في كتابه الجديد «مراحل الرواية المغتربة»، الصادر قبل أيام، يرى دكتور صلاح نيازي أن تطور روايات المغتربين يمكن حصره بثلاث مراحل: الأولى يكون فيها الروائي قد حمل كل عاداته المحلية معه إلى بيئته الجديدة في الغرب، أي أن انتقاله إلى أوروبا انتقال جغرافي فقط، ويضرب مثلا بذلك توفيق الحكيم. والمرحلة الثانية، يكون البطل فيها قد درس في أوروبا، وعاد من دون أن يتمكن من الانسجام مع بيئته الأولى، وتمثل هذه المرحلة قصة «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. قد يصح هذا القول على «المهجر القديم»، وهو في أغلبه مهجر اختياري، كما مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. ولكن ماذا عن مهاجرنا الجديدة؟ أو قل أوطاننا الجديدة؟ ألا نرى الآن أوطانا كاملة، حقيقة وليس مجازا، تهاجر؟
في نهاية السبعينات، هاجر مئات المثقفين العراقيين، الذين لم يعرفوا الهجرة من قبل، والذين طالهم قمع صدام حسين أولا قبل أن يطال السياسيين. وربما كانت هذه الهجرة هي الأكبر ثقافيًا في القرن العشرين بعد هجرة المثقفين الألمان بعد صعود النازية في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. وبعد سقوط النظام 2003، لم تعد سوى أعداد محدودة جدا لا تتجاوز حقا أصابع اليدين من مئات المثقفين العراقيين الذين لا أحد يعرف على وجه الدقة أعدادهم. ولكن إحصائية شبة دقيقة صدرت عام 1979 عن رابطة الكتاب والصحافيين العراقيين ذكرت أسماء أكثر من 500 مثقف. وجاءت الأحداث اللاحقة، خاصة بعد حرب الخليج الثانية 1991 والانتفاضة الشعبية التي أعقبتها لتضاعف هذا العدد أضعافا. وفي هذا القرن، ونحن في بدايته، أدى قمع بشار الأسد إلى هجرة أعداد كبيرة من المثقفين السوريين بمختلف الاختصاصات. لا أحد يعرف أيضًا عددهم بالضبط، ولكنه كبير جدا قياسا ببلد صغير مثل سوريا.
لقد أنتج المثقفون العراقيون في المنفى الذي تحول إلى مهجر، نتاجا كبيرا كما ونوعا، وفي مختلف الحقول الثقافية والإبداعية، إذا استثنينا السينما والمسرح لأسباب معروفة. ويشكل هذا النتاج جزءا من الثقافة العراقية، كما كانت نتاجات الكتاب الألمان المنفيين مثل توماس مان، ستيفان تسفايغ، روبرت موزيل، فالتر بنيامين، كلاوس مان، هاينرش مان، آنا سيغرز، جزءا من الثقافة الوطنية الألمانية، على الرغم مما يحاول البعض تكريسه من مفاهيم خاطئة حول «ثقافة الداخل» و«ثقافة الخارج»، التي لا تزال للأسف تنطلق من هنا وهناك لأغراض ليست ثقافية، كما أن ما يقدمه المثقفون السوريون المنفيون، في هجرتهم الثقافية التي هي الأكبر عالميا لحد الآن في هذا القرن، من نتاج ثقافي وأدبي، على الرغم من الصعوبات الحياتية والمعيشية الكبيرة، هو جزء من الثقافة السورية المحاصرة في الداخل، وإغناء لها.
كل ذلك صحيح. ولكن النتاج الثقافي لا يؤسس وحده لبناء ثقافي متين. لقد حصل تصدع كبير في بنية الثقافة الوطنية في بلدين اعتبرا على مدى فترات طويلة من أهم المراكز الثقافية العربية، التي كانت لا تتجاوز الثلاثة مراكز، وإن انقطاعا بين المثقف وقارئه في بلده تكرس ويتكرس كلما طال المنفى. وهل يريد الطغاة أكثر من هذا؟ إن البناء الثقافي، بأسسه وهياكله وأعمدته يتم هناك، وليس هنا، وتشكيل ثقافة حقيقية تنمو في تربتها الطبيعية، وتضرب في الجذور، وتصوغ ملامح أي جيل جديد يتم هناك، وليس هنا.
من هنا نفى الطغاة المثقفين عبر التاريخ، هذا إذا لم نتحدث عن القتل والسجون. الثقافة عدوة الطغاة الأولى. هذه هي الحقيقة الدائمة في كل زمان ومكان.
ثقافات مشتتة في المنافي
ثقافات مشتتة في المنافي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة