«كان محمد شجاعًا بما يكفي حين انتحر بسم الفئران. كأنه أراد أن يرينا حقيقتنا في عيون المسؤولين. نحن لسنا سوى فئران تعيش في سنغافورة غزة، وتشوّه فيها ما وكأنه لم يكن مشوهًا من قبل. محمد ليس وحيدًا في مأساته؛ فبيننا آﻻف مثله يضطهَدون ويطارَدون كل يوم. أمس جارك، واليوم أخي، وغدا غيره وغيره.. أما زلتم تسألون لماذا يهاجر شبابنا؟ أﻻ لعنة الله على الظالمين. وحسبنا الله ونعم الوكيل».
هذا ما كتبته أمل أبو عاصي، شقيقة الشاب محمد، الذي حاول الانتحار في غزة خلال الشهر الماضي متناولاً سم الفئران احتجاجًا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السيئة.
كانت أمل، التي تنتمي إلى حركة حماس، تعبّر إلى حد كبير عن واقع صعب ومتدهور يعيشه الغزّيون بعد سبع سنوات من حكم الحركة، وثلاث حروب كبيرة، وأكثر من سنة كاملة على حكومة وفاق لا تحكم. أما حالة محمد أبو عاصي، الذي يملك عربة صغيرة على شاطئ محاصر، فليست الأولى من نوعها؛ إذ سبق أن أقدم آخرون على خطوات مشابهة في فترات قريبة، بينها محاولات حرق الذات، بسبب ضيق الحال وغياب الأفق على صعد مختلفة.
بدأت قصة محمد أبو عاصي عندما اعتدى أفراد من بلدية مدينة غزّة على عربته وصادروا بعض ممتلكاته فذهب لاستردادها، لكن ثمة من أبلغوه بأنه «مستهدف من قبل رئيس البلدية». وهنا تشرح شقيقته أمل القصة قائلة: «كره محمد تفاصيل حياته البائسة، فقرّر أن ينهي حياته لأنها ما بتعني حدا، ولا بتخصّ حدا، لأنه مش ابن مسؤول، ولا عمه ولا خاله موظف بلدية. تناول كيسين سم عرس (فئران) وابتلع ما فيهما، وهو الآن في العناية المركزة».
غير أن ما حدث لمحمد لم يمرّ مرور الكرام، بل ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بما هو أكثر مأساة، وأخرج الغزّيون غضبًا دفينًا على واقع مرير، اضطر معه مسؤولون كبار في حركة حماس لزيارة أبو عاصي والطلب من عائلته «الصبر والهدوء» حتى يستردوا له حقه.
كان كثيرون يعرفون أن القصة قد تكون أكبر من صراع بين البلدية وشاب يبحث عن رزقه؛ فإذ أخرج باسم نعيم، القيادي في حركة حماس، ما يجول من مخاوف في عقول وصدور البعض، فإنه غلفه «بالحكمة» والتهديد، قائلاً: «البعض يتخيل واهمًا أنّ التاريخ يعيد نفسه، ويريد أن يحجز دور البطل في الرواية ولكن بطريقة صفيقة. عربة البوعزيزي (الشاب التونسي الذي أحرق نفسه بعدما صفعته شرطية، ففجر موته ثورة أطاحت بحكم الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي) ليست بداية القصة، بل نهايتها.. وفي ظروف وسياقات مختلفة.. ولن تتكرّر، ولكن يمكن الاستفادة منها».
إنه الخوف على مكانة حماس، ولكن لمَ القلق من حادثة قد تبدو صغيرة أمام قوة لا يستهان بها للحركة الإسلامية الممسكة بزمام الأمور في قطاع غزة؟
المحلل السياسي طلال عوكل يشرح موضحًا: «يوجد خوف عند من يتحسبون من الإساءة ومن الاحتجاج ومن إعلام غير مرغوب فيه بالنسبة لهم». ويرى أن «الأمور ما كانت تحتاج إلى بوعزيزي أو 10 من أمثاله حتى تنفجر، لكن الناس لا تملك بدائل في هذا الوقت». ثم يضيف: «لو خرجت الناس، ما البديل.. ما المشروع؟ لا يوجد. الناس والفصائل ليس بأيديها أي شيء».
عوكل يعتقد أن الناس فقدت الثقة بالقيادات، كما فقدت الاهتمام بالموضوع الوطني، ووصل الوضع العام إلى أدنى مستوى.. «لا يوجد عمق من الوعي الوطني، واستبدل بذلك الاهتمام بوجود كهرباء وماء ومعبر وخلافه». وهنا يتهم عوكل الفصائل بـ«تدمير الوعي الفلسطيني.. والناس تعبّر عن ذلك في الرغبة الواسعة بالهجرة». ومن وجهة نظره، فإن «الغزّيين لا يملكون سوى مزيد من الانتظار مع مزيد من انهيار القيم الوطنية».
* ما يقوله الشارع
وفي الشارع الغزّي، قال لنا رائد العامودي: «الحياة هنا تزداد سوءًا منذ الانقسام.. حصار كبير، وثلاث حروب طاحنة جعلت المعاناة مستمرة ويومية وعميقة». وأضاف: «لا يوجد كهرباء ولا ماء ولا رواتب، والبطالة متفاقمة، والهجرة أصبحت هدفا، والأفق غائب.. حتى الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين) أوقفت مساعداتها.. كل شيء هنا يبدو سوداويًا».
وحقًا، يعاني قطاع غزة من أزمات مركزية في قضايا الكهرباء والماء والرواتب. ويحتاج القطاع يوميًا إلى أكثر من 600 كيلوواط من الكهرباء، ولكن لا يجري توفير أكثر من 250 كيلوواط فقط نتيجة نقص الوقود وقدرات الإنتاج. كذلك يحتاج القطاع إلى 500 طن من الغاز، إلا أن ما يدخله مائتا طن حدا أقصى. وهو يحتاج إلى 700 ألف لتر من الوقود، ولكن تتأثر الكميات التي تدخله بالوضع السياسي والأمني؛ إذ تتحكم إسرائيل في عمل المعابر.
طبعًا، ليس ثمة مَن يملك عصا سحرية أو عادية، أو مَن يضع خطة قصيرة الأمد أو بعيدة لحل كل هذه الإشكاليات الحياتية التي تضاف إليها مشكلات سيادية وأمنية. ووفق «حكومة التوافق» - التي يفترض أنها تحكم قطاع غزة بعد اتفاق المصالحة بين فتح وحماس - فإن الحلول تكمن في تمكينها من الحكم، غير أن حماس لا تسمح لها بذلك، بينما تقول حماس إن «حكومة الوفاق تبتز القطاع، ولا تعيره أي اهتمام». ومع هذا التجاذب السياسي، ترتفع معدلات البطالة والفقر؛ إذ تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن نسبة البطالة وصلت في قطاع غزة إلى أكثر من 65 في المائة، بينما وصلت نسبة الفقر إلى 90 في المائة.
وأمام هذا الواقع المأساوي، تبحث حركة حماس عن مخارج وحلول أخرى بعدما جرّبت الاستفراد بالحكم ولم تنجح، وكذلك جرّبت «حكومة وحدة» ولم تنجح، فراحت تبحث عن اتفاق مع إسرائيل يمنحها بعض الإنجازات. والواقع أن قيادة حماس تخوض منذ عدة أشهر نقاشات مع توني بلير، المبعوث السابق للرباعية الدولية ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق، تهدف إلى تثبيت تهدئة في قطاع غزة، إلا أن أي بشائر لم تظهر بعد.
بعد شهور من الإنكار ونفي وجود مباحثات، أقرّت حماس بوجودها أخيرًا. وكانت «الشرق الأوسط» قد نشرت في يونيو (حزيران) الماضي عن هذه المباحثات التي تستهدف الاتفاق على تهدئة طويلة تمتد لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد، مقابل تخفيف الحصار، وتسريع عملية الإعمار، وإنشاء ميناء بحري عائم خاضع لرقابة جهات دولية.
ويومذاك ثارت ثائرة السلطة الفلسطينية التي اتهمت حماس بالانقلاب على الاتفاق الذي سبق التوصل إليه بين وفد تقوده السلطة الفلسطينية ويضم حماس من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، برعاية مصرية، ووضع حدًا – آنذاك – للحرب الدموية على قطاع غزة التي طالت لـ50 يومًا، والعمل كذلك على فصل غزة عن الضفة، ونفت حماس الأمر آنذاك.
ولكن خلال الشهرين الماضيين تضاربت تصريحات قادة حماس بين وجود مباحثات وعدم وجودها، ومَن فضّل استخدام مصطلح «دردشات»، قبل أن تبلغ قيادة الحركة الفصائل الفلسطينية في غزة أن ثمة «مباحثات لم تنضج»، حتى خرج خالد مشعل، رئيس حماس، ليتحدث عن «اتصالات تستهدف تثبيت وقف إطلاق النار».
إلا أن المفاجأة جاءت على الأثر من طرف إسرائيل؛ إذ أعلن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن لا وجود لأي مفاوضات رسمية أو غير رسمية، مباشرة أو غير مباشرة مع حماس، متهما حماس «بنشر الوهم». وفي إسرائيل أيضًا كتب داني روبنشتاين، وهو محاضر في القضايا العربية بجامعة بن غوريون والجامعة العبرية، شارحًا: «في حال تم التوصل إلى اتفاق أم لا؛ فحقيقة وجود مفاوضات غير مباشرة، ذات أهمية سياسية كبيرة. مَن الرابح ومن الخاسر من هذه المفاوضات؟ الرابح الأساسي من هذه المفاوضات هي حركة حماس. لقد حولت المفاوضات حركة حماس، وعلى رأسها خالد مشعل، إلى عنصر سياسي من الدرجة الأولى. المفاوضات مع حماس تجعلها شريكًا للحوار مع إسرائيل.. أي إن إسرائيل تعترف بحماس ممثلا لقطاع غزة (والفلسطينيين عامة؟) على حساب السلطة الفلسطينية في رام الله».
وأضاف روبنشتاين: «محمود عباس والسلطة الفلسطينية في رام الله أكبر الخاسرين. لقد اهتزت مكانة حركة فتح ومعها مكانة الرئيس محمود عباس. أما الرابح الآخر فهو طبعًا حكومة إسرائيل؛ إذ مرّت سنة على الحرب والهدوء النسبي يخيم على جنوب إسرائيل.. فلا صواريخ ولا حوادث أمنية عند الجدار الحدودي بين قطاع غزة وإسرائيل، بينما بقي الحصار قائمًا، ولئن كانت هناك تسهيلات في إدخال البضائع إلى القطاع، وكذلك في ما يتعلق بمرور الأشخاص من غزة، فمن ناحية مبدئية، لا يزال الحصار مستمرًا».
وأردف المحاضر الإسرائيلي: «من غير الواضح ما إذا كانت هناك فرصة أصلاً لاتفاق التهدئة الذي يدور الحديث حوله. ولكن من الواضح أن التفاوض في حد ذاته حول هذا الموضوع يلحق أضرارًا بالسلطة الفلسطينية. ويمكننا الافتراض أن إسرائيل وحماس مرتاحتان لهذا الأمر».
قد يكون هذا الكلام منطقيًا من الناحية السياسية، لكن على الأرض في قطاع غزة، ما عاد الناس يطيقون صبرًا، إذ يقول عمر أبو خاطر، وهو من أبناء مدينة خان يونس بجنوب القطاع: «نحن بحاجة إلى اتفاق فوري يغير حياتنا، ويفتح آفاقا أمامنا». ويستطرد أبو خاطر، الذي كان أحد المشردين بعد تدمير منزل عائلته خلال الحرب الأخيرة: «مئات الآلاف من سكان القطاع ما زالوا ينتظرون أن يُعاد إعمار منازلهم التي دمّرت جراء العدوان الأخير الذي مرّت عليه سنة كاملة من دون تحقيق أي اختراق في هذه القضية»، مضيفًا: «الاتفاق يعني إدخال مواد البناء وتحسين سوق العمل في غزة. ستكون هناك مرحلة جديدة».
وحول هذا الجانب، تقول وزارة الأشغال العامة والإسكان في «حكومة الوفاق» إن «عجلة الإعمار بدأت تدور، لكنها ما زالت بطيئة جدًا»، مصارحة بأنها «بحاجة إلى مزيد من الدعم وإيفاء الدول المانحة بالتزاماتها».
لكن الطالبة الجامعية هنادي محمد، ترى أن المصالحة الحقيقية هي التي يمكن أن تخرج الغزّيين اليوم من عنق الزجاجة. وتوضح: «نحن نريد إتمام المصالحة الداخلية لكي ننتج قيادة جديدة تشعر بنا وتلبي طموحاتنا في العيش بكرامة وتوفير سبل حياة آمنة، بعيدًا عن القتل والدمار والفقر ومزيد من الخلافات. الانقسام سبب مباشر لكل المآسي اللاحقة، وقد تحوّل أداة في أيدي السياسيين الفلسطينيين للعبث بالقطاع وبسكانه كيفما يشاءون».
مع هذا، ثمة من يرى، في كل الأحوال، أن التهدئة مثل المصالحة، مسألة بعيدة المنال.. فحسب مصادر سياسية فلسطينية، تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، ما يبث حول وجود اتفاق قريب مبالغ فيه.. و«جميع ما طرح على الحركة كان مجرد أفكار لم ترقَ لأن تكون اتفاقا أو مسوّدة يمكن البناء عليها». بينما نفى عاموس جلعاد، مسؤول الدائرة السياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، من جانبه، أن يكون هناك أي اتفاق، بل قال إنه «لا توجد أي مفاوضات مع حماس، بل اتفاق سابق قائم بقوة الردع».
وأمام سيل هذه التصريحات المتناقضة، فإنه حتى قادة من حماس في الداخل لم يفهموا ماذا يجري، ولذلك طلب مجلس شورى حماس خلال الشهر الماضي اجتماعا مع مسؤولين في المكتب السياسي لاستيضاح حقيقة المفاوضات، وجرّ نقاش التهدئة ورعاتها الغاضبين في الجلسة إلى نقاش حول مستقبل الحركة وحلفائها في المنطقة.. فالتهدئة المنشودة، حسب مصادر في القطاع، تباركها قطر وتركيا، لكنها ستغضب مصر، صاحبة التهدئة السابقة وصاحبة الكلمة العليا في فتح معبر رفح، ثم إن ثمة خلافات داخل حماس حول مسألة التحالفات.
وقالت مصادر مطلعة على ما يجري داخل الحركة لـ«الشرق الأوسط»، إن حماس تشهد نقاشات داخلية بشأن العلاقة مع إيران وقطر ومصر، فبينما ترى قيادة «كتائب القسام» أن العلاقة مع إيران مهمة لشؤون الدعم العسكري والمالي، يرى رئيس الحركة خالد مشعل وبعض القيادات القريبة منه أن «إعادة العلاقات مع إيران كما كانت قبيل الأزمة السورية ستكون لها سلبيات أكبر في ظل الأوضاع التي تشهدها المنطقة بأكملها». وبالتالي، يفضل تيار مشعل «المحور السنّي». كذلك، بينما يرى البعض أن تهدئة بمباركة قطرية وتركية حاجة ملحّة، يحذر آخرون من خسارة مصر التي يعدّون العلاقة معها أهم من التهدئة.
هذا، وبينما كان يفترض أن يزور مشعل إيران خلال الفترة الماضية، بعد شهور من حديث متكرر لمسؤولين في حماس حول الزيارة، وفيما دفع مسؤولون من حماس في غزة نحو زيارة طهران وهللوا لها، من بينهم القيادي محمود الزهار، فوجئ المراقبون بتحركات مضادة لمشعل وقيادة الخارج. ومعروفٌ أنه زار وفد من الحركة بقيادة مشعل المملكة العربية السعودية قبل أيام من عيد الفطر، حيث أدى الوفد العمرة، والتقى عددًا من قيادات المملكة؛ على رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، قبل أن يلتقي عدة مبعوثين أوروبيين، ويزور تركيا في رسالة أخرى حول الاقتراب أكثر من «المحور» الذي يواجه سياسات إيران في ما يتعلق بالأزمة السورية. ولم يخفِ مسؤولون في حماس أن الزيارات الأخيرة لمشعل أثارت «سوء فهم» في طهران.
من جهة ثانية، لم تحسم حماس أيّا من الملفات الأكثر أهمية: المصالحة، والتهدئة، والحلفاء. ولا يبدو الأمر راهنًا بيدها فقط، لأن اللاعبين الإقليميين في المنطقة الذين تتأثر بهم حماس، يتأثرون بدورهم بالمناخ الدولي العام، فتتغير أولوياتهم ومصالحهم من وقت إلى وقت. وبالتالي، الأهم هو ما تفعله إسرائيل، التي قال وزير دفاعها موشيه يعالون «الوضع القائم سيستمر». وهذا يعني لا حرب ولا سلم ولا ميناء ولا بناء..