«جون».. جوهرة الشوف اللبناني

الليدي إستير استنهوب سكنت البلدة التي اشتهرت بمواهب أبنائها

منظر عام لبلدة جون العابقة برائحة زهر الليمون
منظر عام لبلدة جون العابقة برائحة زهر الليمون
TT

«جون».. جوهرة الشوف اللبناني

منظر عام لبلدة جون العابقة برائحة زهر الليمون
منظر عام لبلدة جون العابقة برائحة زهر الليمون

ما إن تدخل بلدة جون الشوفية حتى يغمرك هذا الشعور الجميل بأنك في قلب بلدة لبنانية عريقة تذكّرك بأجواء القرية الحقيقية. فعلى الرغم من الحداثة التي ألقت بظلالها على معالم جون من هنا وهناك، فإنها استطاعت أن تحافظ على دفئها إن في مجال عمارتها الهندسية أو معالمها التاريخية.
كل ما يخطر على بالك أو تتمنى أن تلاقيه وأنت في مشوار سياحي تثقيفي وخدماتي، باستطاعتك أن تجده في جون. فبدءا من ممارسة رياضة المشي في ممرات خاصة استحدثت في البلدة، مرورا بمواقع أثرية تعود إلى ما قبل الميلاد، وصولا إلى اللقمة اللبنانية الأصيلة، هي نشاطات ستشدّك إلى زيارة جون التي تبعد نحو الـ55 كلم عن بيروت.
تلّة «النقبا» و«عين حيرون» و«قصر إستير استنهوب» و«دير المخلّص» ومسجد «محمد الفضيل» تمثّل التاريخ والجغرافيا فيها، بينما يعدّ مطعم «تلّ القمر» الذي يقع على أطرافها مركزا سياحيا في موقعه وخير مثل للقمة اللبنانية والجلسة العائلية السعيدة.
تزدحم بلدة جون الشوفية بالمواقع والمعالم التاريخية والطبيعية، فهي إضافة إلى المغاور الـ18 التي تزدحم بها منطقة «الخاشبية» كما يسميها أهل البلدة، فإن الجهة الشمالية منها تتميّز بوفرة ينابيعها، فهناك قصر الليدي إستير استنهوب الذي حيكت في أروقته أهم القرارات السياسية في البلاد في (القرن الثامن عشر). وكذلك هناك ينابيع عدة أهمها «عين حيرون» المحفورة في الصخر. أما مشروع «النقبا» المخصص لهواة ممارسة رياضة المشي على الأقدام، فهو يعدّ واحدا من أجمل هذه الدروب في الطبيعة اللبنانية نظرا لموقعه المحاط بالأنهر والينابيع وظلال الأشجار.

تلّة «النقبا» درب مخصصة لممارسة رياضة المشي

تعدّ تلّة «النقبا» وهي منطقة حرجية تظللها أشجار السنديان والصنوبر، ويبلغ طولها نحو الـ5 كلم، واحدة من الدروب ذات الطبيعة الخلّابة المخصصة لرياضة المشي في لبنان. فهي تتكامل مع درب آخر يعرف بـ«طريق القداسة» المتصّل بموقع دير المخلّص الذي يتوسّط البلدة، ويعدّ واحدا من أهم المواقع الدينية في منطقة الشوف.
تقع تلّة «النقبا» المشرفة على بلدة جون في الجهة المقابلة لقلعة «أبو الحصن» الذي يلفّها بشكل بيضاوي نهر الأولي. على هذا الطريق الذي استحدث مؤخرا بمؤازرة رئيس بلديتها العميد سليم خرياطي، في استطاعتك أن تمشي في تعرّجات ومنعطفات طبيعية بين آثار لأبنية مهدّمة ومنشآت عمرانية تعود إلى أوائل القرن الثاني عشر.
لوحات رسمتها الطبيعة بكلّ أشكالها ستشاهدها وأنت تمشي بينها وكأنك في كتاب تاريخ تتصفّحه عن قرب. ومنها ستطلّ على غابات الصنوبر وكروم العنب والزيتون التابعة لـ«دير المخلّص»، فهناك يستطيع الزائر أن يأخذ استراحة في أحضان الطبيعة حيث يحلو تأمّلها فتمارس رياضة روحية بامتياز.

نبع «عين حيرون» مياه عذبة تتدفّق من الصخور

تتميّز الجهة الشمالية من بلدة جون بينابيعها التي تنساب بين أوديتها ومنخفضاتها. وتعدّ «عين حيرون» الأشهر فيها وهي مقصد لأهل منطقة الشوف، الذين يرتشفون مياهها العذبة منذ مئات السنين. وشيّد عليها قنطرتان معقودتان ترجعان إلى القرن الماضي. تحلو الجلسات العائلية حول هذا الينبوع الذي تتدفّق مياهه من الصخور، فيشكّل معلما جغرافيا عريقا.

السياحة الدينية من ميزات بلدة جون

تحتلّ السياحة الدينية في بلدة جون حيّزا لا يستهان به من نشاطاتها المختلفة، فإضافة إلى «دير المخلص» العريق الذي يعدّ من أهمّ المعالم الدينية في منطقة إقليم الخرّوب، ويعود تاريخ بنائه إلى أواخر القرن الثامن عشر، هناك مسجد البلدة الذي شيّده محمد الفضيل، وهو مغربي أعجب ببلدة جون فشيّده بعد أن استقرّ فيها. ويعتبر هذا المسجد معلما تاريخيا يشكّل جزءا من تراث بلدة جون في هذا الإطار.

قصر الليدي إستير استنهوب معلم تاريخي يعبق بعطر امرأة حديدية

يقع هذا القصر على رابية في الجهة الشمالية الشرقية لبلدة جون تعرف بـ«ضهر الستّ»، فهذه المرأة الحديدية التي كانت تربطها قرابة برئيس وزراء بريطانيا ويليام بيت (ابنة أخته)، حطّت في هذه البلدة عام 1818، فاختارت هذا البناء يومها لتسكنه وليكون ملجأ للمسافرين والهاربين من وطأة الحروب. في زيارتك للقصر ستكتشف معالمه التاريخية، فقد رتّبته الليدي البريطانية بحيث أحاطته بالحدائق الغنّاء كما أضافت إليه جناحين، أحدهما يتضمن غرفا للضيوف ودهليزا يوصلك إلى إهراءات القمح، وآخر خصصّته للمطبخ والخدم في القصر. شكّل هذا القصر قلعة حقيقية وفّر لليدي استنهوب الحماية لها من بطش الأمير الشهابي بشير الثاني، ووالي مصر إبراهيم باشا. دفنت الليدي استنهوب في القصر عام 1938 بعد أن أصيبت بداء السلّ.

مطعم «تلّ القمر» حيث اللمّة العائلية حول مائدة غنيّة بألذّ الأطباق والمازات اللبنانية

ما إن تدخل الطريق المؤدّي إلى مطعم «تلّ القمر» في جون، حتى تعلم أنك تقوم بنزهة تشمل إضافة إلى المناظر الجميلة والخدمات السياحية المتوفّرة فيها، جلسة لا تشبه مثيلاتها في أي بلدة أخرى مجاورة. ففي هذا المطعم الواقع على ربوة تشرف على جون من جهة وعلى بلدات شوفية أخرى كمجدلونا وعلمان والجميلية والمغيرية وغيرها من جهة أخرى، لن تتردد في العودة إليه مرة أخرى للأجواء العائلية التي يحملها، ولأركانه المختلفة الموزّعة هنا وهناك من أجل تمضية جلسة سمر مع صديق أو شريك من ناحية ثانية.
ممرات مفروشة بفسحات خضراء وديكورات مختلفة تزيّنها، والمصنوعة من أدوات تراث لبنانية (سلال من القشّ وأغصان أشجار)، ومساحات شاسعة يتصّل بعضها ببعض، تؤلّف هذا المركز السياحي المميّز «تلّ القمر» الذي سيجذبك من النظرة الأولى. ويؤكّد صاحبه جهاد العلم أنه بات يشكّل مقصدا للزوّار، يأتونه من بيروت وصيدا وصور وغيرها من المناطق اللبنانية، لأطباقه اللبنانية الأصيلة من ناحية ولديكوراته المتصلّة اتصالا مباشرا بالأصالة اللبنانية.
فعلى أول مدخله يستقبلك إبريق قهوة نحاسي ضخم يتوسّط حديقة غنّاء بأنواع زهور وورود ملوّنة. وتكمل طريقك وأنت تصعد درجات سلالمه الحجرية لتقف إلى اليسار على مشهد آخر لسياج خشبي يحيط بمساحة المطعم المتفلّت في الهواء الطلق. ومن بعيد ستلاحظ الشكل الهندسي للمطعم ككلّ المستوحى من كوكب القمر المعلّق في السماء، فيناديك لتحطّ رحالك عليه ولتبدأ بمشوارك من فوق تلّة من تلاله.
لم يترك صاحب هذا المكان أي جهة من جهات المطعم لم يستفد منها، بحيث في استطاعتك أن تجلس فيه في أي وقت يخطر على بالك، فكما هناك الجلسة الشرقية المطلّة على منظر طبيعي خلاّب تلوّنه أشجار السرو والزيتون، فهناك أيضًا قعدة من ناحية الغرب يحلو فيها ارتشاف كوب قهوة ونفس نرجيلة بعد الظهر أو عند المساء.
أما الأطباق التي يقدّمها في صالتيه الشتوية والصيفية فتندرج ضمن لائحتي العروض الخاصة، فتختار منها ما يناسبك ويلائم ميزانيتك بأسعار مقبولة، وتتضمن مائدة «تلّ القمر» أكثر من 100 طبق تتراوح ما بين المازات اللبنانية المعروفة، كالحمص بالطحينة وجبن الشنكليش مع زيت الزيتون والتبولة والفتوش المحضّرين بخضار طازجة، إضافة إلى البيض بالقاورما والسجق والنقانق و«بابا غنّوج» (المتبّل باذنجان)، ورقائق الجبن والكبة المقلية والسلطات وعشرات الأطباق غيرها التي تفتح الشهية على مائدة غنيّة ومنوّعة لن تحظى بها إلا في بلدة جون.
يحرص المطعم الذي يقدّم المشاوي على الفحم من اللحم والدجاج على أن لا تغادره دون أن يمنحك فرصة التزوّد بمونة مصنوعة من قبل رهبان دير المخلّص وأهالي بلدة جون وسكّانه، ففي بيت خشبي يطالعك على يمين مدخل المطعم وأنت تخرج منه، بإمكانك شراء ماء الزهر والورد ودبس الرمان والكشك والصعتر البلديين والمربّيات على أنواعها وغيرها من العناصر الأساسية للمونة اللبنانية الأصيلة.
ولم ينسَ القيمون على المطعم توفير مساحات خاصة منه للأطفال، وفيها ما يحلمون به من ألعاب مسلّية وأراجيح تحملهم إلى أوقات حالمة وتدفعهم إلى القهقهة والضحك طيلة وجودهم في «تلّ القمر».
القيام بنزهة إلى بلدة جون الشوفية ستكون واحدة من المشاريع السياحية التي تستحق منك إدراجها على روزنامة نشاطاتك في لبنان الأخضر.
وللوصول إلى بلدة جون بإمكانك أن تسلك طريق بيروت - صيدا لتتوجّه إلى جون من مفرق نهر بسري، أو عن الطريق الداخلية للشوف الأعلى وهي تمر بـ«بيت الدين» وبلدات أخرى مجاورة.
مشوار يعبق برائحة زهر الليمون وبلوحات على مدّ النظر، سيخوّلك التعرّف إلى هذه الأرض التي تشبّث بترابها فنانان لا يتكرران، فهي تشكّل مسقط رأس عملاقين من لبنان، ألا وهما الراحلان نصري شمس الدين ومحمد علاء الدين المعروف بـ«شوشو»، واللذان تركا إرثا فنيّا ما زال يدرّس في المعاهد الفنيّة في لبنان، إن في مجال الغناء إذ كان الأول أحد أهم أبطال مسرحيات الرحابنة، وإن في مجال المسرح الكوميدي إذ كان «شوشو» يمثّل أحد أهم روّاده في العالم العربي والمنطقة.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».