بعد أربع سنوات من نجاح واشنطن في اغتيال أنور العولقي، الحركي المتطرف في غارة بطائرة من دون طيار (درون) صار نفوذه في أوساط الجماعات المتطرفة من «القاعديين» أكبر من أي وقت مضى. فهل هناك طريقة أفضل لإيقافه؟
يكفي أن تكتب اسم أنور العولقي في محرك البحث على موقع «يوتيوب»، وسوف تجد 40 ألف زيارة لتلك الصفحة. وأغلبها تعرض الوجه المخلص والمبتسم ذا الصوت الهادئ لأول مواطن أميركي يجري تعقبه واغتياله من دون محاكمة بواسطة حكومة بلاده منذ الحرب الأهلية الأميركية. إليكم الشيخ العولقي يتحدث عن الزواج السعيد، وعن طبيعة الجنة، وعن يسوع المسيح، الذي يعتبره المسلمون نبيًا فحسب، وعن التسامح، وعن شهر رمضان المبارك، وأيضًا، وبمنتهى الغرابة، عن البدانة والإفراط في تناول الطعام في الإسلام. إليكم العولقي، أو الشيخ أنور، كما لا يزال الكثير من أتباعه ينادونه، يخلط الآيات القرآنية العربية باللغة الإنجليزية الأميركية بمنتهى السلاسة في فصول من سلسلته التي صدرت في 53 أسطوانة مدمجة حول حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي كانت من أكثر المواد انتشارا بين المسلمين المتحدثين بالإنجليزية.
كثير من الفيديوهات تجد مادة ذات طبيعة مختلفة تماما. ستجد العولقي يشرح لماذا لا يجب أن تثق في غير المسلمين، وكيف أن الولايات المتحدة في «حالة حرب» مع الإسلام، ولماذا نضال حسن، الذي قتل 13 شخصا رميا بالرصاص في قاعدة فورت هود العسكرية الأميركية، وعمر فاروق (أبو المطلب)، الذي حاول نسف طائرة ركاب فوق مدينة ديترويت، يعتبران من الأبطال. وهناك، أخيرًا، تأتي دعوته للجهاد المسجلة في عام 2010، حينما كان بالفعل على قائمة المطلوبين للقتل لدى إدارة الرئيس أوباما وفر هاربا للاختباء في مناطق القبائل اليمنية. وهناك، مع الثقة والاتزان أمام مقاطع فيديو «يوتيوب»، كان يعمل على توضيح كيفية سد شقوق النوافذ، كما يفسر بالدليل لماذا يعد واجبا لكل مسلم أن يقتل الأميركيين.
ذلك هو الإرث الرقمي للعولقي، الذي قضى نحبه في غارة بطائرة من دون طيار في اليمن في سبتمبر (أيلول) عام 2011. دافع الرئيس باراك أوباما، في حديثه أمام الدورة الـ116 للمؤتمر الوطني في بيتسبرغ الشهر الماضي، عن سجل إدارته في مكافحة الإرهاب، حيث قال: «لقد أظهرت أنني لن أتردد في استخدام القوة لحماية بلادنا، بما في ذلك حمايتها من التهديدات الإرهابية». ثم سرد أسماء بعض الإرهابيين الذين قتلوا خلال فترة حكمه، حيث ذكر، وسط تصفيق من الحاضرين، اسم أنور العولقي زعيم فرع تنظيم القاعدة في اليمن.
تستخدم الحكومة الأميركية كناية استعارية - «أزيل من ساحة القتال» - للتعبير عن اغتيال المستهدفين من الإرهابيين. ولكن أنور العولقي لم تتم إزالته بأي حال من الأحوال من ساحة القتال في أي صراع آيديولوجي، أو معارك الأفكار. فقبل خمسة أيام من حديث الرئيس، فتح محمود يوسف عبد العزيز، مهندس الكهرباء البالغ من العمر (24 سنة) ويعاني من اضطرابات، النار على منشأتين عسكريتين في مدينة تشاتانوغا بولاية تينيسي، مما أسفر عن مقتل 4 من مشاة البحرية وبحار. واكتشف محققو مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف بي آي) الذين فحصوا حاسوبه الخاص أنه كان يشاهد فيديوهات العولقي خلال الأسابيع السابقة على حادثة إطلاق النار.
لم يكونوا مندهشين من ذلك؛ في مايو (أيار)، أطلق شخصان النار على مسابقة لتصوير النبي محمد بالرسوم المتحركة في بلدة غارلاند بولاية تكساس. وكان أحدهما يستخدم الصورة المألوفة لأنور العولقي، مع النظارات ذات الإطار المعدني الخفيف واللحية الكثيفة، كما يبدو من صورته الشخصية على موقع «تويتر»، والآخر أعطى أسطوانات العولقي المدمجة لوالدته، التي قالت إن اغتيال رجل الدين المتطرف في عام 2011 كانت نقطة تحول جذرية في مسار ابنها نحو التطرف.
لقد أصبحت مثل تلك الاكتشافات أمرا اعتياديا وروتينيا لدى المحققين في قضايا مكافحة الإرهاب: افحص الحاسوب المحمول للمشتبه به، وسوف تجد العولقي بارزا في تاريخ التحميل والبحث. ولقد كان ذلك واضحا وثابتا في الكثير من الحالات. وكانت الفتاة شانون كونلي (19 سنة) من ولاية كولورادو والتي اعتنقت الإسلام قد خلفت وراءها كومة من أسطوانات الفيديو الرقمية الخاصة بالعولقي قبل محاولاتها السفر بالطيران إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش الإرهابي العام الماضي. وفي يونيو (حزيران)، حينما ألقت المباحث الفيدرالية القبض على عدد من الرجال من ولاية نيوجيرسي ووجهت إليهم الاتهامات بالتآمر والإعداد لشن هجمات إرهابية، قال عملاء المباحث الفيدرالية إن اسم العولقي كان شائعا في محادثات مواقع التواصل الاجتماعي فيما بينهم. وأفاد المسؤولون بأن أحدهم تفاخر بأنه شاهد كل محاضرات العولقي تقريبا، وأضاف: «لقد قتلته أميركا»، وهي العبارة التي رد عليها شريكه بكل ثقة، ليقول: «لسوف تحترق أميركا جراء ذلك».
ثم إن الأخوين تسارناييف، من الشيشان، اللذين فجرا قنبلة مصنوعة من آنية الطهي في سباق ماراثون بوسطن عام 2013، يستمدان هما أيضًا جزءًا من خلفيتهما الآيديولوجية ومهارات صناعة القنابل من جهود العولقي على الإنترنت. ولقد غرد جوهر تسارناييف، الشقيق الأصغر، على صفحته في «تويتر» يقول: «استمعوا لأنور العولقي... هاكم سلسلته الجديدة»، وذلك قبل أسابيع قليلة من شن الهجمات، وأضاف: «سوف تحصلون على كم هائل من المعرفة».
وشريف كواشي، أحد الإخوة الفرنسيين من أصول جزائرية، الذين قتلا فريق العمل بصحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة في باريس في يناير (كانون الثاني)، أخبر إحدى القنوات التلفزيونية في آخر كلمات نطق بها قبل مقتله بواسطة الشرطة الفرنسية: «لقد أشرف الشيخ أنور العولقي على ذلك الهجوم». وتستمر قائمة المؤامرات والهجمات المستمدة من فكر العولقي.
في واقع الأمر، يبدو أن تصريحات العولقي تشهد زخما كبيرا ومتزايدا اليوم أكثر مما كان عليه الأمر، وهو على قيد الحياة، بسبب أنه لقي مصرعه على أيدي القوات الأميركية. في 30 سبتمبر 2011، وهو اليوم الذي أعلن في أوباما عن مقتل العولقي، ألحقت الكثير من المواقع الإسلامية لفظة «الاستشهاد» بأخبارها المنشورة.
وأكد فرع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وهو الفرع اليمني الذي ينتمي إليه العولقي، مقتل الرجل في بيان جاء فيه: «لقد قتلت أميركا الشيخ أنور، فليتغمده الله برحمته، ولكنها لن تتمكن من اغتيال أفكاره. إن (استشهاد) الشيخ أنور هو حياة جديدة وتجديد لأفكار الشيخ وأسلوبه». لقد كانت مزاعم تخدم مصالحهم الشخصية وقتها، ولكن بعد مرور نحو أربع سنوات، بدا الأمر غير ذلك.
تنتقل أعمال العولقي المجمعة بسلاسة من تمجيد أبطال الإسلام القدامى إلى الدعوة إلى الذبح باسم الله. وتلك المواد المنشورة عبر الإنترنت بعد وفاة الرجل تثير تساؤلات محيرة مثل: هل العولقي بمثل تلك الخطورة - وربما بمزيد من الخطورة - وهو ميت أكثر مما كان وهو حي؟ وهل هناك من وسيلة لتقويض رسالته من دون منحها بهاء وبريق «الاستشهاد»؟
وللإجابة عن أسئلة كهذه، تنعكس آثارها على الاستراتيجية الأميركية الأكبر ضد الجماعات الإرهابية، من الضروري إدراك التطور الذاتي للعولقي نفسه، بما في ذلك تعامله مع السلطات الأميركية، وهي القصة التي طالما أسيء فهمها.
لقد حاولت بعض الوكالات الحكومية اختصار عملية التطرف إلى مراحل حتمية شديدة الوضوح، ولكن في واقع الأمر، فإن الرحلة نحو التطرف تتسم بالفوضى، والعلاقات البشرية التي تتحدى القدرة على التنبؤ المسبق. ويعد ذلك صحيحا في حالة أتباع أنور العولقي، كما كان صحيحا كذلك بالنسبة للشيخ المتطرف ذاته. قبل أن يتمكن العولقي من دعوة الآخرين، أيا كانوا، إلى اعتناق فكر التطرف العنيف باسم الدين. كان عليه أن يؤمن بذلك هو أولا. ولقد جاءت إحدى خطواته الكبيرة في ذلك الاتجاه كنتيجة غير مقصودة للمراقبة من قبل حكومة الولايات المتحدة.
في منتصف ليل 14 سبتمبر عام 2001، كان العولقي، وهو وقتها مجرد شاب أميركي من أصول يمنية، ويعمل إمامًا لمسجد دار الهجرة المعروف في ضاحية فولز تشيرش بولاية فيرجينيا، قرب العاصمة الأميركية واشنطن، قد أنهى يوما طويلا من الإجابة عن رسالة بالبريد الإلكتروني من شقيقه الأصغر تدور حول الهجمات الإرهابية (الحادي عشر من سبتمبر) التي وقعت قبل أيام قليلة. فكتب يقول لشقيقه عمار، الطالب الجامعي الذي كان يدرس في ولاية نيومكسيكو في ذلك الوقت: «أنا شخصيا اعتبرها عملا رهيبا ومروعا»، ثم أضاف: «وأشعر بضيق وحزن شديد بسببه. إن وسائل الإعلام من كل الولايات الأميركية تهاجمنا الآن».
كان أنور مرتبكا حينها، ولكنه ربما كان من دواعي سروره أيضًا أن حفنة من الصحافيين عمدت إلى تحويل صلاة الجمعة في مسجده إلى ما يشبه السيرك. فلقد قال في ملاحظة عدها إيجابية: «لدينا مراسلون من شبكة (إيه بي سي) و(إن بي سي) و(سي بي إس)، وصحيفة (واشنطن بوست)»، مشيرا إلى غرض نبيل من وراء ذلك، ولكن يبدو من ورائه أيضًا قدر من الطموح الشخصي، حيث قال: «آمل أن نتمكن من استغلال ذلك الحشد فما فيه صالحنا جميعا».
مر ما يقرب من 4 سنوات منذ مقتل أنور العولقي في غارة أميركية بطائرة من دون طيار، ولكن عبر الإنترنت، زاد نفوذه وانتشاره أكثر من أي وقت مضى. فهل أدى اغتيال العولقي إلى تعزيز رسالته؟
كانت البلاد في حالة حداد، ظهر خلاله شعور عام بالوحدة والتحدي. ونظم أحد الجيران غير المسلمين لمسجد دار الهجرة وقفة احتجاجية على ضوء الشموع حول المبنى إظهارًا للتضامن مع المسجد. وأرسل ما يقرب من 80 من سكان أحد المباني السكنية المجاورة مذكرة تقول: «نريد من جماعتك أن تعرف أننا نرحب بك في هذا المجتمع».
وبدأ الصحافيون، الذين يبحثون عن صوت رسمي من داخل المجتمع المسلم، في المرور بانتظام أسفل الأقواس الرخامية الكبرى للمسجد أو الاجتماع في منزل عائلة العولقي المتواضع. استنكر الرجل هجمات سبتمبر، ولكنه في الوقت ذاته، وجّه الانتقادات لسجل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. ولقد أصيب الصحافيون بالذهول. وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أن العولقي، البالغ حينها (30 سنة)، كان «يبدو ممثلا لجيل جديد من القادة المسلمين القادرين على دمج الشرق بالغرب». كان الرجل مستمتعا بالأضواء. وبدا مدركا تماما للدور المزدوج الذي يلعبه: مفسرا للإسلام إلى المجتمع الأميركي وناقلا أميركا إلى المسلمين. فلقد أعلن من فوق منبره قائلا: «لقد جئنا هنا للبناء وليس للهدم. إننا ذلك الجسر الممتد بين أميركا وبين مليار مسلم حول العالم».
كان صعود العولقي سريعا للغاية. إذ ولد في ولاية نيومكسيكو عام 1971، وعاش في الولايات المتحدة حتى بلوغه السابعة من عمره، حيث كان والده في الجامعة يدرّس العلوم الزراعية، ثم انتقل إلى اليمن برفقة عائلته قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة في سن التاسعة عشرة للدراسة في جامعة كولورادو. لكنه سرعان ما ملّ من دراسته الهندسة المدنية ولم يستمر طويلاً في وظيفة هندسية للمبتدئين. ولكنه اكتشف في ذاته موهبة للوعظ والإرشاد، وتناوب مع طلاب وأساتذة آخرين إمامة الصلاة في المسجد الصغير خارج الحرم الجامعي. وبعد ذلك شغل وظيفة بدوام جزئي في الجمعية الإسلامية في دنفر. وصار إمامًا هناك ثم في سان دييغو بولاية كاليفورنيا لاحقًا، ولقد تمكن من التغلب على حالة الانقسام المجتمعي التي شهدها هناك، واستمال المهاجرين الكبار بأسلوبه المحترم وشخصيته ثنائية اللغة وثنائية الثقافة.
* خدمة «نيويورك تايمز»