ربما سيؤدي اختيار لجنة جائزة نوبل لهذا العام إلى إعادة النظر في تعريفنا للأدب، وفي الكثير من مفاهيمنا النقدية والنظرية المكرسة منذ سنين طويلة في التاريخ الأدبي، ويعيد طرح السؤال القديم - الجديد: ما هو الأدب؟
حسب بيان الأكاديمية السويدية، استحقت الصحافية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، وليست الروائية، جائزة نوبل للآداب هذا العام، لأنها «ابتكرت نوعا أدبيا جديدا». وهذا النوع، بالمعنى الذي تقصده الأكاديمية، قائم على مزج الصحافة بالأدب. أما أليكسييفيتش نفسها فتعترف بأنها تأثرت بمواطنها الكاتب آليس آداموفيتش، الذي طور جنسا سماه اسما غريبا جديدا على المصطلح النقدي، وهو «الرواية الجماعية» (C0llective Novel)، أو «الرواية - الدليل» (Novel Evidence)، حيث الناس يتحدثون عن أنفسهم أو «الكورس الملحمي» (Epic Chorus).
تجتمع هنا الأصوات البشرية والاعترافات، وأدلة الشهود والوثائق. بكلمة أخرى، تجتمع كل حقائق الحياة الواقعية، تتحول إلى كورس من أصوات الأفراد، وكولاج من تفاصيل الحياة اليومية. ومن هنا، تستطيع أن تكون ألكسييفيتش في الوقت نفسه «كاتبة، وصحافية، وباحثة اجتماعية ونفسية، ومبشّرة أيضًا». إذن كل شيء هناك، ولكن بلا حبكة، لا بداية ولا نهاية، ولا بناء روائيا، ولا رؤية أو رؤيا، ولا رسم شخصيات، ولا أحداث تنمو، ولا صور ولا خيال فنيا، يبدو أن عصرنا قد تجاوزه بلامعقوليته وغرابته.
كتاب سفيتلانا أليكسييفيتش «أصوات من تشيرنوبل»، الذي نوهت به الأكاديمية في قرارها، ليس سوى مقابلات شخصية مع ناجين من كارثة مفاعل تشيرنوبل، حيث قامت الكاتبة على مدار عشر سنوات بزيارات إلى المنطقة أجرت خلالها أكثر من 500 مقابلة. وكتابها الآخر «الوجه غير النسائي للحرب» (1988)، الذي ربما يكون أشهر كتبها، هو أيضا عبارة عن مقابلات شخصية مع مئات النساء ممن شاركن في الحرب العالمية الثانية.
هل إننا حقا أمام نوع أدبي جديد؟ ليس تماما.
في الثلاثينات والأربعينات، حار النقاد الفرنسيون، في عصر كان يحب التصنيف، حول نوع كتابات جان بول سارتر غير الفلسفية، وخصوصا عمله «الغثيان»، الصادر عام 1938.. هل هو رواية أم لا، أم مجرد عرض أدبي سردي لأفكار سارتر الفلسفية، وذلك لخروج هذا العمل عن الشكل الروائي المألوف، وعناصر البنية الروائية؟ وانتهى الأمر ببعض النقاد إلى تسمية هذا النوع من الكتابة بـ«الرواية - المأساة»، ولجأ آخرون إلى اختراع مصطلح مهلهل لا يعرف أحد ماذا يعني بالضبط، ويمكن أن ينطبق على أي شيء وهو «اللارواية».
ومن الأمثلة المعاصرة، نجد أن بعض كتابات جوزيه ساراماغو، حائز نوبل للآداب عام 1998 وكان صحافيا أيضًا، مثل عمله «الانبعاث من الأرض»، (1980)، يحتشد بكمية كبيرة من الوقائع الحياتية، والمعلومات التاريخية والسياسية، وكذلك عمله «قصة حصار لشبونة»، 1989 بحيث من الصعب أن تطلق عليهما اسم رواية بالمعنى المألوف. وهذا ينطبق أيضا، وربما بشكل أكبر على قسم من أعمال أمين معلوف، الذي كان صحافيا كذلك، مثل «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، 1983، و«ليون الأفريقي»، 1984، حيث يتداخل الأدب والتاريخ والوثيقة، بحيث لا تعود تميز بينها. وهناك كتابات عربية كثيرة، قديما وحديثا، نجد فيها هذا التداخل.
ولا ننسى هنا، أن لجنة نوبل كانت قد منحت جائزتها للآداب لونستون تشرشل عن مذكراته عام 1953 وسط ذهول العالم الأدبي آنذاك.
لكن كيف يمكن أن يرتفع التقرير الصحافي أو المادة التاريخية إلى مستوى الأدب؟ أم إن التقرير الصحافي، كما في كثير من الصحف الأوروبية والأميركية، أصبح نوعًا أدبيًا بحد ذاته؟
يرى البعض ذلك، ويرون أن لجنة جائزة نوبل قد اعترفت أخيرا أن «الكتابة النثرية المبنية على وقائع وأشخاص حقيقيين، سواء أكانت هذه الكتابة سيرة ذاتية أو تاريخية هي جزء من الأدب»، وأن جائزة نوبل فعلت ذلك من قبل حين منحت جائزتها للمؤرخ ثيودور مومسون عام 1902، أي بعد عام من تأسيسها، ثم إلى المؤرخ والفيلسوف البريطاني برتراند راسل عام 1950، بالإضافة إلى ونستون تشرشل.
إذن، كتاب الأعمال غير الخيالية (Non - fiction) لم يعودوا مواطنين من الدرجة الثانية في جمهورية الأدب.
أسئلة كثيرة سيطرحها النقاد في ضوء اختيار لجنة نوبل الأخير، وسيختلفون حولها كثيرا، كما اختلفوا منذ أكثر من نصف قرن في الأقل.
جائزة نوبل هذا العام.. إعادة تعريف للأدب في القرن الـ21
جائزة نوبل هذا العام.. إعادة تعريف للأدب في القرن الـ21
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة