صلاح اللقاني مهندس ري يضبط شعرية الوجع على إيقاع محبة الحياة

قصور الثقافة أصدرت أعماله احتفاء بصوته المتميز في جيل السبعينات بمصر

صلاح اللقاني مهندس ري يضبط شعرية الوجع على إيقاع محبة الحياة
TT

صلاح اللقاني مهندس ري يضبط شعرية الوجع على إيقاع محبة الحياة

صلاح اللقاني مهندس ري يضبط شعرية الوجع على إيقاع محبة الحياة

وعي النص ووعي الشاعر، ثنائية تتقاطع وتتجاور بتراوحات شفيفة في شعر صلاح اللقاني، وتكاد تشكل مدار أسئلته وهواجسه وأحلامه ورؤاه، على مدار تجربته الشعرية التي أثمرت ستة دواوين شعرية حتى الآن، صدرت حديثا في جزأين عن هيئة قصور الثقافة بمصر.
يكشف الكتابان عن صوت اللقاني المتميز في جيل السبعينات المصري، كما تتبدى تحولات ومفاصل تجربته فكريا وشعريا في فضاء هذه الثنائية، وكيف حافظت منذ البدايات على صوتها الخاص من خلال مسافة ما بين الوعيين، لتناور من خلالها اشتباكات الداخل والخارج، وترصد كيف يفترقان ويلتقيان، ويتخلقان من رحم الشعر، وفي إطار رؤية حية، لم تزل مفتوحة بعين طفل على يقين الحياة ويقين الشعر معا، وترى الاثنين بمثابة كينونة واحدة، من دونها يصبح وجود الآخر مهددا.
قصيدة اللقاني، الذي خبر تحولات الماء من خلال عمله «مهندس ري» لا تترجم الحياة، ولا تسعى لاستعارتها أو محاكاتها، وإنما هي مهمومة أصلا بمساءلاتها، والتعاطي معها من كل الأبعاد والزوايا، بل تكاد تربت على كتفيها، وتعتذر لها عن مساوئ البشر، إنها قصيدة محبة للحياة، تحتفي بها حتى في أقصى لحظات التناقض والضعف والقوة. كما أنها ترفض أن تتحول إلى قناع لها، لأن مسرح الحياة يتجدد يوميا، وتتفاوت أدورانا فيه، لكن لا أحد يحتكر البطولة لنفسه إلى الأبد.
في الجزء الأول من أعماله الشعرية، الذي يضم دواوين «النهر القديم» و«ضل من غوى وسر من رأي» و«تاسوعات»، يبدو وعي النص ووعي الشاعر في حالة من المفارقة الدائمة، يتسع إيقاعها ويتشابك فنيا وواقعيا، في مساحة قلقة وخشنة، بين الذات والموضوع، أحيانا تصل إلى حد الترصد، والشك في الواقع نفسه. ومن ثم فالفعل الشعري هو فعل مواجهة وتحفز وإدانة، يرى يقينه في الصرخة، في فضاء النشيد والشعار والأغنية، بل في رمزية الانتظار والرجاء والأمل، وإشاعة روح الأنوثة في النص.. وكما يقول في قصيدة بعنوان «العبور»:
«أبحث يا مدينتي
عن طائر يحملني
عن خنجر يذبحني
أغنية بلا طبول.
أبحث يا مدينتي
عن طائر ينبتني
عن شاعر يهزّني
على مشارف الخروج والدخول.
أبحث يا مدينتي
في وجهك الصخري عن ملامح الجنون
لعلني أضيع فيها مرة
أو مرتين
لعلني أجن
لعلني أجيء في مواسم القبول».
بيد أن هذه الرمزية تكشف عن تنوعات فنية لافتة في هذه الدواوين الثلاثة المبكرة. تؤكد مقدرة الشاعر على تشييد عالمه بقوة، وتقليب تربته ومناخه بسلاسة وتناغم في فضاء الأعراف الشعرية التقليدية الشائعة في تلك الفترة، من سبعينات القرن الماضي، والتي شهدت موجة رائدة في الشعر المصري اصطلح على تسميتها بـ«شعراء السبعينات»، انحازت للتجريب وقيم الحداثة، واستطاعت بالمغامرة والمعرفة الواسعة أن تضخ دماء جديدة في مشهد القصيدة المصرية آنذاك.
هذا التحول يتجسد في قصائد هذه الدواوين، حتى وهي تستند على «القضية»، في مظانها العامة سياسيا واجتماعية وثقافيا وعاطفيا. فحركة الفعل الشعري تبدأ من الذاتي، من الوجع الخاص، وتنوع مساراتها على مستوى اللغة وبناء الصورة، والبنية الموسيقية العروضية في الغالب الأعم، وإيقاع المشهد وامتداداته في الداخل والخارج، وهي في هذا تحاول أن تكسر الحواجز، بين الفعل الشعري كـ«إناء» وما يحتويه، وما يجترحه من علاقات، بعضها واضح، وبعضها ملتبس، أو غامض، يكمن فيما وراء وعي النص ووعي الشاعر، واللغة والتاريخ والتراث والزمن، زمن الشعر والوقائع والأشياء.
وهكذا، يتكئ الفعل الشعري على «الأنا»، كلبنة أساس أولى، ويناور أحيانا باستخدام تقفية لها وقع دائري، ينساب بشكل صريح، أو مضمر في النص، في محاولة لخلق همزة وصل غير مرئية، تدفع النص دراميا، لبؤرة أوسع، في حواره مع الذات والواقع.. فكل شيء يبدأ من الذات، ويرتد إليها، بل إن الواقع نفسه يبدو في كثير من النصوص بمثابة صدى لحركة الذات، حتى وهي تتفتت وتعتصر الوجع.. وتتحول إلى محض ثقوب في كف الزمن والحياة.. وهو ما تشير إليه قصيدة بعنوان «الوقوف على الركبتين» يقول فيها:
«الشارع المحمول في سيارة الظهيرة
يخلعني..
كالجورب المثقوب
ثم ينحني
يلمني من بعد ما انفرطتُ وتنشطرتُ وانحصرتْ
من بعد ما بكيتْ
من بعد ما خرجتُ أو عبرتُ أو دخلتُ
من بعد ما صليتْ
يا مستطيل الضوء بددني غبارا ناعما
واجعلْ دمي
قطبا لريح الكون
أو باب لنور الشمس
أو شجرْ
ينمو على رخام ضحكتي إذا بكيتْ».
ورغم ذلك، تتخفف النصوص كثيرا من حمولتها الرمزية الثقيلة، وتصبح أقرب إلى المناجاة العاطفية، حينما تتشرب بروح الأنثى، بيد أن هذه الروح نادرا ما تخلص لذاتها، حيث تبدو غالبا، وكأنها طبقة أخرى أو عجينة في طوايا هذه الحمولة الرمزية.. «سأجيء يوما أحمل البشرى إليكِ / وأقول كان الليل أعمى والسما خرساء والقمر الصغير». أو: «هي الآن تعرف أن اسمها منحته القواميس معنى جديدا / وشكلا جديدا / فتهرب من شكلها المستعار / وتهرب من صوتها المستعار / وتهرب من حزنها المستعار / وتبحث وسط الحجارةِ عن وجهها المتفتت تحت الجدار».
وطيلة رحلته مع الشعر لا ينفصل صلاح اللقاني عن قصيدته، لكنه مع ذلك قادر على أن يمنحها عزلتها، لتتخلص من شوائب العالم والواقع والعناصر والأشياء، وتطفو فوق العقد والفواصل السميكة في الزمن والإنسان، وفي تعارضات الجسد والروح. لذلك تنفتح بقوة على الحياة والموت معا، كأنهما خطوتان في خطوة واحدة.. كأنهما مرثية لطريق لم يزل مفتوحا على المجهول.. فتبدو هذه العزلة وكأنها اللحظة التي تنصت فيها الذات لشجنها الخاص، خصوصا حين يعلو صوت الفقد والانخطاف، هنا تشف حكمة السنين الشعر معا.. فحينما يرثي الشاعر صلاح جاهين، تبدو وكأنها مرثية للطبيعة:
«هذا قرارك كلهُ
عاد التراب إلى التراب
حرّا..
نظيفا من بقايا الروح
من قصص العذاب
فابدأ على الورد ارتحالك والشجرْ
وارحل إلى طين الإناءِ
إلى بدايات المطرْ
وفي ديوانه «تاسوعات» يستشرف الميثولوجيا في شذراتها الفلسفية، كاشفا عن وجع النار، في خماسية شعرية تعلق فيها ومضات من أقانيم أفلوطين، الفيلسوف السكندري الشهير، وتتقاطع مع الموروث الشعبي والإسلامي وإيقاع البيئة المحلية. ويكشف الديوان عن خيال جامح ومقدرة على النفاذ في ما وراء العناصر والأشياء، إذ تبدو خماسية النار، وكأنها صرخة الميلاد الأولى والشهوة الأولى للكون والكائنات، ويمتد هذا الاستشراف بتنوعات متباينة إلى الميثولوجيا الفرعونية، وتتناثر في حنايا القصائد مشهدية المعابد والرموز وطقوس الكهنة وأسماء الآلهة والرموز والعلامات المصرية القديمة.. «كان بهو الروح مفتوحا على هواء منير / وخادمات المعبد ينقلن جرارا الماء من النيل / ويسكبن اللبن.. ويصنعن سلالا من الخوص لحمل الأزهار.. وأنواع الأنبذة ولحم التيوس».
ولا يبدو لي هذا الاستشراف المتنوع مجرد تجوال عابر في حقول الزمن، وإنما هو عتبة مهمة، يريد أن يصنع الشاعر من خلالها أسطورته الخاصة، ويؤكد في الوقت نفسه شكلا من أشكال الديمومة أو التلاقح بين وعي الأنا لذاتها ووعيها للزمن، وأن الإدراك المدهش لكل منهما للآخر هو محاولة للمعرفة وفتح نوافذ جديدة للحلم والذاكرة. فالأنا في كثير من النصوص تتلبس شكل الراوي المتخفي وراء حكاية ما، قد تبدو مبتورة وهشة وناقصة، أو نفضت غبارها وتحولت إلى أثر على جدار الزمن، لكنه مع ذلك ليس راويا عليما، بحسب أدبيات السرد الروائي، وإنما هو طاقة حية وطازجة لطرح الأسئلة، أسئلة الوجود الأساسية، والواقع المعيش، وكأنها لم تطرح من قبل، بل كأن لحظة التكوين تبدأ توا من النص، تتخلق في هوامشه وظلاله كجسر لعبور الروح والجسد إلى معنى الكون، وأيضًا معنى الفساد:
«وأنه قد جعل لأبدان النساءِ
وطأة الحصنِ
وخفة الهواءِ
ولمشاهدهنَّ قلق الوحش
وشفافية الزلازلِ..
وقيلَ: بل هو قنبلة الأضدادِ
تحت لسان الكونِ
حيث ترتجف العناصر في اتحادها وانفصالها
وحيث الأرض.. قفا السماء».
وفي الجزء الثاني من الأعمال الشعرية والذي يضم دواوين: «ترتيب اللحظات السعيدة» و«الكون والفساد» و«رنين الرمل» يفترق ويتقاطع هذا الهم بوشائجه الفنية والفكرية. بيد أنه يصعد وبتنامي بطاقة تحرر، تندفع أكثر إلى براح التجريب والفضاء النثري، وتنفض الذات قشرة التوازنات الشعرية الكامنة تحت قبضة وعي الشاعر، ووعي النص معا. وتبرز معادلة الكون والفساد، وكأنها محاولة لترتيب اللحظات السعيدة، أو اصطياد الأزمنة الهاربة من هواء المعادلة نفسها، بينما يبدو رنين الرمل، وكأنه صدى لصراع خفي، تبحث فيه العناصر والأشياء والكائنات وحقائق الواقع المعيش، عن معنى آخر لوجودها، معنى تتلمسه بخفة الكائن فوق سطح النص، وتتشرب دلالاته، وهي تنداح بحيوية نحو الأعماق.. وحسبما يقول: «قال له: إن الماء رائق مثل عين الديك، فاقترب بوجهه من سطح المياه، وهناك سمع فجأة أذانًا عاليا يدوي في أذنيه».
بهذه الطاقة الجديدة يدفع صلاح اللقاني قصيدته إلى أقصى درجات البوح والاختزال، أقصى درجات الشفافية والكتمان.. محولا نصه في ديوانه «رنين الرمل» الذي يختتم به أعماله الشعرية المجمعة، إلى معزوفة شعرية حية، يتضافر فيها إيقاع البصر والبصيرة، وفي شكل شعري، يعتمد على عفوية الومضات الخاطفة. وكأنها زمن خاص يجدد نفسه تلقائيا كلما تبدلت حركة النص من الأسفل إلى الأعلى أو العكس.. وكما يقول في الديوان نفسه وكأنه يستبطن مراوغة الوجود: «كأنه الظل لا يثبت على حال»، أو حين يتساءل منحازا لرقة وجمال الطبيعة «من أجل ماذا يتحمل حاجز الموج كل هذه الصفعات؟!».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!