جيريمي كوربن يحبه اليساريون ويخشاه الآخرون

مع العد التنازلي لمعركة زعامة حزب العمال البريطاني

جيريمي كوربن يحبه اليساريون ويخشاه الآخرون
TT

جيريمي كوربن يحبه اليساريون ويخشاه الآخرون

جيريمي كوربن يحبه اليساريون ويخشاه الآخرون

«إنه أطول رسالة انتحار في التاريخ». بهذه الكلمات البسيطة وصف السياسي البريطاني العمالي اللامع جيرالد كوفمان البرنامج الانتخابي الذي خاض حزب العمال انتخابات 1983 على أساسه، ومُني بسبب راديكاليته اليسارية بهزيمة مريرة أمام المحافظين بزعامة رئيسة الوزراء – يومذاك – مارغريت ثاتشر. في تلك الفترة، كان اليسار قد فاز بفارق بسيط بزعامة حزب العمال، ممثلاً بشخص السياسي والمثقف مايكل فوت، مستفيدًا من نفوذ النقابات والحركيين، بمن فيهم الجماعات الماركسية والتروتسكية. وأدت هيمنة اليسار على الحزب إلى انسحاب عدد من قادة اليمين العمالي عام 1981 من صفوفه، ثم فقدانه حيّز الوسط في الساحة السياسية، ما أفضى إلى خسارته واكتساح ثاتشر الانتخابات بفارق ضخم.

يفترض أن تحسم يوم السبت المقبل معركة زعامة حزب العمال البريطاني المعارض، وإذا صدقت استطلاعات الرأي فإن النائب جيريمي كوربن، المرشح اليساري المتشدّد، سيحصل على أكبر عدد من الأصوات التفضيلية الأولى، بل ولا يستبعد كثيرون أن يفوز كوربن بزعامة الحزب، وهو أمر سيطرح علامات استفهام كبرى على قدرته على البقاء قوة سياسية برلمانية فاعلة، مع أن قلة تبدى قلقها من أن يتسبب بالضرورة بانشقاق مدمر كالذي حدث للحزب عام 1981.
كوربن، يعد الوريث الطبيعي والشرعي لقادة اليسار الآيديولوجي عبر مسيرة الحزب، الذين يقفون مع المستضعف والفقير، ويؤمنون بهيمنة القطاع العام على الدولة، ويرفضون الخصخصة والمبادرات الفردية ويدعمون الضرائب التصاعدية، كما يعد كوربن مثل قادة اليسار إبان حقبة الحرب الباردة من كبار منتقدي سياسات الولايات المتحدة، وحسم الصراعات السياسية بالحروب. وفي ما يخص الشرق الأوسط يعرف عن كوربن – وتياره اليساري – أنه من أبرز مناوئي غزو العراق ومؤيدي القضية الفلسطينية، وهو اليوم ضد استخدام الحسم العسكري مع نظام الأسد في سوريا، كما أنه من دعاة التفاهم والتقارب مع إيران.

* النشأة.. ومشوار السياسة

ولد جيريمي برنارد كوربن يوم 26 مايو (أيار) 1949، في مدينة تشيبينام الصغيرة في جنوب غربي إنجلترا، لعائلة يسارية، إذ كان أبوه وأمه من أنصار السلم، وقد التقيا إبان الحرب الإسبانية. وتلقى كوربن تعليمه في مدرسة ببلدة نيوبورت بمحافظة شروبشاير بغرب إنجلترا، وترك المدرسة في سن الـ18 من دون أن يكمل تعليمه الجامعي، مع أنه عاد لاحقًا فالتحق لبعض الوقت في بوليتكتيك شمال لندن. وبعدما أمضى سنتين في العمل التطوّعي في جامايكا، عاد إلى بريطانيا وانخرط في العمل النقابي، فصار منظمًا متفرغًا في نقابة موظفي القطاع العام.
كوربن نشط في ما بعد في مواقع نقابية أخرى، كما في الحكم المحلي بعد انتخابه عضوا في المجلس البلدي لحي هارينغاي بشمال لندن. وصار خلال السبعينات من أبرز معاوني الوزير والقيادي العمالي اليساري السابق آنطوني «توني» ويدجوود بن، وانتخب أمينًا لتنظيم حزب العمالي في منطقة إيزلينتغتون (بشمال لندن).
وعام 1983 دخل كوربن مجلس العموم لأول مرة نائبًا عن دائرة إيزلينتغتون الشمالية في لندن، واحتفظ بمقعده حتى اليوم بعد إعادة انتخابه عدة مرات بلا انقطاع.
كوربن، ابن السادسة الستين، ما يجعله الأكبر سنًا من المرشحين الأربعة على زعامة حزب العمال، تزوج ثلاث مرات، وهو أب لثلاثة أبناء. يعرف أنه متقشف جدًا في حياته، فهو لا يملك سيارته، بل يستخدم دراجة هوائية في تنقلاته، كما أنه نباتي ولا يشرب الخمر، ويعرف عنه أنه من مشجعي نادي الآرسنال لكرة القدم، الذي يقع في منطقته.

* صراع اليسار واليمين

جمع حزب العمال منذ تأسيسه عام 1900 توليفة من اتجاهات متعددة على يسار الساحة السياسية في بريطانيا، تتراوح بين الديمقراطيين الاجتماعيين المعتدلين واليسار الماركسي والتروتسكي. وعبر تاريخه ارتبط، كما يدل اسمه بالحركة العمالية والنقابية في البلاد. وكان في الأصل التعبير التنظيمي عن الحركة النقابية والاتجاهات والقوى الاشتراكية.
وهكذا، في مطلع القرن العشرين فرض الحزب وجوده طرفًا رئيسًا في الصراع السياسي الذي كان يحتكره لعقود كثيرة الحزبان التاريخيان الكبيران القديمان حزب المحافظين وحزب الأحرار، وهما الحزبان المتحدّران من حزبي «التوريز» (Tories) و«الهويغز» (Whigs). وفي أوائل عقد العشرينات من القرن الماضي نجح الحزب بتجاوز حزب الأحرار في الانتخابات العامة من حيث عدد المقاعد ليغدو المنافس المباشر للمحافظين. وعام 1924 شكل زعيمه رامزي ماكدونالد الحكومة لأول مرة حكومة أقلية مرتين عام 1924 ثم بين 1929 - 1931، فبات أول رئيس وزراء عمالي في تاريخ بريطانيا.
بعد ذلك شارك العمال في «حكومة الحرب» الائتلافية بين 1940 و1945، قبل أن يحقق انتصارًا انتخابيًا مهمًا بعد الحرب بقيادة كليمنت آتلي، ويشكل حكومة حزبية قوية ومتماسكة أجرت إصلاحات كبرى، في مقدمها غرس دعائم دولة الضمانات والنفع العام، و«خدمة الصحة الوطنية». غير أن الحزب ابتعد بعد ذلك عن الحكم عندما تعاقبت على السلطة حكومات محافظة ترأسها وينستون تشرتشل وأنطوني إيدن وهارولد ماكميلان وإليك دوغلاس هيوم، إلى أن استعاد الحكم عام 1964 بفضل زعيمه هارولد ويلسون الذي حكم مرتين (1964 – 1970، و1974 - 1976) وأكمل فترته الثانية (بين 1976 و1979) جيمس كالاهان.
منذ البداية احتد الصراع الآيديولوجي بين الجناحين اليساري واليميني في الحزب، فقاد رامزي ماكدونالد ما اعتبر الجناح اليميني بينما كان كير هاردي زعيم اليسار. وبعد، آتلي، اعتبر خلفه هيو غايتسكيل وسطيًا أقرب إلى اليمين، ولقد توفي قبل أن تتاح له فرصة تولي الحكم. وعندما فتحت معركة خلافته وقف اليسار مع هارولد ويلسون بينما دعم اليمين منافسه جورج براون ففاز ويلسون.
وعندما قرّر ويلسون التقاعد عام 1976 أيد اليسار وزير الداخلية يومذاك جيمس كالاهان، بينما دعم اليمين وزير المالي روي جينكينز، ومجددًا ربح اليسار وصار كالاهان رئيسًا للحكومة.
سنة بعد سنة بنى اليسار قواعده داخل الحزب وعزز قواه، أمام خلفية «الحرب الباردة» و«حرب فيتنام»، وازدادت مرارة اليمين ونقمته. ومع اشتداد قوة اليسار تضاعفت ثقة النقابات بقوة وسطوتها، ما أدى إلى حدوث إرباك اقتصادي ونقدي كبير وصل مرحلة خطرة في ما عرف بـ«شتاء السخط» 1978 - 1979.

* عصر ثاتشر.. ثم بلير

في هذه الأثناء انتخب المحافظون الوزيرة السابقة مارغريت ثاتشر زعيمة لهم، ووضعوها على الطريق لتصبح أول امرأة تحكم بريطانيا. ثاتشر، اليمينية المتشددة، استفادت كثيرا من تشدّد اليسار والنقابات وتبرّم المواطن العادي غير المسيّس بسطوة النقابات وشلها البلاد ساعة تشاء بالإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات.
وفي انتخابات ربيع 1979 فاز المحافظون بقيادة ثاتشر، وبدأت «السيدة الحديدة» معركة تصفية نفوذ النقابات. ردّ العمال على هذا التحوّل جاء بالذهاب أبعد باتجاه اليسار تحت رايات مايكل فوت و «توني» بن، ولا سيما بعدما انشق اليمين العمالي وعلى رأسها روي جينكينز ورفاقه في ما عرف بـ«عصابة الأربعة» (شيرلي ويليامز وديفيد أوين وويليام رودجرز). وبالفعل، كسب فوت معركة زعامة الحزب على حساب وزير المالية والدفاع السابق المعتدل العاقل دينيس هيلي، ومن ثم خاض العمال انتخابات 1983 ببرنامج غاية في الراديكالية الاقتصادية السياسية وحتى العسكرية (نزع بريطانيا سلاحها النووي من جانب واحد). وكانت النتيجة إحراز ثاتشر فوزها الثاني ولكن بأغلبية كاسحة هذه المرة أهلتها للقضاء تمامًا على سطوة النقابات. وبفضل قوة ثاتشر وتمزق العمال وتشتتهم حكم المحافظون البلاد حتى 1997.
خلال سنوات التمزق والتعلم من الأخطاء مهد زعيمان عماليان هما نيل كينوك وجون سميث الطريق لعودة العمال إلى سكة السلطة، مع أن أيًا منهما لم ينجح ببلوغ الحكم. كينوك، اليساري السابق خسر انتخابات عام 1992 ولكن ليس قبل تقليمه أظافر اليسار المتطرف. أما سميث الوسطي المعتدل فأكمل مهمة كينوك وكاد يقود الحزب للفوز لولا أزمة قلبية قضت عليه في سن الخامسة والخمسين، فخلفه اليميني طوني بلير. وتحت زعامة بلير وشعاره «حزب العمال الجديد» (New Labour) استعاد العمال الحكم في مطلع مايو 1997.

* المعركة الحالية

هذه الرحلة ضرورية لفهم ما يمثله جيريمي كورين، والمخاطر التي يرى خصومه السياسيون أنه يشكلها على فرص حزب العمال باستعادة الحكم.
اليوم يخشى كثيرون داخل حزب العمال أن يؤدي انتصار كوربن – إذا حصل – إلى عودة الحزب إلى سنوات التيه والضياع بين 1979 و1997، على اعتبار أن كوربن ابن القناعات السياسية المجردة وغير المساومة التي رفضها البريطانيون تكرارًا. غير أن جاذبية كوربن تأتي من أن شخص بلير وإرثه، على الرغم من انتصاراته الانتخابية، أفقدا الحزب «روحه» وحماسة محازبيه الحقيقيين.
وفي اسكوتلندا، بالذات، اتجه اليساريون الممتعضون من «انتهازية» بلير إلى التصويت للحزب القومي الاسكوتلندي، وهو ما أفقد العمال قوتهم التقليدية في اسكوتلندا التي كانت أضمن معاقلهم ومنها خرج ماكدونالد أول رئيس وزراء عمالي.
أخيرًا، ينافس كوربن على زعامة العمال ثلاثة مرشحين، اثنان منهم وزيران سابقان هما آندي بيرنام وإيفيت كوبر، وهما محسوبان على وسط الحزب، بل تعد كوبر من أقرب المرشحين لرئيس الوزراء السابق غوردن براون.
أما المرشح الثالث فهي ليز كندال، عضو «حكومة الظل» وتمثل التيار اليميني المؤيد لبلير. وثمة من يعتقد أن فرصة كندال شبه معدومة، بينما يرى البعض أن فرصة بيرنام وكوبر تكمن في الأصوات التفضيلية الثانية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.