أضعف جوانب «داعش»، رغم أنه أصل، شرعي وفكري، له ما يدّعيه من «خلافة». فهي «خلافة» مجهول غير ممكّن بايعه مجهولون غير ممكنّين. ورغم أن «داعش» يقاتل خصومه والفصائل المعارضة له في سوريا على البيعة لهذا «الأمير» الذي لم يظهر سوى مرة واحد منذ يوليو (تموز) 2014 ويدّعي أنه ممكّن، ورغم حملته الشديدة على معارضيه واتهاماته لهم بالعمالة والخيانة والردة، وأن الظواهري «رجل فقد ظله» كما كتب أحد أنصار «داعش» وأنهم «أبناء إيران» كما كتب آخر، وإعدامه كثيرا من ممثليه عمليًا.. على الرغم من كل هذا فإن الحملة الفكرية والنظرية ضد خلافته وضد غلوائه الخارجية - حتى صارت توصف في أدبياتهم وخطابهم بـ«خوارج البغدادية» - لم تجدِ نفعًا، ولا يزال التنظيم مرفوضًا من رفقائه وشيوخه السابقين من «القاعدة» وفروعها ومثيلاتها من الحركات الراديكالية المتطرفة، وغيرها من المجموعات المعتبرة في الفضاء «الجهادي» العالمي والإقليمي.
مع اقتراب شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل تكون خمسة عقود قد انقضت على صدور الوثيقة الفاتيكانية الشهيرة المعروفة بـ«في عصرنا» «أو نوسترا إيتاتي» Nostra Aetate، التي شكلت بداية مرحلة تاريخية جديدة في نظرة وطريقة تعاطي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مع الأديان غير المسيحية عامة، والإبراهيمية (التوحيدية) منها على نحو خاص. إنها نظرة قطعت الطريق على الأصوليات الصماء العمياء التي تدعي حيازة الحقيقة المطلقة من طرف بشري دون سواه حول العالم.
في هذه الذكرى يعنّ لنا أن نتساءل عن مولد هذه الوثيقة، وكيف انبثقت إلى الوجود على هذا النحو، والذي صارت على أساسه «رأس الزاوية» في حوار أتباع الأديان حتى الساعة؟
الشاهد أن الوثيقة لم تولد دفعة واحدة خلال أعمال المجْمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، بل إنه عام 1964 كان البابا الراحل بولس السادس قد أسّس «الأمانة العامة لغير المسيحيين»، وذلك وسط أعمال المجمع، كدليل مؤسساتي على الرغبة في التلاقي والتناغم مع أتباع التراثات الدينية الأخرى في العالم.
... ما الهدف من تلك الأمانة؟
لقد حدّد الدستور المُسمّى «ريجيميني إيكليزياي» Regimini Ecclesiae مجال اختصاص هذه المؤسسة على أنه «البحث عن الوسائل والطرق الآيلة إلى فتح حوار مناسب مع غير المسيحيين، والسعي لتمكين المسيحيين من التعرّف بكل إخلاص على غير المسيحيين وتقديرهم بشكل صحيح، ولكي يتمكن غير المسيحيين بدورهم من التعرّف على التعليم المسيحي والحياة المسيحية وتقديرها بشكل كاف».
ويمكن وصف هذا الاتجاه، فكريًا، بأنه كان يمثل الخروج من دائرة استبعاد الآخر والدخول في دينامية الاعتراف بوجود «شعاع من الحقيقة ينير كل البشر». وبمعنى آخر الانعتاق من فكرة حيازة جماعة بشرية عينها لما يعرف بـ«الحقيقة المطلقة»، فالجميع لديه قبس من نور إلهي كفيل بأن ينير خطاه عبر رحلة الحياة على الأرض.
وفي السادس من أغسطس (آب) من عام 1964، عرض البابا بولس السادس في الرسالة العامة التي صدرت بعنوان «إيكليزيام سوام» Ecclesiam Suam رغبته في الانخراط في الحوار مع العالم غير المسيحي وأعرب عن تلك الرغبة في السطور التالية، إذ قال: «إننا نلاحظ من حولنا دائرة أخرى، وهذه بدورها واسعة المدى، ومع ذلك فهي أيضًا غير بعيدة عنا. تضم الدائرة أولاً وقبل كل شيء أولئك الذين يعبدون الإله الواحد العلي الذي نعبده نحن أيضًا، ويمكننا أن نذكر أولاً الشعب اليهودي الذي ما زال يعتنق ديانة العهد القديم، وهو حقًا أهل لاحترامنا ومحبتنا. وبعد ذلك لدينا أولئك العابدون الذين يعتنقون أنظمة دينية توحيدية أخرى، ديانة الإسلام بشكل خاص. ويحسن بنا الإعجاب بهؤلاء الناس من أجل كل ما هو خير وحق في عبادتهم لله».
كانت وثيقة «في عصرنا» دعوة إنسانية جامعة للبشرية، قبل عقود من الحديث عن العولمة وصراع الحضارات وتناحر الثقافات. وهنا لم يكن للكنيسة الكاثوليكية أن تفعل علاقاتها بالديانات غير المسيحية، بل إنها في نطاق مهمتها التي تقوم بتعزيز الوحدة والمحبة بين الناس، لا بل بين الأمم، نتفحّص هنا بادئ ذي بدء ما هو مشترك بين الناس ويقودهم إلى مصير واحد.
وتقرّ هذه الوثيقة في «توطئتها» أن كل الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد لأن الله هو الذي أسكن الجنس البشري بأسره على وجه الأرض كلها، ولهم غاية أخيرة واحدة وهي الله الذي يشمل الجميع بعنايته.
وتتجاوز دعوة الوثيقة فكرة الحوار، إذ تفتح أعين أصحاب التوحيد على الأسئلة الجوهرية التي لا يزال الإنسان معها حائرًا، فالبشر ينتظرون من مختلف الديانات جوابًا على الألغاز الخفية، ألغاز الوضع الإنساني، التي تهز قلوب الناس في الصميم، في الأمس كما في اليوم: ما الإنسان، ما معنى حياتنا وغايتها، ما الخير وما الخطيئة، ما مصدر الآلام وما غايتها، وما السبيل للحصول على السعادة الحقيقية، ما الموت، القضاء، والجزاء بعد الموت، ما هو أخيرًا ذلك السر النهائي الذي لا يوصف والذي يلفّ وجودنا وعنه صدرنا.
كانت هذه الوثيقة في واقع الأمر مفتتح حركة الحوار بين الأديان، لا سيما، وأنها المرة الأولى التي تتناول فيها الإسلام بنوع خاص، ففي الإعلان المجمعي المشار إليه نقرأ ما يأتي:
«إن الكنيسة تنظر إلى المسلمين أيضًا بعين التقدير، فهم يعبدون الله الواحد، الحي القيوم، الرحيم الضابط الكل خالق السماء والأرض، المكلم البشر، ويجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم حتى لأوامر الله الخفية، كما يخضع له إبراهيم الذي يسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي. وأنهم يجلّون يسوع (عيسى عليه السلام) كنبي وإن لم يعترفوا به كإله ويكرّمون مريم أمه العذراء كما أنهم يدعونها أحيانا بتقوى، علاوة على ذلك أنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كل البشر القائمين من الموت، ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية ويؤدون العبادة لله لا سيما بالصلاة والزكاة والصوم. وإذا كانت قد نشأت على مرّ القرون منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمَجمَع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بالخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة جميع الناس».
كانت الوثيقة المَجمعية هذه نتاج جهد عمل كبير لفريق من علماء الدين الكاثوليك الذي اقتربوا كثيرًا من العالم العربي والإسلامي، وجهودهم التاريخية للتقريب بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وفي المقدمة منهم الأب والمستشرق الفرنسي الأصل لويس ماسينيون الذي توفي عام 1964، عطفًا على العلامة المصري الراحل الأب جورج قنواتي الذي رحل عن عالمنا في عام 1992 من القرن المنصرم.
ويلحظ المرء قبل كل شيء أن البابا بولس السادس في رسالته التعميمية الـ«إيكليزيام سوام» Ecclesiam Suam، قد حدّد أهم ملامح الحوار الذي ترغب فيه المؤسسة الكاثوليكية الرومانية عبر العقود القادمة. وفي المقدمة منها الوضوح قبل أي شيء آخر، فالحوار يتطلب أن يكون ما يقال مفهومًا، ويمكننا التفكير في الأمر على أنه نوع من عملية نقل الفكر. وهو دعوة إلى ممارسة أعلى القدرات الروحية والعقلية التي يملكها الإنسان وتنميتها، وهذه الحقيقة تكفي وحدها لجعل هذا الحوار في مصاف أعظم مظاهر النشاط الإنساني والحضارة الإنسانية. وحتى يتسنى لنا تلبية هذا المطلب، علينا جميعًا نحن الذين نشعر بأهمية الإرسالية إجراء دراسة دقيقة لنوعية الخطاب الذي نستعمله، هل من السهل فهمه؟ هل بوسع الناس العاديين استيعابه؟ هل يستخدم مصطلحات رائجة؟
وفي مطلق الأحوال فقد تركت الوثيقة تأثيرا بالغًا في عقل وفكر الباباوات الذين ارتقوا السدّة البطرسية بعد بولس السادس، وهم بحسب الترتيب الزمني، يوحنا بولس الثاني (لم يطل المقام بالبابا يوحنا بولس الأول سوى شهر تقريبًا)، وبنديكتوس السادس عشر وفرنسيس الأول.
يحدثنا هاينريش موسنغهوف، أسقف مدينة آخن (إيكس لا شابيل) الألمانية، عن أن الكلام الوارد في الوثيقة لا يعد كلاما للاستهلاك، بل حديث له صلة مباشرة وقوية بالكنيسة الكاثوليكية وعلاقتها بالأديان، ولا سيما بالمسلمين، فمنذ ذلك الحين وهو ما يفتأ يفعم حياة، وذلك خصوصًا مع البابا يوحنا بولس الثاني الذي سعى إلى إجراء الحوار مع الأديان الأخرى، وقد فعل ذلك بقناعة تامة، وذلك بحكم أنه شاهد على معاناة شعبه البولندي أثناء الحرب العالمية الثانية وتحت الحكم الشيوعي، وقد وقف بكل شخصه مع المصالحة.
أما البابا بنديكتوس الخامس عشر، ورغم ما شاب سنوات حَبريته القليلة من سوء تفاهم بعد محاضرة رينسبورغ الشهيرة في ألمانيا، فإنه رأى أن الحوار بين الأديان والثقافات «ضرورة حياتية»، يعود لخير الإنسان، وللعالم لكي يسوده السلام والأخوة، ولكي نشهد على أهمية قيمة البعد الديني في عصر يتميز بالنسبية. هذا الحوار على حد وصفه، يساعدنا على التغلب معًا على جميع التوترات بروح من التعاون المثمر. ولعل خير دليل على اعتقاد بنديكتوس الخامس عشر بأهمية الحوار، ما قاله أثناء زيارته التاريخية إلى جزيرة قبرص من الرابع إلى السادس من يونيو (حزيران) 2010 من أن «المسلمين أخوة لنا، وعلينا أن نشجع على رؤية مشتركة للحوار معهم».
والمؤكد أنه بوصول البابا فرنسيس الأول - وهو أرجنتيني - إلى كرسي القديس بطرس، فإن الرجل يبدو في بساطته منفتحًا بشكل تلقائي على العالم أجمع، لا سيما الفقراء والمستضعفين والمقهورين في ظل الرأسمالية المتوحشة التي تدور من حولنا، وكثيرًا ما سمعناه يتحدث عن العالم العربي والإسلامي بلغة إنسانية قريبة إلى قلوب سامعيه، ولا مغالاة إن قلنا إنه باتت للبابا الحالي شعبية واضحة في العالم الإسلامي من خلال مثال حياته المتواضع والبسيط للغاية.
هل مضت مسيرة الحوار عبر العقود الخمسة المنصرمة كما كان يجب لها أن تمضي؟
الثابت أنه طوال نصف القرن الماضي اتخذ الحوار بين أتباع الأديان أشكالاً ومسارات مختلفة تتراوح حصيلتها بين الإيجابي والسلبي، عاشت لحظات انتصار كما عرفت أيضًا فترات مليئة بالكبوات. لكن الحقيقة التي تقال هي أن مناخًا جديدًا للحوار قد طرأ على الساحة الإنسانية لم يكن موجودًا قبل الوثيقة، فعلى حد تعبير الدكتورة كلير آموس، منسقة ببرنامج حوار الأديان والتعاون في مجلس الكنائس العالمي في جنيف سابقًا: «إن الحوار لم يعد جدلاً لاهوتيًا أو فقهيًا، بل هناك حوار الحياة اليومية كما يجري بين سيدة مسيحية وسيدة مسلمة تصطحبان طفليهما إلى المدرسة معًا، وتتحدثان في شواغل الحياة، وهناك حوار النشاط الاجتماعي لمكافحة الأمراض والأوبئة على سبيل المثال، وهناك حوار الأديان، وهو الحوار الذي يحاول فيه باحثوه وعلماؤه تعميق الفهم بخفايا ما هو مشابه وما هو متباين بين الأديان. وهناك أخيرًا الحوار فيما يطلق عليه التجربة العقائدية وهي التجربة التي يحاول فيها هذا الطرف معرفة حقيقة التجربة العقائدية لدى الطرف الآخر.
في أواخر يوليو (تموز) الماضي عقد في روما لقاء بدعوة من المجلس الدولي للمسيحيين واليهود، وتخللت اللقاء مداخلة للكاردينال كورت كوخ، رئيس اللجنة المعنية بالعلاقات الدينية مع اليهود، حيث تذكّر الجميع هذه الوثيقة التي غيرت من مسار النظرة الكاثوليكية ليهود العالم. غير أن لقاءً مشابهًا مع العالم الإسلامي لم يحدث حتى الآن، إذ يبدو أن ثمة إشكاليات داخلية منذ زمن الربيع العربي تعيق التفكير فيها هو أبعد من المشاحنات والتطاحن والقتال الداخلي.
أفضل كلمات يمكن أن نختتم بها تعليقنا على الوثيقة في الذكرى الخمسين لصدورها، نستعيرها من كتاب المفكر والصحافي البولندي ريتشارد كابوشينسكي، والمعنون بـ«هذا الآخر» Ten Innyوعنده أن «كل لقاء مع الآخر هو لغز، وسير نحو المجهول، بل سرّ نتعلم منه على وجه الخصوص أننا مسؤولون عن السفر الذي نقوم به».
وبصيغة أخرى، فإن هذا الآخر الذي يبهرنا اللقاء به أو يزعجنا أو يضعنا في حيرة، يتوقف علينا في نهاية المطاف، يتوقف على مقارتنا ونظرتنا وفضولنا، يتوقف على العناية التي نخصه بها، يتوقف على رفضنا الاستسلام للمبالاة التي تولد مناخًا يمكن أن يؤدي بنا إلى «محرقة أوشفيز» من جديد.
8:17 دقيقة
قراءة قطعت الطريق على أصوليّة {مالكي الحقيقة المطلقة}.. وغيّرت مسار العلاقات بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة
https://aawsat.com/home/article/436686/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%82%D8%B7%D8%B9%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B5%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%84%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%BA%D9%8A%D9%91%D8%B1%D8%AA-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D9%8A%D9%86
قراءة قطعت الطريق على أصوليّة {مالكي الحقيقة المطلقة}.. وغيّرت مسار العلاقات بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة
50 سنة على البيان المَجْمعي «في عصرنا»
- القاهرة: إميل أمين
- القاهرة: إميل أمين
قراءة قطعت الطريق على أصوليّة {مالكي الحقيقة المطلقة}.. وغيّرت مسار العلاقات بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة