يشكِّل «كتاب المكاريد» لمحمد غازي الأخرس، الصادر عن دار «التنوير» بدمشق، علامة مميزة في مواجهة الذات الاجتماعية العراقية المهمشة أو المقصيّة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وحتى سقوط بغداد على يد القوات الأميركية في 9 أبريل (نيسان) 2003.
وقبل الولوج في تفاصيل هذا الكتاب الممتع والمستفِّز والجريء لجهة تعاطيه مع ثيمات محجوبة أو مسكوت عنها في الأقل، كالمظلومية والطائفية والعزل الاجتماعي، الأمر الذي دفع هذه الشريحة الواسعة للولاء للقبيلة وليس للدولة، والاحتكام للعرف العشائري وليس للقانون.
أطلق محمد الأخرس على هؤلاء الناس المظلومين منذ عهد الإمام علي (رضي الله عنه) وحتى الآن صفة «المكاريد»، وهي تسمية مشتقة من المحكية والفصحى في آنٍ معا. فالمكرود، كما يذهب الأخرس، تعني قليل الحظ أو سيئه، ثم توسعت هذه الكلمة لاحقًا لتعني الفقير ماديًا والمسكين معنويًا. وأكثر من ذلك فقد أرجعها إلى كلمة «مشكينو» السومرية ومنها أعادها إلى كلمات «خايب» أو «خطيّة» التي تعني الإنسان الذي لا ينتظر فرجًا ولا يتوقع مخرجًا.
يتتبع محمد الأخرس في الفصل الأول الذي انضوى تحت عنوان «مدخل ملون.. رايات ترفرف وهويات تتصارع» هجرة مجاميع واسعة من سكان الجنوب واستقرارهم في أطراف العاصمة بغداد هربًا من استغلال الإقطاعيين وقسوتهم، غير أن صدمتهم الأولى تمثلت بعزلهم في الهامش، ومنعهم من العيش داخل متن المدينة كي لا يشوهوا منظرها الجميل، ويخلوا بتناسقها الهندسي اللافت للأنظار، فلا غرابة أن يطوقوا بغداد ببيوت بدائية عشوائية يطلق عليها اسم «الصرايف»، وهي تسمية سومرية. وقد اقتبس الكاتب من حنّا بطاطو معلومة مفادها «أن هناك 16 ألف صريفة بناها (الشراكوة) في تسع مناطق من بينها الشاكرية، والعاصمة، وخلف السدّة، والثورة وأم العظام». وقد تذكِّر هذه الصرائف بأول أكواخ القصب التي بناها السومريون قبل آلاف السنين.
يشكّك الكاتب في الهوية الوطنية للعراقيين ويعتقد بهيمنة الهويات الفرعية التي تطل برأسها كلّما اضطرب الأمن أو غابت الدولة لبعض الوقت، ويستشهد بإبادة الأقليات أو محاولات تذويبها في النسيج الوطني، كما هو الحال في مذبحة الآشوريين في الديره بون عام 1934، وسواها من المآسي التي تعرّضت لها المكوّنات الفرعية الصغيرة. لا يجد الكاتب حرجًا في القول إن العراقيين طائفيون، وغير متسامحين، ويسخر من الذين يعتقدون أن مرتكبي الجرائم والتفجيرات ليسوا عراقيين وأن جلّهم قادم من وراء الحدود، وكأن لسان حاله يقول: «هؤلاء القتلة هم من دمنا ولحمنا ونسيجنا الاجتماعي المتشظي إلى هويات متنافرة». ومنْ يعتقد غير ذلك فهو مخدّر أو منوّم مغناطيسيًا كما يذهب علي الوردي.
يلج الكاتب إلى سرداب المكاريد واصفًا ملامحهم الخارجية الراسخة في الحزن وكأنها خطت بأقلام الفحم، يأكلون ما تيسّر من الطعام، ويتساءلون باستغراب شديد: «هم هاي دنيا وتنكظي وحساب أكو تاليها؟».
تكمن جرأة محمد الأخرس في صدقه وصراحته الشديدة فحينما يخاطب صدام حسين يقول له: «أنت من جعلتنا نطرب (للرادود) باسم الكربلائي، ونحتمي بطوائفنا، مصغين بكل جوارحنا إلى نداء البربرية العميق» (ص110). لا يجد الكاتب حرجًا في القول إن خاله، وهو أحد وجهاء المنطقة، كان يصعد إلى حوض «البيك آب» ويهتف لصدام في حربه ضد إيران. وأكثر من ذلك فقد شاهد جده وهو يهوّس لصدام أمام القصر الجمهوري وحينما عاد خاطبه ساخرًا: «ما هذه اللواكة يا جد؟».
على الرغم من عنف السلطة وقسوتها على المهاجرين المكاريد تحديدًا، فإنها كانت تترك مساحة للتنفيس عن الغضب الذي يغلي في نفوس العراقيين حيث كنا نسمع المنولوجيست علي طاهر وهو يتهكم من أشياء كثيرة وبعِلم السلطة، كما شاعت «فراكيات» جلّوب الدراجي الذي فجع بمقتل أخيه في الحرب العراقية الإيرانية.
في الفصل الرابع «حكايات من شرق عدن»، يشير الكاتب إلى أن الوظائف الحكومية كانت نادرة في أربعينات القرن الماضي، وأن مهارات المهاجرين الجنوبيين وخبراتهم المتواضعة لم تتِح لهم سوى امتهان أبسط الأعمال لذلك تحولت مضاربهم إلى حاضنة للثوار، وبؤرة للحركات السياسية والثقافية الناقمة على السلطة البعثية التي يناوئها الشيوعيون من جهة، وتعاديها الحركات الإسلامية من جهة أخرى.
ويشير الأخرس إلى أن الجنوبيين كانوا حالمين، ويتوفرون على قدر كبير من الأريحية، يكتبون الشعر، ويعزفون الموسيقى، ويغنون المواويل، ويمارسون الطقوس العاشورائية بمغالاة واضحة، فلا غرابة أن يغيروا طقاطيق رضا علي، ويقلبوا فضاء الشعر الشعبي رأسًا على عقب؛ فلم نعد نسمع «يم العيون السود ما جوزن أنا»، بل «جاوبني تدري الوكت بوكاته غفلاوي»، ثم امتدّ هذا التأثير بعد عقد من السنوات إلى المسرح والتشكيل والرقص والشعر الفصيح وكرة القدم وما إلى ذلك، لكنهم ظلوا يعيشون في مستوطنة القبيلة أكثر من عيشهم في ربوع الوطن وتحت راية الدولة.
يمارس الجنوبيون طقوسهم العشائرية في مستوطناتهم الجديدة حيث يسدّون الشوارع في الأعراس والعزاءات والمناسبات الدينية، ولعل أجمل ما تناوله الكاتب في هذا الفصل هو الأمثال الشعبية، وبعض مفردات اللغة المحكية التي يتداولها أبناء الجنوب. وإذا كان عبد الكريم قاسم قد سمح بهجرة الجنوبيين إلى بغداد، فإن صدام قد سمح هو الآخر بهجرة الغربيين إلى بغداد لكنهم تماهوا مع الدولة ولم يلوذوا بالقبيلة. صحيح أن الحجاج قال: «إن الموالي علوج، وقراهم أولى بهم»، والعِلج هو «الشديد الغليظ» لذلك منع سكنهم في الحواضر، ووسم جباههم، ونقش أسماء قراهم على أيديهم، وحظر عليهم الزواج من العرب، وهي إجراءات عنصرية بامتياز، لكن هذا الأمر لم يحدث مع الجنوبيين ولا الغربيين.
يحمل الجنوبيون غنى واضحًا في أرواحهم من فنون وطقوس وآداب شعبية، ولعلهم أول من فتح مقاهي لتعاطي الغناء الريفي في المدينة، وبدأ مطربو الريف، أمثال حضيري أبو عزيز وداخل حسن ومسعود العمارتلي ينافسون مطربي بغداد كالقبانجي ويوسف عمر وعفيفة إسكندر ويسرقون منهم الأضواء.
في الفصل السادس من الكتاب، يشيد المؤلف بإصلاحات مدحت باشا الذي أدخل الكثير من المظاهر المدنية إلى بغداد. وينتقد في الوقت ذاته الحصري وسامي شوكت اللذين أدلجا التربية والتعليم، محاولا في الفصل الأخير أن يتتبع خطى سلفه الوردي في رصد العنف اللغوي في الثقافة التي سيّدت المذكر، وحزّت تاء التأنيث من عنقها.
لقد نجح محمد الأخرس في النزول إلى سرداب المجتمع العراقي، وعرض المحجوب من قضاياه وإشكالاته على قارعة الطريق.
«مكاريد العراق» لا ينتظرون فرجًا ولا يتوقعون مخرجًا
محمد الأخرس ينزل إلى سرداب المجتمع العراقي
«مكاريد العراق» لا ينتظرون فرجًا ولا يتوقعون مخرجًا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة