كثيرًا ما تحسم مصائر الشعوب والدول سياسيًا من خلال المعارك العسكرية الفاصلة التي تكون بداية توجه سياسي جديد يختلف عن النمط السابق. ولعل أهم معركة سياسية في تاريخ إنجلترا كانت معركة هيستينغز الشهيرة عام 1066، التي غيرت مجرى التاريخ الإنجليزي تمامًا على جميع الأوجه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بل وثقافيًا أيضًا. فهي المرة الأخيرة التي تعرّضت الدولة - الجزيرة للغزو الكامل من القارة الأوروبية على الرغم من تكرر هذه المحاولات على رأسها معركة الأرمادا الشهيرة في 1588 عندما فشلت إسبانيا في غزو الجزر البريطانية بحريًا، ومحاولة نابليون بونابرت غزوها عام 1804 والتي لم تتجسد لأسباب لوجستية. ويومذاك، أدت معركة هيستينغز، التي وقعت في أقصى جنوب إنجلترا قرب شاطئ بحر المانش خارج مدينة هيستينغز الساحلية، إلى غزو النورمان (الآتين من إقليم النورماندي بشمال فرنسا) لإنجلترا بكل قوة البلاد لحكم القارة الأوروبية.
لقد كان الصراع بين إنجلترا والنورماندي صراعًا دفينًا منذ حقب ممتدة، ولكن استقرار الحكم الإنجليزي حال دون تفاقم التوتر بين الطرفين وساهم في كبت مطامع النورمان فيها. بيد أن هذه الظروف تغيرت على وجه السرعة بعد موت الملك إدوارد المعترف (Edward the Confessor) وخلو العرش الإنجليزي من وريث شرعي للبلاد، وعندها قرر مجلس النبلاء الإنجليزي تولية الأمير هارولد، زوج أخت إدوارد، العرش خلفًا له. وكان من المفترض أن يمر هذا الأمر بسلام لولا خروج توستيغ، شقيق هارولد على هذا القرار واعتراضه على تولية أخيه ملكًا على البلاد، بعدما صاغ إبان نفيه من البلاد تحالفًا مع ملك النرويج الذي كانت له أطماعه هو الآخر في إنجلترا. وهنا اندلعت الحرب الأهلية الإنجليزية. وفي الوقت نفسه كان الملك ويليام (النورماندي) أعلن أحقيته بالعرش على أساس وعد سابق من الملك إدوارد قبل وفاته، وقد سانده في ذلك البابا إسكندر الثاني، لأسباب غير مفهومة حتى الآن، وبدأ يستعد بجيشه لغزو إنجلترا مستغلاً حالة الحرب الأهلية في البلاد.
لقد كان من المفترض أن يتحدّ السكسونيون الإنجليز في مواجهة أطماع ملك النورمان ويليام، غير أن الجشع السياسي دفع توستيغ لبدء الصراع المسلح ضد أخيه، فأنزل قواته المدعومة من النرويجيين إلى شمال إنجلترا للاستيلاء على لندن في أقرب فرصة واستغلال حالة القلق التي انتابت هارولد بعدما كان يوجه جهده لصد الهجوم النورماندي الآتي من الجنوب. واعتمد الملك هارولد استراتيجية متوازنة، إذ كانت أولويته القضاء على جيش أخيه والنرويجيين أولاً، ومن ثم التفرغ لمواجهة النورمانديين بعد ذلك.
وبالفعل أرسل هارولد جزءًا من قواته إلى الشمال فالتقى الجيشان في معركة ستامفورد بريدج (وهي قرية في مقاطعة يوركشاير) عام 1066 التي انتهت بهزيمة قاسية لتوستيغ وملك النرويج اللذين قتلا في المعركة وتفرقت قواتهما تمامًا، وبعد هذه المرحلة تحرّك الجيش الإنجليزي جنوبًا وبدأ الملك هارولد يجمع قواته لمواجهة الجيوش النورماندية الغازية التي أنزلت قواتها بالفعل بالقرب من مدينة هيستينغز الإنجليزية تأهبًا للغزو الشامل لشبه الجزيرة.
تشير المصادر التاريخية إلى أن قوات الملك هارولدز بلغت قرابة ثلاثة آلاف نظامي إلى جانب قرابة خمسة آلاف من الميليشيات التي كانت أقل كفاءة من الجيش النظامي، بينما ضمت قوات الملك ويليام قرابة ألفي فارس وخمسة آلاف جندي نظامي مدرّبين تدريبًا عاليًا. ولقد تعمد الملك هارولد أن يتخذ موقعًا حصينًا فوق تلة مرتفعة للغاية لكي يحد من قدرة فرسان العدو على المناورة، خاصة أن قواته من الفرسان كانت محدودة للغاية مقارنة بالعدو. كذلك فإن دفاعاته المرتفعة كانت لتجعل من مهمة النبّالين (رماة السهام) في جيش ويليام أمرًا صعبًا للغاية بسبب ارتفاع المسافة. وبالفعل، أصبح كان واضحًا أن وضعية الجيش الإنجليزي باتت أفضل من وضع نظيره النورماندي، وهو ما انعكس على ساحة المعركة على الفور في اليوم الأول، إذ عندما حاول جيش ويليام أن يستخدم السهام لخلخلة العدو فشلت كل هذه المحاولات بسبب المسافة، وعندما أمر ويليام بهجوم واسع على الجيش المدافع استطاع جيش هارولد صد هذا الهجوم بيسر ملحوظ. ولكن نسبة من الميليشيات كسرت الصفوف الدفاعية من أجل ملاحقة العدو النورماندي، بينما كانت يتراجع دون أي تغطية، وفي هذا خطأ استراتيجي كبير كثيرًا ما تقع فيه الجيوش التي لا يستتب فيها النظام، وهو ما أدّى لهزيمة هذه القوات المتدفقة، ولكن الملك هارولد كان مسيطرًا على الأمور إذ سرعان ما شد من دفاعاته مرة أخرى، وأصبح وضعه قويًا مرة أخرى، وأخذ اليأس يدب في قلوب النورمانديين.
هنا لجأ الملك ويليام لحيلة عسكرية، إذ أمر بشن هجوم عام على الجيش الإنجليزي من دون أن يكون في نية الجيش القضاء على الخصم، بل كان هدفه الاشتباك فقط ثم تمثيل الانسحاب المدروس لكي يجرّ جيش هارولد إلى الساحة المفتوحة، حيث يستطيع أن ينقضّ عليه من كل جانب ويعمل سلاح الفرسان ضده.
وطبعًا، كان من المفترض أن يلتزم جيش هارولد مواقعه الحصينة وصدّ هذا الهجوم، ولكن مرة أخرى لم تلتزم بعض التشكيلات في جيشه بالتعليمات، وعندما انسحب النورمانديون مبديين الهزيمة تدفقت قوات الجيش الإنجليزي تتبعهم بغير تنسيق. وكلما عجّل النورمانديون في انسحابهم أمعن الإنجليز في المطاردة للسيطرة على الجبهة وضمان الغنيمة، وهنا التف الجيش النورماندي وطوّق الجيش الإنجليزي، خاصة من خلال الفرسان، فكانت النتيجة هزيمة قوية للقوات المتدفقة، ولم يعد أمام هارولد إلا التمترس بقواته في مواجهة العدو على التلة المرتفعة. غير أنه أصيب في الهجوم التالي إصابة أودت بحياته، فتفرّق الجيش الإنجليزي وانتصر ويليام وصار الطريق أمامه إلى لندن مفتوحًا. ولم يمض وقت طويل حتى دخل ويليام لندن بلا مقاومة تذكر وفرض على مجلس النبلاء إعلانه ملكًا على إنجلترا ليبدأ حكم النورمان للبلاد لقرون تالية.
هكذا انهزم السكسونيون ودانت إنجلترا للحكم النورماندي وبدأ الملك ويليام تغيير الخريطة السياسية والاجتماعية للبلاد. وسرعان ما أكمل بعد ذلك احتلال باقي شبه الجزيرة البريطانية ودانت له البلاد تمامًا، فبدأ يدخل التغيرات الاجتماعية في البلاد، فأحل نظامًا أقطاعيًا فرنسيًا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعرش محل الأرستقراطية الإنجليزية. وأصبح لكل إقطاعي جيشه الخاص به من الإقطاعية التابعة له، ويدين بالولاء الكامل للملك، ويساهم بشكل مباشر في الجيش الملكي، وهو ما كسر حالة تفتت السلطة التي كانت سائدة في البلاد قبل الغزو النورماندي لها.
كذلك بدأ ويليام تغيير الخريطة الديموغرافية الإنجليزية من حيث رفعة شأن العنصر النورماندي (النورمان) على حساب السكسون، وأخذت إنجلترا السير في طريق أقرب إلى الدولة الموحّدة منها إلى الدولة اللامركزية. إذ كان الحكم المتتالي للنورمانديين مركزيًا من خلال النظام الذي أدخلوه، والذي ربط الإقطاعيات المختلفة بلندن، ولعل هذا ما قد يبرر بداية تشكيل مفهوم الدولة الوطنية المركزية في إنجلترا مقارنة بباقي الدول الأوروبية الأخرى. وهكذا فإن معركة واحدة غيّرت مستقبل الأمة الإنجليزية إلى الأبد.
من التاريخ : معركة هيستينغز
من التاريخ : معركة هيستينغز
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة