لعله ليس ثمة لحظة في التأريخ الحديث، بدا فيها أن ثمة رابطاً عابراً للحدود، يجمع الشيعة في سائر المنطقة، مثل هذه اللحظة. ليس فقط لأن روابط القومية (وهذه الجملة يجب أن تتخيل «أمة شيعية») بدت في هذا العصر أكثر تعقيدًا، حيث (القارةُ الافتراضية الثامنة)، بتعبير جاك أتالي، تتخطى حدودَ الاندماج الوطني، بل لأن صعود المسألة الشيعية، ما بعد الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، وأكثر، بعد الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين سنة 2003. إذ تبوأ الشيعةُ المكانةَ المركزية في حكم العراق، لم يعمل على دمج المجتمعات الشيعية في المنطقة في محور سياسي واحد فقط، بل إنه فتح إمكانيةَ أن يغيّر هذا المحورُ من التوازنات الإقليمية، والمحلية الداخلية كذلك.
قد تكثف الأمر بعد الربيع العربي، حين كشفت الثوراتُ العربية عن أزمة الدولة المشرقية، وخلّفت الدولةُ الوطنية المنهارة ما كان قبلها من هويات، دينية وطائفية وإثنية، وتحوّلَ «الربيعُ» إلى صراع طائفي غير مسبوق في التاريخ الحديث للمنطقة، يُعرَّف أحيانا بأنه (أو يتداخل معه) صراع إيراني - عربي. وليس في مثل هذه اللحظة، نستطيع أن نتحدث عن سياسات شيعية متناظرة، فضلا عن كونها منسقة.
وأكثر من ذلك، قاد هذا الصعودُ الشيعي إلى نوع من التشييع السياسي، إن صح التعبير، عمل على دمج قوى أو مجتمعات أو تكوينات ديموغرافية أخرى لا تُصنَّف ضمن «الشيعة الإمامية» في هذا المحور الصاعد، من قبيل إعادة تعريف العلويين في سوريا، والحوثيين في اليمن، بأنهم شيعة سياسيا. وهذا يعني العودةَ إلى نوع من التعريف التاريخي الموسّع لـ«الشيعة»، ما قبل أن يقتصر هذا التعريف على أنهم «الإمامية الاثنى عشرية».
في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وعلى مستوى التعبير السياسي، نشأ حزب الدعوة الإسلامية في العراق، للوقوف بوجه المد الشيوعي واليساري المتصاعد، آنذاك، على نحو ما يرد في أدبيات الحزب نفسها. ثم أصبح الحزبُ - بالتدريج - معبِّرًا عن الهوية الشيعية وسرديّاتها عن الإقصاء عن المشاركة في الحكم. وامتد الحزبُ إلى خارج الحدود العراقية، من جهة أنه أول تنظيم سياسي شيعي في العصر الحديث، ولا سيما في المحيط الشيعي العربي، في لبنان والخليج، إلا أن صيغة حزب الدعوة، من حيث أنه حزب شيعي إقليمي له امتدادات وفروع خارج العراق، لم تتطور، ولم تنتج مثيلا.
لقد سمح انهيار الدولة المشرقية للهويّات العابرة للهوية الوطنية بأن تتسيّد المشهد. انهيار الدولة قد يدل عليه أنها انتقلت من كونها دولة استبدادية، إلى أن تكون دولة فاشلة، كما في حالتي العراق وسوريا، وهما قلب المشرق العربي. وإذا كان البعض يحاجج بأن تسيّد حركات الهوية ليس سمة ثابتة، بل هو سمة لحقبة انتقالية لا أحد يعلم كم ستطول، فإن الأكيد أن هذه السمات ستكون الجزءَ الحاسم من إدارة تشكيل وصناعة وجه جديد للمشرق العربي.
المشهد، الآن، شهد صراعا مسلحا، لقوى يقوم كل منها على الهويات العابرة للهوية الوطنية، الدينية أو الإثنية أو الطائفية: «داعش» يحثّ السنّة - في كل العالم - على القدوم إلى «دولته» في العراق وسوريا، والدفاع عن أهل السنّة في هذين البلدين ومقاتلة الشيعة العراقيين على أرضهم، وميليشيا «لواء أبي الفضل العباس» الشيعية العراقية تقاتل المواطنين السوريين على أرضهم «دفاعا عن المراقد الشيعية المقدسة»، والبيشمركة الكردية العراقية تعبر إلى الأراضي السورية، لتدافع عن الكرد السوريين، من مقاتلين، جزء مهم منهم سوريون.
وبالأحرى، قد تكون المفارقةُ الناشئة من وجود هويات تتصارع على أرض يتناقض تعريف هويتها مع الهويات المتصارعة، هي - بذاتها - مفارقة تاريخية ناشئة من عدم فهم التحولات الحالية، فتحديدُ الجغرافية الوطنية لم يعد ذا قيمة لهويات تعدّ نفسَها أبعدَ وأوسع وأكثر حقيقية وواقعية من هذه الجغرافية المصطنعة.
هذا المشهد لا يشير، فقط ومجددًا، إلى فشل مشروع بناء الأمة، الذي لم يستطع أن يتقبل فكرة تذويب الهويات الإثنية ما قبل الحديثة في هوية وطنية نابعة من الكيان السياسي، وانتهى إلى بناء الأمة بهوية أحادية، مستمدة من الهوية الإثنية، بل يشير إلى أن الهويات النقيضة للهوية الأحادية للدولة ستجترح شكلاً جديدًا لتجاوز مشروع بناء الأمة، وهو الانخراط في أمة بديلة، تتطابق هويتها السياسية مع الهوية الطائفية أو الإثنية.
هذه الأمةُ البديلة أبعدُ، وعابرة، وأوسع، وأقدم، وذات جغرافية أوسع من الهوية الوطنية.
القوميات البديلة
يبدو لي أن الانتماءات الهوياتية الصاعدة لا يمكن اختزالها في أنها انتماءات ما قبل حديثة، أو ما قبل الدولة. نعم، هي تستند إلى أنماط من الهويات تشكلت ما قبل الهوية الحديثة القائمة على الانتماء إلى الكيان السياسي الحديث، وهو ما يعرف بـ«الهوية الوطنية». ولكن أنواع الارتباط الصاعدة حديثًا لا تتشكل من مجرد هذا الانتماء، بل إنها، كذلك، تستند إلى مكونات تدخل في صميم مفهوم القومية.
في السنوات الأخيرة، بدا الشيعة كأنهم قومية خاصة، أمة متفردة. ما أقصده، هنا، هو مكوِّن إضافي، يمثل أحد العناصر الأساسية في تعريف «القومية»، أعني: المصير المشترك. ودائمًا، وفي كل السجال الطويل في دراسات القومية والخلاف على تعريف «الأمة»، كان مفهوم المصير المشترك حاضرًا، إلى جانب مفاهيم اللغة والإثنية والذاكرة المشتركة، وما إلى ذلك.
إن الأفراد الذين ينتمون إلى هوية دينية واحدة، في أصقاع مختلفة من العالم، لا يحسون - بالضرورة - بأن مصيرًا مشتركًا يجمعهم، في حين أن هذا الشعور سيطر على شيعة المنطقة.
وإن حالة القومية الشيعية مهمة جدًا، هنا، فهي - في تصوري - لا تستند إلى مجرد الانتماء إلى التشيع. هذا الانتماء الطائفي، أو الرابطة الطائفية، هو عامل واحد فقط، وليس هو الحاسم والنهائي، بكل تأكيد.
ما يجمع شيعة المنطقة، الآن، هو ما يشعرون به من مصير مشترك، يوحّدهم على اختلاف إثنياتهم ولغاتهم وثقافاتهم. وهذا الشعور تفكك وأعاد ربط جماعات دينية، فالعلويون في سوريا، على سبيل المثال، لا يحسون أن مصيرهم مرتبط بمصير العلويين في تركيا، بل بمصير الشيعة الإمامية. وهذا أحد العوامل في توسيع معنى الجماعة الشيعية بوصفها جماعة سياسية.
إن فكرة المصير المشترك للشيعة، في هذه اللحظة السياسية العاصفة، هي التي رمّمت فكرة محور شيعي إقليمي عابر للحدود الوطنية، وأنتجت قبولاً عامًا بقيادة إيران لهذا المحور، ليس بصفتها - تاريخيا - مصدر التشيع السياسي في المنطقة، بل لأنها قادرة ومؤهلة للعب هذا الدور.
وهذا الشعور هو الذي جعل زعيمًا شيعيًا، لم يكن يُصنّف من المحسوبين على إيران، نوري المالكي، يعتقد أنه لا مناص لشيعة العراق من الالتحاق بمحور إيران، فهم أضعف من مواجهة التحديات وسياسة المحاور القائمة، ودولتُهم في العراق لا تزال هشة. هذا الشعور نما لدى المالكي ما بعد الربيع العربي، وتحول إلى صراع طائفي محض.
ألسنة الهوية
مع ذلك، ليست ثمة شيء يخفي عمقَ التعقيد والتناقضات، مثل صورة الوحدة الصاعدة، تعقيد وتناقضات في مقاربة الوضع الإقليمي وتأزماته، وفي الطموحات، على نحو أولى، تناقضات بين هذه الكتل الديموغرافية الواسعة، التي وحَّد أفرادها انتماؤهم إلى الهوية الشيعية وشعورُهم أن مصيرهم واحد.. تناقضات داخل كل مجتمع شيعي، أو كل مجتمع سياسي شيعي، كذلك.
وفي الحقيقة، إن الخلافات والانقسامات القائمة شكل من أشكال تفكيك القومية الشيعية، بما أنها تشكيك أو رفض لفكرة المصير المشترك، أو رفض للانضواء تحت الراية الإيرانية، أو اعتقاد بأن وضع الشيعة، ومن ثم مصيرهم، في كل بلد من بلدان المنطقة، إنما يرتبط بالسياقات المحلية المحضة.
في لبنان، ثمة اعتراض مستمر من النخب الشيعية اللبنانية على مصادرة حزب الله لخيارات الشيعة اللبنانيين السياسية واحتكاره لتمثيلهم. وفي الخليج، ثمة خلافات عميقة على كيفية إدارة «المظلومية الشيعية»، الاندماج أكثر، أو الثورة أكثر. وفي إيران نفسها ثمة الانقسام التقليدي بين تياري، المحافظين والإصلاحيين، وهو انقسام لا يتعلق فقط بالسلطة والإدارة الداخلية للدولة، بل كذلك بكيفية إدارة المحور الإقليمي. ولذلك، ينتهي هذا الانقسام إلى صراع بين المؤسسات السياسية الإيرانية نفسها. واليوم، وبعد ما يعده الإيرانيون «نصرًا»، حقّقه تيار الرئيس حسن روحاني، حين وقّع مع الغرب «اتفاقية تاريخية» على ملف إيران النووي، يكافح هذا التيار لكي لا يقصر أحد دوره على العلاقة مع الغرب، بل إنه يريد أن ينزع احتكار «الحرس الثوري» لملفات المنطقة، ولا سيما العراق وسوريا ولبنان، بفهم أن الاحتقان غير المسبوق في المنطقة، لا يمكن أن يُدار من خلال المقاربة العسكرية، وأن إيران - أكثر من غيرها - بحاجة إلى وجهها الدبلوماسي التصالحي.
العراق هو الساحة الأهم لهذه التناقضات. فمن جهة، لا يزال وضع الشيعة في السلطة حديثًا وهشًّا. ومن جهة ثانية، يدور الانقسام الشيعي في العراق على إشكاليتين جوهريتين: كيف يمكن للشيعة أن يديروا بلدًا متعدد الهويات؟ أو: ما معنى السلطة الشيعية في بلد على هذه الشاكلة من التنوع الإثني؟ وكيف يتقاطع شيعة العراق مع صراع المحاور الإقليمية؟ ومن ثم، يمكن أن تسهم كيفية استجابة شيعة العراق لهذه الإشكاليات في تحديد مسار التوتر الإقليمي، وموقع شيعة المنطقة منه، ومدى انخراطهم فيه.
يرى بعض ناقدي الأنظمة السياسية المسماة «الديمقراطية التوافقية»، الجاري الحديث عنها بأنها الأنظمة الأمثل للمجتمعات المنقسمة، أن التنظيمات الممثِّلة لكل هوية تظهر موحّدة مع إنشاء النظام، ولكنها سرعان ما تشهد صراعا أو نزاعا فيما بينها على تمثيل الهوية.
وقد شهد العراق الديناميكية نفسها ما بعد 2003، إذ عمل الأميركان على إعادة تعريف هوية الدولة العراقية، من كونها «دولة - أمة»، إلى أن تكون دولة تعبِّر عن هويات إثنية عدة داخلها.
إلا أن الانقسام داخل المشهد السياسي الشيعي لم يبدُ بهذا الوضوح، تحت نظرة عامة بأن السلطة والمشاركة في بناها وأجهزتها العامة وحّدت التنظيمات السياسية الشيعية.
وحتى عندما تفجّر الصراع (2009 - 2013) الذي شهد أحداثًا سياسية وعسكرية بالغة، من قبيل معارك صولة الفرسان (2008)، التي شن فيها نوري المالكي، حملة عسكرية واسعة ضد الميليشيات الشيعية في جنوب البلاد، ولا سيما التابعة للتيار الصدري، ومن قبيل رفض جزء مهم من التنظيمات الشيعية بقاء المالكي رئيسًا للوزراء لولاية ثانية، سنة 2010، أو تبني جزء من هذه التنظيمات مشروع سحب الثقة من المالكي، سنة 2012، بدا أن هذا جزء من الصراع على السلطة، وليس نزاعًا بين مقاربات متعارضة لفهم بنية السلطة في مجتمع متعدد.
ومع سقوط الموصل، المدينة الثانية في العراق، بيد «داعش»، وتهديد التنظيم للمراقد الشيعية المقدسة، فضلاً عن تحديه سلطة الحكم الشيعي في بغداد، دخل الشيعة في مواجهة مفتوحة مع «داعش»، حكومية سياسية وعسكرية، تحمّلت الجزءَ الأعظم منها الميليشياتُ الشيعية، التي انتظمت، قديمها وجديدها، تحت إطار رسمي، يحمل اسم «هيئة الحشد الشعبي».
بدت لحظةُ الموصل لحظة موحِّدة للشيعة بعد انقسامات السنوات الماضية. وبدت تطورات الأمور منذ تلك اللحظة تصب في هذا المجال، ومنها: خروج المالكي وتسنّم العبادي رئاسة الوزراء، والإصلاحات السياسية التي وعد بها البرنامجُ الحكومي، والأجواءُ الإيجابية التي بدا أنها ستقلب صفحةَ التعثر التي سادت علاقة العراق بمحيطه العربي، وعودةُ الولايات المتحدة ودعمها للعراق بمواجهة «داعش».
غير أن هذا التوحّد لم يكن سوى توحدٍ على السطح. بينما في العمق، كان ثمة خيط فاصل وواضح بين رؤيتين لفهم السلطة الشيعية. تمايزُ هاتين الرؤيتين قد يرجع إلى سنة 2010، غير أنهما تتمفصلان بشكل مختلف مع التطورات السياسية.
لقد كان تحدّي «داعش» العامل الأكبر في إخفاء التناقضات الشيعية العميقة، وإظهار وجه موحّد للخطاب الشيعي، يتطلبه الشارع الشيعي، والجانب الديماغوجي التعبوي للمعركة وسياقها.
تمايز هاتين الرؤيتين يتمفصل باستمرار. وهذه المرة سيظهر، تدريجيًا، أنه خلاف على طريقة إدارة، وأولويات، وعناصر الحرب على «داعش».
قلتُ: «السنوات الأخيرة شهدت انقسامًا حادًا داخل المشهد السياسي الشيعي، لعل أولى تمظهراته وضوحا ترجع إلى أواخر سنة 2009، عشية الإعداد للانتخابات النيابية، التي أجريت في مارس (آذار) 2010، حين لم تستطع التنظيمات السياسية الشيعية دخول الانتخابات بائتلاف انتخابي واحد، على نحو ما كان الأمر في انتخابات 2005، بل دخلت بائتلافين متنافسين. وبعد الانتخابات، رفض جزء مهم من التنظيمات السياسية الشيعية تولي المالكي، مرشح ائتلاف «دولة القانون»، رئاسة الوزراء لولاية ثانية، ليذهب جزء آخر من هذه التنظيمات، سنة 2012، وبالائتلاف مع القوى السنّية والكردية والعلمانية، إلى مشروع واسع لسحب الثقة من رئيس الوزراء، آنذاك، المالكي. وبعد انتخابات مجالس المحافظات لسنة 2013، كان ثمة خلاف واضح على مبدأ المحاصصة والحدود التي يمكن للتنظيمات الشيعية أن تأتلف خلالها مع القوى السنّية. وفي 2014، عملت هذه التنظيمات، مدعومة بالمرجعية الدينية الشيعية في النجف، على إخراج المالكي من رئاسة الوزراء، وترشيح العبادي بديلا منه.
وفي الخلاصة، ثمة تياران كبيران يقسمان الوسط السياسي الشيعي، يتمحوَر أحدهما حول المالكي، الذي شكّل ائتلاف «دولة القانون»، ليضم قوى أصبح لها نفوذ أكبر بعد الحرب على «داعش» وتشكيل «الحشد الشعبي». أما التيار الآخر فيضم اثنين من أكبر ثلاثة تنظيمات شيعية هما «المجلس الأعلى الإسلامي العراقي» و«التيار الصدري»، مدعوما بمرجعية النجف.
بعد سقوط الموصل بيد «داعش» وتشكيل «الحشد الشعبي»، تزعم التيارُ الأول «الحشد»، وأصبحت زعاماتُه هي القيادات الأساسية فيه، وهكذا قدّم نفسَه بأنه الطرف الشيعي الأول في التصدي لـ«داعش»، مستفيدا من المخاوف الشيعية العامة من إمكانية نجاح «داعش» في تهديد المراقد الشيعية المقدسة، أو العاصمة بغداد، ومن شعور شيعي عام بأن «الحشد» تعبير عن استجابة شيعية عامة لهذا التحدي. ومن ثم، تمكن هذا التيار من تعبئة الجمهور الشيعي بفكرة أن «داعش» ليس تعبيرًا عن أزمة سياسية، وأن الحرب عليه الخيار الوحيد.
كانت هذه التعبئةُ جزءا من التنافس السياسي، ولا سيما أن هذا التيار يشعر بأنه أُقصي من السلطة، بعد انتخابات فاز فيها.
أما الطرف الآخر، فمع أنه وجد نفسه أمام لعبة تنافس ديماغوجي، ولا سيما أن «داعش» بدا كأنه تهديد وجودي للشيعة، حاول إقامة توازن صعب بين الانقسام الحاد في المنطقة وتنافس المحاور فيها، وبين تناقضات المشهد السياسي الشيعي الداخلي.
وحين انتقلت حركةُ الاحتجاج الأخيرة، التي انطلقت أواسط يوليو (تموز) الماضي، إلى بغداد، ركب التيارُ الأول هذه الحركةَ، فيما بدا أنه محاولة لإسقاط حكومة العبادي في السنة الأولى لتوليها الحكم بتحميلها مسؤولية الانهيار المؤسسي الذي يعصف بالدولة العراقية.
ومن ثم، أتت مبادرة الإصلاح، التي أعلن عنها العبادي، يوم 9 أغسطس (آب) الماضي، في الأساس لمواجهة هذا التيار، مدعومًا من مرجعية النجف.
وبعد سنوات من الصراع الصامت بين التيارين، تحولت حركةُ الاحتجاج الأخيرة في العراق إلى فضاء للإعلان صراحة عن هذا الانقسام وحدّته. هذا يعني أن الصراع الراهن ليس نقطة جديدة في الصراع الذي ترجع بواكيره إلى سنة 2010 وما قبلها، بل إنه النقطة التي كشفت أن كل إرث الصراع السابق هو حقًا صراع رؤيتين، وليس مجرد فريقين متنافسين على السلطة.
المعركة قد تكون في بداياتها بعد، ولا أحد يستطيع أن يحدس كم ستطول، إلا أنها حتمًا معركة حاسمة، وذات تأثير عميق، ليس في العراق فحسب، بل في كل المنطقة، وفي وضع الشيعة ومصيرهم السياسي. وسيكون هاجس القومية الشيعية في قلب هذه المعركة.
الأكيد، أن النسيج الديموغرافي المعقّد في المنطقة سيضع الشيعة - في النهاية - أمام هاجس أن فكرة المصير المشترك لا يمكن أن تتماسك من دون تعزيز مبدأ تعايش الشيعة مع كل من يحيط بهم، ويتقاسم معهم الوطن والمنطقة والمصير من ثم، وإن فكرة القومية الشيعية، من حيث هي فكرة مصير، تتقاطع حقًا مع مصير آخر لا يمكن للشيعة إلا أن يجدوا أنفسهم فيه.
* باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات