يعطي فتاة صغيرة الدواء الخطأ من دون قصد. والدها المريض سيموت لو أنه تناول الدواء. الصيدلي لا يعلم أين تعيش الفتاة والبوليس ينطلق بحثًا عنها قبل فوات الأوان. من حسن الحظ أن المسافة بين الصيدلية والبيت بعيدة ما يتيح للأحداث أن تحتل الوقت على نحو واقعي.
أعمال أدبية
مهارة الشيخ في التشويق جعلت الكثيرين يصفونه بهيتشكوك السينما العربية منذ ذلك الفيلم وما بعد. ومع أن العلاقة بين هيتشكوك والشيخ موحى بها عبر صياغات ومعالجات أفلام الشيخ التشويقية والبوليسية، إلا أن الواقع والحاضر المصري (كمكان حدث وكشخصيات وكثقافة المجتمع) تؤمّن انسيابًا مستقلاً لأفلام الشيخ عوض عن أن المخرج المصري لم يكن يستنسخ لكي ينمو، بل كان يعالج مواضيعه ببصمته الخاصة التي تختلف في التفاصيل عن تلك التي كان المخرج البريطاني (الأميركي لاحقًا) يمارسها.
«الشيطان الصغير» (1963) يأتي واحدًا من دلالات نبوغ المخرج المستقلة. هو عن صبي صغير يختفي في شاحنة نقل أثاث ويكتشف أن فيها جثّة. يحاول الهرب لكن سائق الشاحنة (ذلك الممثل الرائع صلاح منصور) ومساعده (حسن يوسف في دور مبكر) يخطفانه.
مثل «حياة أو موت» يعمل الفيلم على استنفار الحماسة في حكاية لديها نحو يوم لكي تبدأ وتنتهي. لا أحد في تاريخ السينما المصرية وحاضرها عالج هذا التوقيت جيّدًا كما عالجه كمال الشيخ في هذين الفيلمين كما في بضعة أعمال أخرى له. في حين أن «حياة أو موت» من توليف أميرة فايد (تزوّج المخرج منها لاحقًا) جاء «الشيطان الصغير» من توليف شقيقه سعيد الشيخ، وكلاهما، أميرة وسعيد، أمّنا للمخرج الأسلوب الذي اختطه لهذين الفيلمين كما لمعظم أفلامه اللاحقة. بينهما يكمن «الملاك الصغير» (1957) و«ملاك وشيطان» (1960) كما لو أن المخرج يمازح معجبيه ولو أن الحكايات الواردة فيهما وفي «الشيطان الصغير» مختلفة تمامًا. كذلك من بين أعماله الرائعة في تلك الفترة «اللص والكلاب» عن رواية نجيب محفوظ بالعنوان ذاته. هذا الفيلم (1962) هو أول احتكاك مباشر بين المخرج والموضوع السياسي المغلّف اجتماعيًا. لاحقًا في «ميرامار» (1969) و«الهارب» (1974) و«على من نطلق الرصاص» (1975) تبلور هذا الاحتكاك إلى طرح سياسي واضح، ولو أن المخرج أصر، في أحاديثه، على أنه لا يتعامل والسياسة مطلقًا في أفلامه.
مع «اللص والكلاب» تعرّض الشيخ، وكما نصّت الرواية، إلى نماذج من المجتمع المصري الرسمي تستغل مناصبها المؤيدة للحكومة لأجل ممارسة سلطاتها ومصالحها الخاصة. إنه حول اللص (شكري سرحان) الذي يتعرف على صحافي ناجح (كمال الشناوي) قبل دخوله السجن بعدما وشى به لص شريك. حين خروجه يحاول التقرب من الصحافي لكن هذا بات من أتباع السلطة وعليه فإنه سيحاول ردمه وماضيه معًا.
يغير الشيخ مرّة أخرى على الصحافة الفاسدة والمستسلمة للسلطة في «الرجل الذي فقد ظله» (1968) المأخوذ عن رواية فتحي غانم. بعد عام على النكسة العسكرية كانت اكتشفت الحاجة لطرح المفاهيم التي سادت، والتي على نحو أو آخر، أدّت إلى الهزيمة، لكن الرقابة كانت لا تزال لا تعترف بالمحاسبة الشخصية. رغم ذلك تصدّى الشيخ للموضوع بجرأة ثم زاد من جرعة تلك الجرأة عندما أخرج «ميرامار» عن رواية نجيب محفوظ أيضًا وفيها إدانة أوسع شأنًا للمحيط الذي تألف من جيل ما بعد ثورة 1952 وشمل مستفيدين ومسؤولين ورجال إعلام. ويلحظ المؤرخ محمود قاسم في كتابه «موسوعة المخرجين في العالم العربي» أن «ميرامار» اتهم الثورة المصرية مباشرة.
لكن الشيخ عاد وقدّم «شروق وغروب» ذا الموضوع السياسي المناهض لـ«ميرامار» لكي يثبت إنه ليس سينمائيًا يبنى أعماله تبعًا لمواقف سياسية. بعد هذين الفيلمين عاد إلى الموضوع السياسي في فيلمين من كتابة رأفت الميهي هما «الهارب» و«على من نطلق الرصاص» (1974 و1975 على التوالي). هذه الأفلام، بصرف النظر عن مواقفها، كانت إعلانًا بأن كمال الشيخ عالج الأعمال الأدبية بالمقدرة ذاتها التي عالج فيها الأفلام المكتوبة مباشرة للسينما. في معظم ما أخرجه، بما في ذلك فيلمه الأخير غير المقدّر حق تقديره «قاهر الزمن»، مارس السينما تبعًا لعناصرها الفنية أولاً.